موسكو وفشل الجمع بين أعداء الأمس
جميل رشيد
عُقِدَ في العاصمة الرّوسيّة موسكو قبل أيّام، اجتماعٌ ضَمَّ كُلّاً من وزراء دفاع روسيّا، تركيّا، إيران وسوريّا، وبمشاركة رؤساء الاستخبارات في الدّول الأربعة، لمواصلة المباحثات حول تطبيع العلاقات بين الحكومة السُّوريّةوتركيّا.
مارس الرَّئيس التُّركيّ رجب طيّب أردوغان شتّى أنواع الضغوط على بوتين للإسراع في عمليّة تطبيع العلاقات بين بلاده والحكومة السُّوريّة، لاستثمارها في حملته الانتخابيّة، وقطع الطريق أمام المعارضة، التي طالما لوَّحَت بورقة استئناف العلاقات مع سوريّا وإعادتها إلى سابق عهدها، وحَلِّ مسألة اللّاجئين على الأراضي التُّركيّة.
فالرَّئيس التُّركيّ الذي بدأت شعبيّته تتدهور عشيَّةَ الانتخابات الرِّئاسيّة والبرلمانيّة المُزمع إجراءها في 14 مايو/ أيّار القادم، بات يبحث عن تحقيق نصر خارجيٍّ، ليوظِّفَه في الانتخابات، وأوَّلها إتمام مسار المصالحة وتطبيع العلاقات مع سوريّا، وكذلك التَّلويح بشَنِّ عدوانٍ جديدٍ على مناطق شمال وشرق سوريّا، كما قال مستشار أردوغان إبراهيم كالن، وهو ما يبدو من خلال المناخ الدّوليّوالإقليميّ السّائد، غير ممكنة، فهو يسعى إلى تحقيق ذلك عبر دفع الحكومة السُّوريّة وإيران وأيضاً روسيّا، لفتح جبهة صراع مع الإدارة الذّاتيّة وقوّاتسوريّاالدّيمقراطيّة، وهي أيضاً عاجزة عن تحقيق الرَّغبة التُّركيّة، نظراً لتشابك الخيوط على السّاحة السُّوريّة، والحضور الأمريكيّ المُكثَّف، والذي أخذ حالةً أكثرً جدّيةً بعد الهجمات الإيرانيّة على بعض قواعدها في دير الزور وديرك، شمال وشرق سوريّا.
إنَّ تحقيقَ أيّ مصالحة بين تركيّا وسوريّا، خاضعة بالدَّرجة الأولى لشروط وطنيّة سوريّة لا يمكن لأيّ حكومة سوريّة أن تتجاهلها وتَغُضَّ النَّظر عنها، وأوَّلها يتعلّق بإتمام عمليّة الانسحاب من الأراضي السُّوريّة، وإنهاء احتلالها لها، وهي عمليّة تتجاوز في بعدها الوطنيّ مسألة مصالح الأنظمة، لتكون أمام استحقاق وطنيٍّ يقضي بإزالة آثار الاحتلال وكُلِّ مرتسماته وذيوله على الأراضي السُّوريّة، وبما يحفظ للسُّوريّين أصالتهم وكينونتهم، ويسمح بعودة كريمة لأهاليها المُهجَّرين منها بفعل الاحتلال، وتُعيدُ الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الاحتلال، وهذا أقَلُّ الشُّروط التي يمكن فرضها، مقابل القبول بتطبيع العلاقات مع دولة احتلَّت أراضي دولة جارّة، ومارست أبشع أنواع الانتهاكات والتغيير الدّيمغرافيّ ضُدَّ سُكّانها الأصليّين وهَجَّرتهم من مناطقهم.
ظهر حجم البَونِ الواسع والتّناقضات في المواقف والرّؤى بين كُلٍّ من تركيّا والحكومة السُّوريّة، من خلال التَّصريحات التي صدرت عقب الاجتماع عن وزارتي الدِّفاع في البلدين. ففي حين ادَّعت وزارة الدِّفاع التُّركيّة أنَّ الاجتماع ركَّزَ على سُبُل “مكافحة الإرهاب”، وتشير فيها إلى محاربة قوّاتسوريّاالدّيمقراطيّة ووحدات حماية الشَّعب والإدارة الذّاتيّة، وكذلك ضمان أمن تركيّا، بالتَّشارك بين قوّات البلدين، فإنَّ صحيفة “الوطن” السُّوريّة، المُقرَّبَة من الحكومة السُّوريّة، ذكرت نقلاً عن مسؤول في وزارة الدِّفاع بأنَّ الوفد السُّوريّ المشارك في الاجتماع شَدَّدَ على المطالبة بانسحاب القوّاتالتُّركيّة من الأراضي السُّوريّة، ووضع آليّات الانسحاب وجَدوَلٍ زمنيّ له، وكذلك تطبيق الاتّفاق المُتعلّق بفتح الطريق الدّوليّ المُسمّى بالطريق (M4)، قبل الحديث عن تطبيع العلاقات، مؤكِّداً أنَّ المجتمعين لم يبحثوا ملفّات أخرى.
ثمة تناقض صارخ وكبير بين التَّصريحين، ويشير إلى أنَّ أزمة الثِّقة بين الطرفين لازالت موجودة بكُلِّ قوّة، ولم تتمكَّن روسيّا من جَسْرِ الهُوَّةِ بينهما، رغم الضغوط الكبيرة التي مارستها على الحكومة السُّوريّة لحملها على القبول والمشاركة في الاجتماعات الثّنائيّة. فمحاولات أردوغان وحزبه توظيف اللّقاءات مع المسؤولين السُّوريّين في حملته الانتخابيّة، وإخراج نتائجه وفق سيناريو تخدم مصالحه، ويترك في ذات منافذ لنفسه للتَهرُّب من أيّ استحقاقات تفرض انسحاب قوّاته من سوريّا، وقطع الدَّعم عن الفصائل التي تدعمها، إلا أنَّه، ووفق التَّسريبات التي صدرت عن الاجتماع، أنَّه، أي الاجتماع، رَكَّزَ على عمليّة الانسحاب فقط، دون غيرها من الملفّات الأخرى، وهي طالما تُشكِّلُ أولويّة بالنِّسبة للحكومة السُّوريّة والشَّعب السُّوريّ، على حَدٍّ سواء، وهو ما لم يتمكَّن الوفد التُّركيّ، بما فيهم وزير الدِّفاع، من إعطاء إجابة شافية ووافية حول تحديد زمن الانسحاب، وحاول مَرَّةً أخرى المماطلة وربط الانسحاب بما سمّاه “مكافحة الإرهاب” وضمان أمن تركيّا، حسب مراقبين في العاصمة الرّوسيّة موسكو، ولم يتمكَّن وزير الدِّفاع الرّوسيّ سيرغي شويغو من تقريب وجهات النَّظر بين الطرفين، ما أسفر عن إنهاء الاجتماع دون الوصول إلى نتائج تُذكر، على أن يُعاد في الثّاني من الشَّهرِ القادم.
كذلك عمدت وزارة الدِّفاع الرّوسيّة إلى استخدام المراوغة والمواربة والتَّغطية على فشلها في رعاية المفاوضات بين الوفود المشاركة، عبر الادِّعاء بأنّ الاجتماع كان “إيجابيّاً”، واكتفت بالقول بأنَّه، أي الاجتماع، رِكَّزَ على مكافحة كُلّ أشكال الإرهاب على الأراضي السُّوريّة، والحفاظ على وحدتها. وتحاول روسيّا مَدَّ يَدِ الإنقاذ لأردوغان في الانتخابات عبر إتمام صفقة المصالحة مع الحكومة السُّوريّة، على غرار صفقات أستانا وسوتشي السّابقة، ولا تبالي بمصير السُّوريّين، بل تحاول من خلال تركيّا إنقاذ نفسها من براثن الحرب التي تورَّطَت فيها بأوكرانيا، وكذلك جَرَّتركيّا إلى حلفها، وإبعادها عن حلف النّاتو.
من جانبها التزمت إيران جانب الحذر والصَّمت، كعادتها، ولم يصدر عنها أيُّ تفسيرٍ أو تعليقٍ حول مشاركة وفدها في الاجتماع الرُّباعيّ، وهي الأخرى تسعى إلى الاستفادة من تطبيع العلاقات بين تركيّا وسوريّا، لترسيخ وشرعنة تواجدها على الأراضي السُّوريّة، ومحاربة التواجد الأمريكيّ، عبر الضغط على قوّاتسوريّاالدّيمقراطيّة والإدارة الذاتية، لتتمدَّدَ هي أكثر في الأراضي السُّوريّة. فهي تمارس سياسة “ضرب الخَّصم بالخَّصم”، عبر تأليب تركيّا ضُدَّ الولايات المتّحدة في سوريّا، وبالتالي محاولة لَيِّ ذراعها وحَملها على الانسحاب من الأراضي السُّوريّة.
إلا أنَّ وزير الخارجيّة التُّركيّ مولود جاويش أوغلو، وحتّى قبل انعقاد الاجتماع، أدركَ أنّه لن يُفضيَ إلى نتائج سريعة مثلما يتوقَّعها البعض، فسارع إلى الكشف عن الوجهِ الحقيقيّ للسِّياسة التُّركيّة حيال عمليّة التَّطبيع، وقال بأنَّ أيّ انسحاب تركيّ من الأراضي السُّوريّة لن يَتُمَّ قبل إنهاء عمليّة مكافحة الإرهاب، على أن تنسحب قوّاتسوريّاالدّيمقراطيّة ووحدات حماية الشَّعب مسافة /30/ كم من الحدود السُّوريّةالتُّركيّة، وكذلك حَلّ مسألة اللّاجئين المتواجدين على أراضيها، وهي تعتبر شروطاً تعجيزيّة، وتهرُّباً من استحقاقات الانسحاب من الأراضي السُّوريّة وإنهاء احتلالها لها.
وفي حين لم يصدر أيُّ رَدُّ فعلٍ من المعارضة السُّوريّة الموالية لتركيّا؛ فإنَّ بعض وسائل الإعلام التّابعة لهاسرَّبت، بأنَّتركيّا بدأت بتجميد أصول ماليّة لبعض قادة المعارضة المتواجدين على أراضيها وإغلاق شركاتهم، متذرِّعَة بالتورُّط في دعم تنظيم “داعش” الإرهابيّ، مثل “جيش الإسلام”. غير أنَّ الصحيح؛ هو أنَّتركيّا بدأت، كضربة استباقيّة منها، وكإحدى استحقاقات عمليّة التَّطبيع مع الحكومة السُّوريّة، بتفكيك فصائل المعارضة السُّوريّة الموالية لها، عبر التَّلويح بعلاقاتها مع تنظيم “داعش”، مقابل الضَّغط عليها للقبول بالتَّطبيع مع الحكومة السُّوريّة، فهي تحاول بهذه الطريقة تَدجين المعارضة السُّوريّة، وفرض التَّطبيع عليها رغم أنفها، وإلا أنَّها ستَكشِف المستور عن علاقاتها وتورُّطها في العديد من المَلفّات القذرة.
المؤكَّد أنَّ أيَّعمليّة تطبيع للعلاقات بين سوريّا وتركيّا، إن حصلت، مرتبطة بعدد من الملفّات الإقليميّة والدّوليّة، وأوَّلها الحرب الرّوسيّة في أوكرانيا، ووجود تركيّا ضمن حلف النّاتو، وطبيعة ومستوى علاقاتها مع الدّول الغربيّة وخاصَّةً الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وكذلك انعكاس الانفتاح العربيّ على سوريّا، والمبادرة التي طرحتها الأردنُّ لحَلِّ الأزمة السُّوريّة. فلا يمكن أن تَتُمَّ المصالحة بين الطرفين على غرار صفقة بيع وشراء، وبمعزل عن هذه التأثيرات، أو أن تجد فيها تركيّا مناسبة لتجديد اتّفاقيّة أضنه، وتجعلها أضنه ثانية، تفرض فيها شروطها المُجحِفة على الطرف السُّوريّ، رغم حالة الوَهن التي تَعتري سوريّا حكومة وشعباً، فهناك ثوابت وطنيّة لا يمكن بأيِّ حالٍ من الأحوال القفز فوقها، والهرولة نحو تطبيع العلاقات مع تركيّا، وكأنَّ شيئاً لم يكن، فتركيّا شريكة في الدَّمار الحاصل في سوريّا منذ بداية الأزمة وإلى الآن، فإن كان بمقدورها أن تصنع انعطافات واستدارات بجميع الاتّجاهات، وفي زَمن قياسيٍّ، فإنَّ هذه الاستدارة ستكون مُكلفة، وقد يكون ثمنها رأس النِّظامُالتُّركيّ.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..