في مبادرة الإدارة الذاتية وأصدائها سوريا
محمد عيسى
بعد أن تضاربت التقديرات واختلفت وجهات النظر حول ما أسفر عنه اللقاء الرباعي الأخير في موسكو لوزراء الدفاع وقادة الأجهزة الأمنية لكل من دول روسيا، تركيا،إيران وسوريا من تحقيقه نتائج، عكستها المقاربات الإعلامية المتباينة في كل من سوريا وتركيا حول ماتم بحثه، والتركيز عليه، وحول أجواء اللقاء.
وفي حين ركز الإعلام السوري على أن اللقاء بحث في أهمية الانسحاب التركي من الأراضي السورية، وفي أولوية فتح الطريق الدولي (M4)كتدليل على حسن النوايا التركية، فقد ذهب الإعلام التركي للقول إن اللقاء بحث في مسألتين؛ الأولى سُبُل تسريع التطبيع بين دمشق وأنقرة، والثانية عودة اللاجئين.
ولأن عوامل فشل اللقاء هي الأكثر ترجيحاً والأقرب للواقع؛ فقد بات مفهوماً الآن كَثرة الحديث عن احتمال أن تقوم أنقرة بشن عملية عسكرية على مدن شمال وشرق سوريا، وخاصة أن موعد الانتخابات التركية قد صار على موعد وشيك ويستلزم تحقيق إنجاز تتوهَّمُأنقرة أنه مُتاحٌ، وأن النجاح في تحقيقه في متناول اليد دوماً.
في هذه اللحظة الحرجة التي تتميز بانفراغ الطاقة في مدخرة الخيارات الروسية والإيرانية بخصوص الدفع بعجلة التسوية مع أنقرة، ومن ثم المساهمة بتقديم حل معقول للقضية السورية،ينصرف الوقت والاهتمام إلى المبادرة العربية، التي تمثل الخطة السعودية رأس الحربة فيها.
هذه الخطة التي تُعنى بوضع خارطة طريق للحل يعتمد في جوهره على التعاون مع سلطات دمشق وجميع الأطراف الفاعلة على المستوى الوطني، لإنجاز تغيير سياسي ودستوري في بنية الدولة السورية وفي هياكلها، بالانطلاق من روحية القرار الدولي /2254/.هذه المبادرة التي لا تتعارض، لمن يمحص في بنودها، مع المبادرة الوطنية الداخلية التي أطلقتها الإدارة الذاتية قبل أيام قليلة، والتي لا يصح النظر اليها إلا على أنها رجع صدى داخلي جاد ومسؤول حيال الجهود العربية والدولية المتجهة اليوم إلى طيِّ صفحة المعضلة السورية، التي أنهكت جميع الأطراف المعنية فيها.
والمبادرة تمثل في بنودها التسعة جهداً هاماً وفرصة تستدعي المتابعة والاهتمام، ليس لأنها تصدر عن جهة وطنية سورية معنيّة بالأزمة؛ بل لأنها أيضاً قوة مادية تملك دوراً وثقلاً سياسياً وعسكرياً، وتملك نفوذاً وسيطرة فعلية على ما يقرب من ربع مساحة البلاد، ويقع في متناولها جزء كبير من موارد البلاد،ولها دور فعّال حاسم في مكافحة الجائحة الإرهابية التي ابتلى فيها الوضع السوري ممثّلا بـ”داعش والنصرة”،أضف إلى أنها صاحبة رؤية لمستقبل سوريا، وتطرح مشروعاً لسوريا واحدة ديموقراطية ولا مركزية، علاوة على امتلاكها صلات وعلاقات بالمجتمع الدولي ومؤسساته.
وعليه، يمكن التكهن بأن المبادرة من حيث الشكل أولاًستكون محطَّ اهتمام إعلامي وسياسي كبير، ومن حيث المضمون تالياً ستشكل تطوراً غير مسبوق يؤشر إلى نضج عوامل الحل الواقعي والموضوعي في الأزمة، لأنها وفي مستهل بنودهاتقدم دعوة السوريين بكل تعبيراتهم وفصائلهم، وفي المقدمة منهم دعوة سلطات النظام في دمشق إلى الحوار الجاد بغاية التوافق على مخارج لحالة الانقسام والصراع الدائر، على أن ترتيبات الحل وخطواته مهتديةبمدرجات القرار الأممي /2254/.
تلامس المبادرة بعد ذلك نقطة جوهرية، كانت مثار لغط كبير، وتتصل بالموارد والثروات، من نفط وغاز وحبوب، حيث تحدد بشكل واضح لا لُبس فيه أنها من حق جميع السوريين، وتقول إنها مع توزيع عادل لهذه الثروات. وتضيف حول شكل الدولة المنشودة، سوريا واحدة ديمقراطية لامركزية، تحترم فيها الهويات الثقافية والدينية لكل مكوناتها، فيما يعد قطعاً مع مفهوم الدولة القومية القائم، والذي شكل مصدر خلاف دائم بين المكونات السورية وأحد أسباب انطلاق الثورة.
تدعو المبادرة جامعة الدول العربية إلى أخذ دورها في حل الأزمة السورية، وإلى النهوض بمسؤولياتها في مساعدة السوريين على تجاوز محنتهم.
وفي ذلك إشارة واضحة إلى نظرة الإدارة الذاتية إلى سوريا على أنها جزء من محيطها العربي، لكنها ليست عربية خالصة وليست للعرب وحدهم.كما تدعو الأمم المتحدة إلى أخذ دورها أيضاً في الأزمة والقيام بواجبها حيال الشعب والدولة السورية.
وأيضا ترحب الإدارة الذاتية،من خلال المبادرة،بعودة من يرغب من اللاجئين السوريين إلى مناطق نفوذ الإدارة.
وفيما يعد نقطة تيقّظ في المبادرة؛ لناحية الشكوك في النوايا التركية، تقول سيكون من حقنا، بل ومن واجب الجميع، التصدي لأي خطة عدوان تركية على الأراضي السورية وعلى مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية.
على ضوء ما تقدم؛ ما هي مفاعيل هذه المبادرة، وما هو الجديد الذي قد تضيفه أو تحركه في واقع الصراع،أو هل ستكون تلك الحجرة التي تحرك المياه الراكدة؟
لا شك بأنها ستشكل،أو قد تكون شكلت، ومنذ اللحظات الأولى لانطلاقها عامل دفع جديد،أو تطوراً في معادلات الصراع يمكن البناء عليه عند الشروع باتخاذ خطوات ملموسة لحل الأزمة، وذلك على أصعدة عدة.
فهي مثلاً، وعلى الساحة الداخلية، وعندما تفتح أبوابها لعودة اللاجئين إلى مناطق نفوذها، تكون قد قدمت خياراً وطنياً مرناً لحدوث توافق وطني شامل، يمكن لأطراف النظام في دمشق والمعارضة الوطنية، بجميع توجهاتها،أن تجد نقطة ارتكاز أو قاعدة انطلاق، يمكن أن تحقق من خلالها أهدافها أو بعضاً منها، وذلك من خلال التوجه إلى سوريا جديدة ديمقراطية ولا مركزية عادلة، ولجميع أبنائها.
عندما تقدم برنامجاً لعمل وطني واضح المعالم، فهي بذلك تكون قد وفّرت للجهود العربية والدولية الساعية لحل أزمة الصراع، حافزاً جديداً وأكسبتها ديناميكية خاصة، إضافة إلى أنها تبدد وتدحض المخاوف التي أثيرت حول وظيفة مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) التكوينية، وفيما يتعلق بنزعات انفصالية،أو ما يسوقه الأتراك من مزاعم أو سمات إرهابية، تتصل باهتمامها أو بطبيعة مشروعها.
وليس هذا فقط؛ بل تفضح وتُعرّي نزعة التوسع والقضم عند الأتراك للأراضي السورية، وتقطع الطريق والحجج عن أية خطط لتنفيذ اعتداءات جديدة.
تلامس مبادرة الإدارة الذاتية نقطة وجع هامة،أرَّقَت وكانت تؤرّق على الدوام سكينة الشعب السوري، وتتعلق بالموارد والثروات الوطنية وطريقة توزيعها كالنفط والغاز وغيرها، عبر الإشارة الصريحة إلى أنها من حق الشعب السوري، ومع توزيع عادل لها في كل مساحة الأرض السورية، فهي بذلك تضيء على حلم الشعوب بالعدالة وتُبشّرها بوطن الخير والعدالة، في لحظة تزداد فيها قناعة البشر أن لا قيمة لوطن لا يشعر به المواطنون بالعدالة والدفء.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..