انتفاضة جنديرس والسيناريوهات المحتملة
جميل رشيد
اتّخذت الأحداث في بلدة جنديرس وباقي المدن والقرى بعفرين المُحتلَّة، منحىً تصاعديّاً، وتحوَّلت إلى شبه انتفاضة شعبيّة، إثر استشهاد أربعة مواطنين كُرد برصاص أحد العناصر المرتزقة التّابعين للاحتلال التُّركيّ غداة إشعالهم ناراً بمناسبة عيد “نوروز”.
إنَّ الحادثة، ومن حيث الوقائع؛ لا يمكن وصفها إلا بعمل إجراميٍّ مُنظَّمٍ خطَّطت له جهات استخباراتيّة، مدفوعةً بعنصريّة وتطرُّفٍ دينيٍّ لا حدود له، فلا يمكن تقزيم القضيّة والنَّظر إليها في “إطار فرديٍّ”، كما تسعى بعض الأطراف المحسوبة على ما تُسمّى “الحكومة المؤقَّتة” و”الجيش الوطنيّ” التّابعين لتركيّا.
محاولة التنصُّل من الجريمة التي وصلت حَدَّ المجزرة، تأتي في سياق التعتيم على كُلِّ الجرائم التي يرتكبها الاحتلال التُّركيّ ومرتزقته بحَقِّ الكرد في عفرين، ولكن هذه المجزرة كشفت عنهم الغطاء الذي طالما كانوا يتستَّرون به، وبيَّنت حقيقة ممارساتهم الإجراميّة طيلة خمس سنوات من عمر الاحتلال.
لا يمكن بأيِّ حال من الأحوال تبرئة الاحتلال التُّركيّ من مسؤوليته عن المجزرة، بل الحقيقة التي ينقلها أهالي جنديرس أنَّه هو من خطَّطَ لها ونفَّذها مرتزقة مشحونين بنزعة إجراميّة دينيّة إرهابيّة متطرِّفة. وعدم تحريكه ساكناً إزاء المجرمين والجهة التي ينتمي إليها، يؤكِّد ضلوعه في المجزرة. فلا يتحرّك في عفرين وباقي المناطق المُحتلَّة حجر إلا بإذن من دولة الاحتلال التُّركيّ، ولم تصدر عنه حتّى الآن أي ردود فعل أو تعقيب على المجزرة.
لقد زجَّ الاحتلال التُّركيّ بتلك العناصر الإرهابيّة في عفرين، وقسم كبير منهم فرّوا من صفوف تنظيم “داعش” الإرهابيّ، وانضمَّ إلى مجموعات المرتزقة التّابعين له، وهذه ظهرت حتّى في بداية عمليّة الغزو على عفرين عام 2018، بل هم أنفسهم سرَّبوا مقاطع فيديو يتباهون بمشاركتهم في الغزو ويرفعون أعلامهم وشاراتهم الخاصَّة بهم. فإن كان مرتزقة ما تُسمّى بـ”أحرار الشَّرقيّة” قد احتضنت أكثر من /180/ عنصراً من بقايا عناصر “داعش”، وفق ما ذكره المرصد السُّوريّ لحقوق الإنسان، فإنَّ المجموعات الأخرى أيضاً استقبلت عشرات الأعضاء، بينهم “أمراء”، حتّى أنَّهم استلموا مواقع قياديّة فيها. فلا يمكن الفصل بين الاحتلال والممارسات الإرهابيّة العنصريّة التي يرتكبها مرتزقته، بل جميع الجرائم التي ارتكبت منذ بداية احتلال عفرين، هي نتيجة، ولا يمكن تفسيرها بأنَّها سلوكٌ انحرافيٌّ إجراميٌّ فرديٌّ، بل الاحتلال التُّركيّ سعى منذ اليوم لاحتلاله إلى إصدار تعليماته وأوامره لهؤلاء المرتزقة بممارسة كُلّ أشكال الإرهاب، ودفع من تبقّى من أهالي عفرين الكُرد للنُّزوح من منازلهم، ليتسنّى له استكمال مشروعه في التغيير الدّيمغرافيّ واستقدام العناصر الإرهابيّة وتوطينها فيها.
كما أنَّ توجُّه رتل من الأهالي (كرد وعرب) إلى بلدة أطمه، والمطالبة بدخول “هيئة تحرير الشّام/ جبهة النُّصرة سابقاً”، واجتماع مجموعة منهم مع “أبو مُحمَّد الجولاني”، هي أيضاً مؤامرة أَعدَّت لها الاستخبارات التُّركيّة، لتبرير تمدُّد “الهيئة” في منطقة عفرين، بعد أن فشلت في أواخر خريف الماضي في تثبيت قدمها فيها، بعد اعتراضات من الولايات المتّحدة وروسيّا. في حين أنَّ ممارسات “الهيئة” لا تقلُّ إجراماً عن هؤلاء المرتزقة، فالاحتلال التُّركيّ يحاول إطالة عمره في عفرين عبر تبديل أدواته، ليس إلا. و”الهيئة” من جانبها تحاول الاصطياد في المياه العكرة والاستثمار في المجزرة، لشرعنة وجودها، وهو ما يدركه أهالي عفرين، ولكن بعض الأطراف وجَّهت الأهالي نحو أطمه، رغم عودته خالي الوفاض.
الجرأة والشَّجاعة التي امتلكها الأهالي الكُرد في جنديرس وغيرها من المدن والبلدات والقرى في عفرين، مردُّها حالة الاحتقان الكبيرة لديهم، والتي وصلت لحَدِّ الانفجار دون حساب للعواقب، وهذا ما أكَّدته مقاطع الفيديو لنساء ورجال عبَّروا فيها عن واقع معاناتهم المُستمرّة منذ خمس سنوات. ورغم أنَّ لا أحد كان يتوقَّع أن يجرؤ أحد من الأهالي في التعبير عن العذاب والجحيم المُعاش في عفرين، خاصَّةً من جانب الاحتلال التُّركيّ ومرتزقته، إلا أنَّهم كسروا حاجز الخوف الذي فرضوه عليهم بإرهابهم المُعمَّم، وعمليّات الاعتقال والخطف والتَّعذيب لم تَعُدْ تُجدي نفعاً أمام الغليان الشَّعبيّ العارم. لكن رغم ذلك يُلاحظ من خلال مسار التَّظاهرات العارمة التي خرجت حتّى الآن، أنَّها لم تضع إصبعها على الجرح بشكل مباشر، فلم يُشِرْ أحد إلى أنَّ السَّبب في كُلّ ما يحصل لهم هو بفعل مباشر من الاحتلال وتَبِعاته، ولو بشكل إيمائيٍّ وإيحائيٍّ. رُبَّما لهم أسبابهم وتبريراتهم، إلا أنَّه بكُلّ الأحوال سيكون حراكهم منقوصاً وأعرجاً إن لم يَتُمّ توصيف الدّاء بشكل واضح وصريح، ألا وهو زوال الاحتلال التُّركيّ وليس مرتزقته فقط. فالشِّعار الذي رفعه المتظاهرون “عفرين حُرّة حُرّة.. والفصائل برّا برّا” هو شعار يحمل في طيّاته مِسحةً من إضفاء الشَّرعيّة على الاحتلال، إن لم يقترن بانسحابه. فيجب أن نبحث عن السَّبب وليس النتيجة.
رغم صدور مواقف من عِدَّةِ مُنظَّمات حقوقيّة وإنسانيّة تُندِّدُ بالمجزرة، إلا أنَّه لم يصدر حتّى الآن أيُّ موقف رسميّ يُجرِّم القوّة الرَّئيسيّة المسؤولة عنها، ألا وهو الاحتلال التُّركيّ. ففي حين دعت مُنظَّمة “هيومن رايتس ووتش” دولة الاحتلال لفتح تحقيق شفّافٍ ونزيهٍ حول المجزرة؛ فإنَّ سلوك وتصرُّفات ما تُسمّى بـ”الحكومة المؤقَّتة” وفصائل المرتزقة المرتبطين بها، لا يشير إلى إقدام الاحتلال على كشف ملابسات المجزرة، على العكس منها، سيحاول فرض التَّعتيم الإعلاميّ عليها، ليطويها النُّسيان. وحتّى السيناريوهات التي سرَّبها مرتزقته، وادّعائهم اعتقال منفّذي المجزرة، لم يقتنع بها الرَّأي العام، حيث أنَّ المخطّطَين الرَّئيسيَين “حسن الضّبع” و”أبو حبيب” لا يزالان طليقين ويحظيان بحماية المرتزقة والاحتلال التُّركيّ.
من جانب آخر ردود الفعل لدى الحركات والأحزاب الكُرديّة، لم يكن بمستوى الحراك في شوارع جنديرس وعفرين، بل يمكن للمرء أن يرى تخاذلاً من قبلهم، ولا يمكن فهم دواعيه وأسبابه، في ظِلِّ تصاعد التَّظاهرات. فكان يمكن التقاط اللَّحظة الرّاهنة والبناء عليها في إحراز مكتسبات سياسيّة وعسكريّة هامّة، تكون بداية تحرير عفرين من الاحتلال، ورُبَّما لا يمكن نيلها خلال سنوات طويلة من النِّضال والكفاح. فالنظر إليها على أنَّها زوبعة سرعان ما تهدأ، هي رؤية قاصرة ولا وطنيّة بالدَّرجة الأولى. فحناجر النِّساء والأطفال التي تَهتُف بكُرديّة عفرين وأنَّها ستعود لأهلها، هي البوصلة التي يجب أن يهتديَ لها الجميع على اختلاف انتماءاتهم الحزبيّة والسِّياسيّة، فالموقف يتطلَّب تحرُّكاً سريعاً على مختلف المستويات السِّياسيّة والعسكريّة والدِّبلوماسيّة والإعلاميّة، فيجب ألا تُترَك انتفاضة الأهالي في عفرين يتيمة يتقاذفها الاحتلال والمرتزقة كيفما يشاؤون، وظهرت مؤشِّرات على نيّتهم في الفتك بها وإسكاتها بالحديد والنّار، من خلال إطلاق الرَّصاص الحيّ على بعض الجموع القادمة من نواحي راجو ومعبطلي للانضمام إلى انتفاضة جنديرس وعفرين، وكذلك قطعه للطرقات الموصلة إلى المدينتين.
كما أنَّ صمت الحكومة السُّوريّة هو الآخر لا تفسيرَ له، سوى أنَّه عاجزٌ عن مَدِّ يد العون للأهالي الرّازحين تحت سلطة الاحتلال ومرتزقته، أو أنَّه لا يستطيع تحريك ساكنٍ إلا بتنسيق مع كُلٍّ من روسيّا وإيران، اللَّتان لا توليان أهميّةً لدماء الكُرد لا في عفرين ولا في غيرها من مناطق روج آفا. يُفترض أن تُحرّك الحكومة السُّوريّة ملفَّ هذه المجزرة في المحافل الدّوليّة والإقليميّة، باعتبارها لا تزال تُمثِّل السِّيادة السُّوريّة، وترفع دعاوى حقوقيّة وقانونيّة ضُدَّ الاحتلال التُّركيّ ومرتزقته في محاكم العدل والجنايات الدّوليّة.
إنَّ بيانات الاستنكار والإدانة والشجب في هذا الظرف العصيب الذي تَمُرُّ به عفرين وانتفاضة أهاليها في الدّاخل، لن تجديَ نفعاً. ففي حين أنَّ الاحتلال التُّركيّ، ومن خلال متابعة القنوات الإعلاميّة المحسوبة عليه وعلى مرتزقته، يُبدي تَغيُّراً في نهج تعامله مع قضيّة عفرين، باعتبارها الشَّوكة في حلقه، لا يستطيع بلعها ولا لفظها، فعمدت تلك الوسائل الإعلاميّة خاصَّةً التّابعة لتنظيم “الإخوان المسلمين” إلى تغيير خطابها وتوجيه هجومها للفصائل المرتزقة وتحميلها تَبِعات المجزرة، ما يوحي بأنَّ الاحتلال التُّركيّ يُعِدُّ مخطَّطاً خبيثاً سُرّيّاً، ستتكشَّف خيوطه لاحقاً.
إحدى السيناريوهات المحتملة، والتي يروّج لها البعض في وسائل الإعلام، بأنَّ بديل المرتزقة هو دخول ما تُسمّى بـ”بيشمركة روج” وتسليم إدارة المنطقة إلى “المجلس الوطنيّ الكُرديّ”، خاصَّةً بعد رفع الأعلام والشِّعارات الكُرديّة في التّظاهرات، ومحاولة تعويم “الوطنيّ الكُرديّ”، وكمقدّمة له جاء افتتاح مُنظّمة “البارزانيّ الخيريّة” فرعاً لها في عفرين عقب الزِّلزال، ليعزِّز من التَّفكير بهذا الاتّجاه لدى بعض الأطراف الكُرديّة، وبالتَّنسيق مع الاحتلال التُّركيّ.
كُلُّ الاعتقاد أنَّ هذا السّيناريو لن يُكتب له النَّجاح، لِعِدَّةِ أسبابٍ، أوَّلها، أنَّ من كان شريكاً في عمليّة الغزو، ولم ينفكّ حتّى الآن عن تبرير الغزو، وعدم اعتبار ما حصل في عفرين “احتلالاً”، لا يمكن أن يُقنع أهالي عفرين المنتفضين بإمكانيّة فعل ما يُعيدُ لهم ما فقدوه منذ وقوع الاحتلال. والأمر الثّاني، أنَّه – المجلس الوطنيّ الكُرديّ – لا يملك تلك القوَّة والإمكانيّات في الإدارة وضبط الأمن والاستقرار في عفرين، ولا أن يفرضَ وقائعَ جديدة. فإن حصل هذا الأمر سيكون تحت مظلَّة الاحتلال، وليس خارجها، وهو لن يجعل كُرد عفرين أحراراً في أراضيهم. فإن كان البعض يفكّر بالتشفّي بالإدارة الذّاتيّة بعفرين عن طريق تسليم إدارة عفرين إلى “الوطنيّ الكُرديّ” وأنَّه سيُنهي معاناة أهالي عفرين، ويَفتح الطريق أمام عودة كريمة لأهاليها المُهجَّرين إلى ديارهم، فهو واهم، فلن تندمل جروح العفرينيّين إلا بخروج الاحتلال وكُلِّ رموزه ومرتكزاته، وكفى المؤمنين شرَّ القتال!
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..