في ارتدادات عملية استهداف قائد (قسد)
جميل رشيد
جاء الاستهداف التركي على موكب القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية ووفد قوات التحالف الدولي لمحاربة “داعش” في مدينة السليمانية بإقليم كردستان العراق، في وقت تشهد تركيا اختناقات سياسية واقتصادية وحزبية مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
يشكل الاستهداف بحيثياته وأبعاده، نقطة تحول في مد تركيا لأذرعها العسكرية والاستخباراتية في المنطقة، لتطال كل تحرك لقوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية في الداخل والخارج، بهدف خنقها. كما أنها في ذات الوقت رسالة إلى الأطراف والقوى المنفتحة على الإدارة، لإثارة مخاوفها وجعلها مترددة في تعاطيها معها، في وقت قطعت الإدارة أشواطاً لا بأس لها بها على طريق الاعتراف بها ونيل الشرعية الإقليمية والدولية.
فإن كان الاستهداف يعتبر الرسالة الأكثر قسوة والموجهة لـ(قسد) وقيادتها؛ فإن اختيار مطار السليمانية بالذات؛ إنما اختير لقطع الرئة التي تتنفس عبرها الإدارة الذاتية مع الخارج، إضافة إلى محاولة وضع الخطوط الحمراء أمام الاتحاد الوطني الكردستاني وقياداته الحالية، من مغبة أي تعامل مع الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية.
وقد تكررت الاعتداءات التركية على قيادات من روج آفا وشمال وشرق سوريا سابقاً، كالاستهداف الذي طال القيادي “فرهاد ديرك” ورفاقه في يوليو/ تموز الماضي على مقربة من السليمانية أيضاً، وتكرار عملية الاستهداف؛ إنما يشير بكل وضوح إلى تغلغل الاستخبارات التركية واعتمادها على عملاء متنفذين لهافي المنطقة، وإلا فإن تنفيذ عملية بهذا الحجم ليست بالأمر اليسير، حيث أن كل تحركات القيادات في المنطقة تحاط بكتمان وسرية شديدة.
إلا أن الجانب السياسي من الاستهداف قد يطغى على الجانب الأمني والعسكري، حيث أن تركيا بقيادة أردوغان تبحث عن نصر لها قبيل الانتخابات، خاصة أن شعبيته قد وصلت إلى أدنى مستوياتها، مقابل تنامي فرص المعارضة في الفوز بأغلبية الأصوات، وهو ما يعني الموت السياسي لأردوغان وحزبه. في حين أن إدراك حزب الشعوب الديمقراطية للعبة السياسية التي لجأ إليها أردوغان في حرمانه من المشاركة في الانتخابات باسمه، دفعته إلى المشاركة باسم حزب اليسار الأخضر، لتجاوز مسألة احتمال إغلاق الحزب في الدعوى المرفوعة بحقه أمام المحكمة الدستورية العليا، وهو ما تمكن حزب الشعوب منتفويت تلك الفرصة الثمينة على أردوغان والتي كان ينتظرها على أحر من الجمر، لقناعته أن أصوات الحزب لاتزال تشكل الكفة الراجحة في أي تحالفات مستقبلية لتشكيل الأغلبية في البرلمان، وكذلك في قدرته على دعم مرشح ما ليتمكن من الفوز بمنصب رئاسة الجمهورية. ومع وصوله إلى حائط مسدود في الداخل، بات يلهث وراء تحقيق نصر خارجي، إن كان عبر محاولة شن عدوان جديد على مناطق شمال وشرق سوريا، أو استهداف قيادات بارزة في الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية.
تسعى تركيا إلى تشتيت الصف الكردي، المشتت أصلاً، وتستهدف أي تقارب بين قوتين أو حركتين كرديتين، وفي أي جزء من كردستان، فالاتحاد الوطني الكردستاني وطد علاقاته مع الإدارة الذاتية، ومنذ هجوم تنظيم “داعش” الإرهابي على كوباني، وتعززت أكثر مع دخول التحالف الدولي، لتتطور إلى التنسيق في محاربة الإرهاب، إضافة إلى زيادة التبادل التجاري والاقتصادي، والاستشارات السياسية في مختلف القضايا المشتركة الكردية وعلى نطاق الإدارة الذاتية أيضاً، وهذا ما استشعرت به تركيا واعتقدت بأنه يشكل خطراً عليها، فخططت لتنفيذ الاستهداف، لتدفع الاتحاد الوطني للحد من علاقاته مع الإدارة و(قسد)، بالتالي ضرب أي تقارب بين قوتين كرديتين فاعلتين على الساحة. وقبلها منعت عبور الطائرات التي تقلع من مطار السليمانية الأجواء التركية، كإجراء عقابي ضد الاتحاد الوطني، ولإغلاق الأبواب أمام قيادات الإدارة الذاتية.
صمت الحزب الديمقراطي الكردستاني – العراق أمام هذا الاستهداف، إنما يثير الشكوك والقلق لدى العديد من الأوساط والقوى السياسية الكردية، والإقليمية والدولية أيضاً، ما عدا البيان الخجول الصادر عن رئاسة الإقليم، والذي أدان فيه عملية استهداف المطار، ودعا إلى وقف الاعتداءات التركية على إقليم كردستان، في حين كان موقف المتحدث باسم حكومة الإقليم الدكتور “عادل جوتيار” سلبياً لأبعد الحدود، لجهة اتهامه الاتحاد الوطني بإيواء عناصر غريبة، وأنها ستجر الإقليم إلى حرب، وكأنه يحاول إضفاء المشروعية على الاستهداف التركي، ما دفع رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني “بافل طالباني” للرد عليه بشدة، ما يهدد بزيادة الشروخ بين إدارتي السليمانية وهولير/ أربيل، لتصل إلى إنشاء إدارتين منفصلتين، وهو ما تسعى إليه تركيا بشتى الوسائل.
ردود الفعل الإقليمية والدولية القوية المنددة بالعملية، دفعت تركيا إلى إنكار ضلوعها في العملية، رغم تأكيدات من التحالف الدولي والحكومة العراقية بأن طائرات تركية مسيرة هي من نفذت الاستهداف. فتنديد الرئاسة العراقية ووزارة الخارجية بالعملية، وتهديدها بقطع العلاقات التجارية مع تركيا، وزيارة مستشار الأمن القومي العراقي “قاسم الأعرجي” مكان الاستهداف ومعاينة المطار، لا يشكل رادعاً كافياً لتركيا للكف عن العبث بأمن العراق والمنطقة، على حد سواء، بل يطلب من الحكومة العراقية رفع شكوى في مجلس الأمن والأمم المتحدة، لوقف هذه الاعتداءات السافرة على دولة ذات سيادة، وحملها على سحب قواتها العسكرية من كامل الأراضي العراقية.
رسالة القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية الجنرال “مظلوم عبدي” وضعت النقاط على الحروف، وأسقطت كل التكهنات والتفسيرات الغامضة التي لفت العملية، حيث أوضح بأنهم الآن أكثر إصراراً على المضي في التنسيق مع الاتحاد الوطني والحكومة العراقية وجميع القوى والأطراف المشاركة في محاربة الإرهاب، ولن يثنيهم أي عمل عدواني تركي عن أداء واجباتهم تجاه شعبهم، وأن أردوغان يحاول استثمار العملية في أجنداته الانتخابية.
بالمقابل موقف الولايات المتحدة من العملية لم يرتقِ إلى مستوى الاستهداف، حيث اكتفى ناطق باسم البنتاغون بالتأكيد أن الجنود الأمريكيين لم يطالهم أذى، وأنهم مستمرون في العمل مع شركائهم في محاربة الإرهاب ودعمهم، في حين دعا عضو الكونغرس “فان هولن” إلى فتح تحقيق في العملية ومحاسبة مرتكبيها. فرغم أن العملية موجهة ضد الولايات المتحدة أيضاً، إلا أنها – وفق ما يفهم من تصريحات المسؤولين الأمريكيين – لا ترغب في إزعاج تركيا، أو توجيه الاتهام لها بشكل مباشر، فأردوغان الذي هدد السفير الأمريكي في أنقرة غداة زيارته لقادة المعارضة التركية، أرسل من خلال العملية رسالة تهديد إلى الولايات المتحدة أيضاً، يحذرها من مغبة التعامل مع المعارضة أو تقديم أي نوع من الدعم لها، فهل ستأخذ الولايات المتحدة بالتهديدات التركية، أم ستلجأ إلى خيارات أخرى؟
لن تقف تركيا وأردوغان عند هذه العملية، فستحاول – ومتى ما وجدت الفرصة سانحة – إلى استهداف جميع القيادات الكردية التي لا تتوافق مع سياساتها العدائية ضد القضية الكردية، وفي كل جزء من كردستان، وينبغي على القادة الكرد التحلي بالحذر والحيطة من تحركاتهم في مناطقهم وخارجها، وتفويت الفرصة على أردوغان في تحقيق أي إنجاز على حساب دماء الكرد، فلن تكفي بيانات التنديد والاستنكار في حمل تركيا على وقف عمليات الاستهداف، بل يتطلب وحدة الموقف الكردي أولاً، وهو ما يستدعي الابتعاد عن الأجندات والحسابات الحزبية الضيقة، فكل كردي بات مستهدفاً من قبل تركيا، ما يفرض زيادة التنسيق بين القوى الكردستانية على المستوى السياسي والأمني والعسكري، ومن ثم التحرك على الساحة الدبلوماسية الإقليمية والدولية لنزع الورقة التي طالما تهدد بها تركيا في مد يديها إلى كامل جغرافية كردستان، وجعلها ساحة لتصفية حساباتها السياسية مع خصومها.
كما أن فشل اللقاء الرباعي الذي رعته موسكو في الرابع من الشهر الحالي، وعدم تحقيقه أي تقدم في ملف المصالحة بين تركيا والحكومة السورية، وبما يرضي طموحات وغرور أردوغان؛دفعته ليرفع وتيرة اعتداءاته على مناطق شمال وشرق سوريا وقيادات الإدارة الذاتية و(قسد)، فالشروط التي أصرت عليها الحكومة السورية، في تقديم تركيا ضمانات الانسحاب الكامل من الأراضي السورية، ووقف دعمها للإرهاب، كما أعلن عنها نائب وزير الخارجية السوري، أيمن سوسان، المشارك في اللقاء، وضعت تركيا ومعها أردوغان في الزاوية الحرجة، فأراد من خلال هذا الاستهداف إلى خلط الأوراق والتهديد بعدوان جديد، إضافة إلى فرض التعتيم على الجرائم التي ترتكبها فصائل المرتزقة المرتبطة بها في المناطق التي تحتلها، وخاصة في عفرين بعد مجزرة جنديرس. فصدى المجزرة في الأوساط الدولية والإعلامية فاق حدود التصور التركي، فهو من خلال عملية استهداف القائد العام لـ(قسد) إنما يسعى إلى تغيير الاهتمام الدولي بتبعات مجزرة جنديرس، وكل الاعتقاد أنها فشلت في العمليتين.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..