أردوغان والانتخابات.. خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الخلف
جميل رشيد
تَحتدِمُ في تركيّا المعركة الانتخابيّة بين جميع الأطراف والقوى، إن كانت بين النِّظام الحاكم المُمثَّل بتحالف حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان وحزب الحركة القوميّة بقيادة دولت بهجلي، أو حزب الشَّعب الجمهوريّ حيث يتصدَّر كمال قليجدار أوغلو التّحالف السُداسيّ المعارض، فيما الطرف أكثر ثقلاً وحساسيّة والذي قد يقلب كفَّة الانتخابات للتَّحالف الذي يدعمه، هو حزب الشُّعوب الدّيمقراطيّة، رغم أنَّه سيشارك في الانتخابات باسم حزب اليسار الأخضر والتَّحالف الذي يَضُمُّ عِدَّة أحزاب ضمن تحالف “الجُهد والحُرّيّة”.
ففيما يتطلَّع الرَّئيس التُّركيّ إلى تحقيق نصر كبير في الانتخابات البرلمانيّة والرِّئاسية المزمع إجراءها في 14 مايو/ أيّار القادم، والفوز بالأغلبيّة البرلمانية، إلى جانب طموحه في الاحتفاظ بمنصبه في رئاسة الجمهوريّة، وقطع الطريق على المعارضة في منع إجراء أيّ تغيير في شكل الحكم أو إعادته إلى سابق عهده، وهي الورقة التي تُلوِّحُ بها المعارضة.
وتتباين الخارطة الانتخابيّة في تركيّا قُبيلَ الانتخابات، بفعل عوامل عديدة أثَّرت – وتؤثِّر – في مزاج النّاخبين؛ أوَّلُها كارثة الزِّلزال الذي وقع في السّادس من فبراير/ شُباط الماضي، وكذلك تدهور قيمة اللَّيرة التُّركيّة أمام الدّولار الأمريكيّ، ودخول الاقتصاد التُّركيّ في فترة انكماش حقيقيّ، مع رفع مُعدّلات الفائدة، وحالة الفقر والبطالة التي تعيشها قطّاعات واسعة من المجتمع التُّركيّ، فضلاً عن الانعكاس السّلبيّ للسِّياسات الخارجيّة التي انتهجتها الحكومة الحالية على الدّاخل التُّركيّ، بفعل تدخُّلاتها اللا شرعيّة في دول عديدة، وأوَّلها سوريّا. فالمعارضة التي تهدِّدُ بورقة اللّاجئين السُّوريّين ضُدَّ أردوغان وتحالفه، وتدَّعي بأنَّها ستُنهي هذا المَلفّ غَداة استلامها الحكم في تركيّا، وستخفِّفَ العبءَ عن المواطن التُّركيّ، إلى جانب تطبيع العلاقات مع الحكومة السُّوريّة.
في غمرة البروباغاندا الانتخابيّة التي تتعالى أصداؤها في البلاد؛ يَستمرُّ أردوغان في انتهاج سياسة براغماتيّة مُفرطة إزاء العديد من القضايا المصيريّة في تركيّا والمنطقة، مع الحفاظ على نهجه السّابق ومقارباته إزاء العديد من الملفّات التي تورَّط فيها، رغم ادّعائه أنَّه بصدد تحقيق انعطافة جذريّة حيال العديد من الأزمات الضالع فيها حتّى العنق، مثل الأزمة السُّوريّة والعلاقات مع دول الخليج ومصر، وكذلك مع الدّول الغربيّة ودور تركيّا في الحرب الرّوسيّة بأوكرانيا أيضاً.
ظهر من خلال الحملة الانتخابيّة لأردوغان وحزبه أنَّه يعيش حالة تراجع وإحباط، لجهة فقدانه الزَّخم الشَّعبيّ السّابق. ففي مهرجان انتخابيّ في مدينة آمد/ ديار بكر لوزير العدل التُّركيّ، ظهر الحضور الخجول والمحدود لمؤيديه، كما أنَّ أردوغان نفسه الذي يستثمر في العامل الدّينيّ ويركب موجته ليوظِّفه في خدمة مصالحه الانتخابيّة، جاءت زيارته إلى آمد أيضاً ليست كما يتوقَّعها. فرغم أنَّه خطَّط للزّيارة بشكل كبير ومنذ فترة طويلة، لافتتاح جامع “صلاح الدّين الأيوبيّ” في المدينة، ليستقطب الشّارع الدّينيّ في آمد وكردستان بشكل عام، إلا أنَّه لم يحقّق النتيجة المرجُّوة، حيث لم يشارك أهالي آمد في مهرجانه الانتخابيّ بشكل مكثَّف كما في زياراته السّابقة للمدينة، رغم الوعود التي قطعها أردوغان في تحسين الوضع الاقتصاديّ والمعيشيّ للسُكّان.
استطلاعات الرَّأي تشير إلى تَقدُّم مرشَّح المعارضة للرّئاسة كمال قليجدار أوغلو، حيث بلغت نسبة التأييد له ما تقارب من 53%، فيما جاءت نسبة التأييد لأردوغان 43%، وهو فارق كبير يمكن أن يقلب حسابات أردوغان وفريقه رأس على عقب، هذا إذا ما أضفنا إليه نسبة الأصوات التي سينالها حزب الشُّعوب الدّيمقراطيّة والتي تدور التوقّعات أنَّها ستكون أكثر من 12% من نسبة الأصوات على مستوى تركيّا، لتكون القوّة المعارضة الثّالثة، والتي سَتَحسم نتائج الانتخابات لصالح التَّحالف الذي تدعمه، وهو ما حصل في الانتخابات السّابقة وفي انتخابات البلديّة أيضاً.
فأصوات مؤيّدي حزب الشُّعوب ستكون لها كلمة الفصل في الانتخابات القادمة، خاصَّةً بعد أن أعلن الحزب تأييده لمرشَّح التَّحالف السُّداسيّ قليجدار أوغلو في الانتخابات الرّئاسيّة، كما أنَّ الاحتفاظ بكُتلة برلمانيّة قويّة، ومشاركتها أيّاً من كتل التَّحالفات في البرلمان، ستحسم المنافسة لصالح الجهة التي تؤيّدها وتذهب بها نحو فوزها بالأغلبيّة لتشكيل الحكومة وتغيير مواد الدّستور التي عَدَّلها أردوغان وفق مَقاسِهِ، وتسلَّلَ خلالها ليصل إلى رئاسة الجمهوريّة ويُغيّر شكل نظام الحكم في تركيّا كُلّياً، ويَستفرِدَ بجميع السُّلطات ويفرض ديكتاتوريّته على الدَّولة والمجتمع، بكُلِّ مؤسَّساتها وإداراتها، بما فيها المؤسَّسة القضائيّة.
يتداخل العاملان الدّاخليّ والخارجيّ معاً لِيُحدّدا مصير الانتخابات التُّركيّة، نظراً لتورُّط النِّظام التُّركيّ برئاسة أردوغان في العديد من الملفّات السّاخنة في منطقة الشَّرق الأوسط. فالمناورة السِّياسيّة التي لجأ إليها أردوغان في فتح باب المصالحة مع الحكومة السُّوريّة، قبل أكثر من ستّة أشهر، تمهيداً لتوظيفها في الانتخابات، يبدو أنَّها تسير في غير ما يتمنّاها ويرغب بها أردوغان، حيث الشُّروط التي وضعتها دمشق أمام أنقرة، في تحقيق الانسحاب الكامل من الأراضي التي تحتلُّها تركيّا في سوريّا، ووقف دعمها للجماعات الإرهابيّة المُسلَّحة، وحَلَّ قضيّة قطع مياه نهر الفرات، جعلت من أردوغان يرتدّ خطوتين للوراء، ويُعيد حساباته من جديد، ليخرج وزير خارجيّته مولود جاويش أوغلو ويقول بأنَّ الانسحاب التُّركيّ من الأراضي مرتبِطٌ بالحَلِّ النِّهائيّ للأزمة السُّوريّة، وكأنَّ الاحتلال التُّركيّ ليس هو العقبة الأولى أمام وصول السُّوريّين إلى حَلٍّ لأزمتهم. ورغم الضغوط التي تمارسها موسكو على دمشق، لكن يبدو أنَّها هي الأخرى باتت غير ذي فاعليّة قويّة كما في السّابق، بعد المعادلات السِّياسيّة المتشكّلة في المنطقة، والاختراق الذي حقَّقته الحكومة السُّوريّة في محيطها العربيّ والإقليميّ، وانفتاح عدد من الدّول العربيّة التي لها وزنها السِّياسيّ والإستراتيجيّ والاقتصاديّ في المنطقة عليها، خاصَّةً السُّعودية ومصر، حيث خفَّف الاهتمام العربيّ بسوريّا من حجم الضغوط الرّوسيّة على دمشق، رغم أنَّ الدّول الخليجيّة ربطت دعمها بالحَدِّ من نفوذ إيران في سوريّا، كشرط لا يمكن لها غَضّ النَّظر عنه.
أمام هذا المشهد السّائد في المنطقة، تبدو تركيّا التي تُعوّل على الدّور الرُّوسيّ كثيراً، في أضعف مواقفها، خاصَّةً بعد تصريح وزير الخارجيّة المصريّ سامح شكري، ودعوته تركيّا لسحب قوّاتها من الأراضي السُّوريّة دون قيدٍ أو شرطٍ، وهو ما يُعتبر دعماً مفتوحاً لدمشق أمام الضغوط الرّوسيّة والتَهرُّب التُّركيّ، وكذلك دعوة الرَّئيس السُّوريّ لحضور القمّة العربيّة المزمع عقدها في الرّياض الشَّهر القادم، كلّها مؤشرات على تشكّل محور وتحالف جديد، ومن تمظهراته يمكن القول، إنَّه على الأقلّ لا يتوافق مع المصالح الرُّوسيّة والتُّركيّة. هذه المعادلة حاضرة بقوَّة في الانتخابات التُّركيّة، وستؤثِّر على مصير أردوغان، الذي بات في وضع لا يحُسَدُ عليه.
فيما الولايات المتّحدة الأمريكيّة تميل إلى فوز المعارضة، خاصَّةً بعد زيارة كمال قليجدار أوغلو لواشنطن ونيله دعماً من عِدَّةِ مؤسَّسات نافذة فيها، وكذلك زيارة السَّفير الأمريكيّ في أنقرة للمعارضة، والتَّوبيخ والتَّهديد الذي وجَّهه أردوغان وابنته له، حيث يحاول اللَّعب على المتناقضات بينه وبين الدّول الغربيّة، وفي مقدَّمتها مع الولايات المتَّحدة. إلا أنَّ خُطط أردوغان التي أعدَّها لتفويت الفرصة على واشنطن في دعم المعارضة لم تحقِّق أيَّ نتيجة، فعمليّة استهداف قائد قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة وضبّاط من القوّات الأمريكية المرافقة له في مدينة السُّليمانيّة، دفعت واشنطن لرفع لهجة تهديدها ووعديها ضُدَّ تركيّا، لتصل إلى التَّفكير بفرض عقوبات على مسؤولين سياسيّين أتراك كبار، من بينهم وزير الدِّفاع ورئيس جهاز الاستخبارات، وحتّى أردوغان أيضاً، فيما طرح أعضاء في الكونغرس مسألة طرد تركيّا من حلف الناتو، ويكون الموضوع حاضراً على طاولة الرَّئيس جو بايدن.
سيحاول أردوغان امتصاص الغضب الأمريكيّ من استهداف قائد (قسد) والقوّات الأمريكيّة والاستثمار فيه، عبر تأجيج الخلافات معها ووضعها في خدمة مشاريعه الانتخابيّة، معتقداً أنَّها دعاية مجانيّة تُقدِّمُها له واشنطن، فيما المسألة في جوهرها عملية تقويض لنفوذه في تركيّا والمنطقة، وهي ما قد ترتَدُّ سلباً عليه في هذا الظرف الدَّقيق الذي تمُرُّ به تركيّا.
كما أنَّ الشُّروط التي وضعها القائد العام لقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة “مظلوم عبدي” في حديثه مع صحيفة “الشَّرق” وتلفزيون “سكاي نيوز عربيّة”، وضعت تركيّا أمام استحقاقات لا يمكن لها تجاهلها، حيث وضع شرط الانسحاب من الأراضي التي تحتلها في سوريّا مقابل بدء الحوار معها، فيما قطع الطريق عليها في محاولة دفع الحكومة السُّوريّة لفتح جبهة عسكريّة مع (قسد) والإدارة الذّاتيّة، حيث أكَّدَ “عبدي” أنَّهم جزء من المنظومة الدِّفاعيّة السُّوريّة، وأنَّ أيَّ محاولة للنَّيل من قوّاتهم سَتُجابَهُ بمقاومة شاملة، لترُدَّ تركيّا عبر النّاطق باسم الرِّئاسة التُّركيّة ياسين أوكتاي بالتّلويح بعدوان تركيّ على مناطق شمال وشرق سوريّا، كمحاولة يائسة لاستقطاب أصوات المتشدّدين القوميّين الأتراك في الانتخابات، رغم يقينها أنَّ المناخ العام في سوريّا والمنطقة لا يساعدها في أيِّ عدوانٍ جديدٍ، خاصَّةً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تحذيرات (قسد) واللَّهجة الأمريكيّة المُضادَّة لها.
كما أنَّ مقتل زعيم لتنظيم “داعش” الإرهابيّ في المنطقة التي تحتلُّها تركيّا في جرابلس ليلة الإثنين الماضي، تؤكِّدُ استمرار تركيّا في دعم التَّنظيم، وهي رسالة قويّة من واشنطن لأنقرة بأنَّها تراقب التحرُّكات التُّركيّة عن كثب، وأنَّها رَدٌّ مباشر على عمليّة السُّليمانيّة الفاشلة.
يبقى فوز أردوغان في الانتخابات البرلمانيّة والرِّئاسيّة من عدمه، مرهونٌ بالخارج أكثر من الدّاخل التُّركيّ، وكُلُّ الدلائل تشير إلى أنَّه سيُمنى بخسارة فادحة، وهو ما يُهدِّد به أردوغان بأن يلجأ إلى إشعال الحرائق في تركيّا، ليفتح عليها أبواب جهنَّم.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..