حين تخفق موسكو في الجمع بين المتناقضات
محمد عيسى
في محاولة لجمع ما لا يمكن جمعه؛ يخفق الروس مرة أخرى في إحداث اختراق جدي في جدار العلاقات السورية التركية، بعد جهود مضنية بذلوها في اللقاء الرباعي الذي عقد في موسكو يوم الثلاثاء، في الرابع من الشهر الجاري، وتحت رعاية “سيرغي لافروف” وزير الخارجية الروسي، وضم نواب وزراء الخارجية لكل من الدول الأربعة، روسيا، تركيا، إيران، وسوريا.
وبما أن الرسائل تقرأ من عناوينها، ومما لا يخلو من دلالة ويعكس أنها ولادة لا شك عسيرة، هو أن اللقاء، ومنذ البداية، لم يكن بالإمكان الشروع به على مستوى أعلى من مستوى النواب في وزارات الخارجية. هذا من حيث الشكل، أما في المضمون؛ فإن اصرار نائب وزير الخارجية السوري “أيمن سوسان” على شرط الدولة السورية؛ الداعي إلى تقديم تعهد بالالتزام بسحب القوات التركية من الأراضي السورية، ووقف التدخل بالشأن السوري، مع وقف دعم الجماعات الإرهابية، كلوازم لا يمكن تخطيها حتى يمكن السير في خطة التطبيع مع الجانب التركي، الذي كان دوره سلبياً، بحسب “سوسان”، في الأزمة السورية، هذا من جهة. وتلكؤ الجانب التركي أو فشله في تقديم أية قرائن تشير على نيته بالانسحاب، من جهة أخرى، ما جعل الهوة بين الطرفين من النوع التي لا يمكن تجسيرها.
فالجانب التركي الذي لم يكن يمتلك في الأصل أية إرادة جدية للتوصل إلى تسوية تاريخية للمشكلة مع الدولة السورية، أراد من خلال المباحثات ومن دور الوساطة الروسية أن يطلق فقط عملية سياسية شكلية، تكون قابلة للاستثمار في ملف الانتخابات القادمة، وتكون قادرة على إشاعة جو إيجابي على المستوى الشعبي التركي، يوحي بقرب حل مشكلة اللاجئين السوريين، والتي تورط أردوغان وحزبه في خلقها وفي خلق تبعاتها على الوضع والاقتصاد التركي، وفق رؤية تحالف أحزاب المعارضة التركية.
ولأن دواعي الاندفاعة التركية للتقارب مع دمشق لا تخرج عن هذا السياق الانتخابي؛ فقد كان واضحاً للسلطات السورية، ومنذ بدء الحديث عن فكرة التطبيع قبل أشهر قليلة، أن أردوغان سيكون عاجزاً عن إطلاق أية تعهدات ثابتة بحيث لا يمكنه التراجع عنها بعد نجاحه في الانتخابات. ولا شك بأنه في حسابات السياسة السورية أن أردوغان “رجل طقسي” وصاحب تكتيكات سياسية متقلبة ولا يملك مواقف ثابتة، إلا تلك التي تخدم أو تتفق مع مشروعه الإسلاموي التوسعي، الذي لا يعترف بنهاية المطاف لا بالدولة السورية ولا بغيرها في دول الجوار التركي.
والمتابع الحصيف لتطورات هذه الزوبعة التركية الأخيرة، لا بد أن يَخلُصَ إلى حقيقة أن خلفها هاجسين؛ الأول انتخابي، والثاني ما يزعم بأنها مخاطر إرهابية متأتية عن تطور وانتشار قوات سوريا الديمقراطية، وبالتالي قطع الطريق على نموذجها الصاعد المتمثل بتجربة مجلس سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية، والذي يريد أن يأخذ التحالفات في الساحة السورية لجهتها، أو أن يشكل تحالفاً مع السلطات السورية للمواجهة معها.
لذلك ولطالما بقيت الأحزاب الاسلامية والقومية بعيدة عن إجراء مراجعة لموقفها من المسائل الوطنية والاجتماعية ولقضايا الشعوب والهويات، فإن الأمل بإجراء تسوية تاريخية معها لمشاكل الحدود أو أية مشاكل تمس مصالح الشعوب، يبدو أمراً مستبعدا للغاية ومن السذاجة الرهان عليها.
وبالعودة إلى حيثيات اللقاء الأخير في موسكو ومآلاته، يمكن القول إن الروس لم يحققوا من خلاله غير نتيجة واحدة يتيمة؛ هو الاتفاق على متابعة الجهود للحصول تفاهمات في وقت لاحق، وهذا بحد ذاته يعني أمرين اثنين، الأول نشوء احتمال بانتقال الخيار التركي إلى ردة الفعل وإلى خيار التصعيد، وبالتالي التلويح من جديد بالعملية العسكرية، أو إطلاق أيدي الجماعات الإرهابية المحسوبة عليها لتنفيذ أعمال انتقامية ضد قوات الجيش العربي السوري المنتشرة على جبهة إدلب، أو ضد قوات سوريا الديمقراطية، وذلك ضمن العودة إلى سيناريو التحريض على الثورة واستنهاض الهمم والمشاعر الإسلامية، وبالتقاطع مع العزف الإيراني القائم اليوم على مواجهة الغرب الأمريكي و”الكفر الغربي”، والذي يلقى نفخاً روسياً مشابهاً ومن نفس البوق، وخاصة بعد اشتداد المواجهة في أوكرانيا.
والأمر الثاني؛ ميول السياسة السورية إلى ترجيح كفة المبادرة العربية والتي أطلقتها السعودية مؤخراً، تلك المبادرة التي وإن لم تقلع محركاتها بعد، إلا أنها وبالانطلاق من الظرف الذي خرجت فيه ومن مستوى تطور الأحداث ونضجها على المستوى السوري والعربي والإقليمي، وبعد أجواء التفاؤل والتعاطف التي ساقها جسر المساعدات الجوية الخليجية ما بعد الزلزال، وعكستها تصريحات المسؤولين السوريين، وخاصة تصريحات الرئيس الأسد المثمنة، ثم تبلور إرادة دولية على إنعاش نوع من دور عربي، تكون القيادة فيه للسعودية التي بدأت تنحو منحى الاعتدال والحياد والوسطية تجاه مراكز الاستقطاب والتنافس الدولية.
يمكن القول إن مولوداً ما، أو باكورة دور إيجابي ما، سيكون من طبخ السعودية، أو تتحضر للنهوض به في سوريا أو في دول الإقليم، أما التوقيت، وهو بيت القصيد الآن، وهو السؤال الأكثر إلحاحاً هو متى يمكن أن يكسرَ الصوص جدار البيضة، ومتى ستفرز موازين الصراع أو تقول كلمتها الحاسمة، وفي أية محطة سيتبيّن الدخان الأبيض من الأسود؟
وإزاءه؛ لا يستطيع أحد أن يزعم بامتلاك جواب على ذلك، لكن يمكن تسجيل جملة من الاستحقاقات والتطورات المتعلقة نتائجها أو المتأثرة ببعضها، تأتي على رأسها نتائج الانتخابات التركية، بالإضافة إلى ما ستفرزه خيارات الحرب أو السلم في المواجهة مع إيران، أنها محطات قد تحدث صدوعا أو انهيارات مفاجئة، وسيكون من شأنها انكفاء “ستاتيكو” سياسي وولادة مولود آخر يكون سمة العقود القادمة.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..