عندما يغدو الفرات للابتزاز السياسي
محمد عيسى
لم تتوقف الحكومات التركية المتعاقبة في العقود الأخيرة، وفي تَعَدٍّ صارخ على نواميس الطبيعة وتوازناتها، عن العبث بمجاري الأنهار التي رتَّبها الزمن، والعابرة من أراضيها باتجاه الدول المجاورة، وبخاصة نحو كل من سوريا والعراق، لتقوم ببناء عشرات السدود والمصدّات المائية، من بينها “سد أتاتورك”، الذي يُعَدُّأحد أهم السدود الترابية في العالم.وفيما يعد بناء السدود خطوة الغرض منها الضغط على الدول المجاورة وعلى فرص العيش للشعوب القاطنة على ضفاف هذه الأنهار منذ آلاف السنين. وفي سابقة لم تحصل في مسار الأنهار من قبل؛ فقد أقدمت السلطات التركية على أمرين: الأول، فرط في تخزين المياه، وصل إلى حد قطعها بشكل تام عن الأراضي السورية والعراقية، وبمايخالف القوانين والأعراف الدولية.والثاني، إقامة مصدّات أو سدود في طريق المياه الجوفية لمنع تواصل الأحواض المائيةبين البلدين، وصعوبة توفير مياه الشرب في المدن والقرى الحدودية داخل الأراضي السورية.
ولأغراض سياسية واضحة، كان الهدف منهاجعل الحياة شبه مستحيلة أمام سكان هذه المناطق، الذين غالبيتهم من الكرد، وبالتالي دفعهم إلى مغادرتها وتفريغها من سكانها ضمن سياسة تغيير ديمغرافي معلن وسافر بدأمنذ احتلال لواء إسكندرون في ثلاثينات القرن الماضي، واستمر مع احتلال عفرين، ومازال يتكرر في رأس العين. وحينما تسمح الفرصة لذلك،وبما يتوافق مع سياسة القضم المتدرّج للأراضي السورية، ثم تغيير هوية السكان الأصليين من العرب والكرد وتتريك بنية المجتمع ومظاهر الثقافة القائمة.
لكن سياسة الحقد الشوفيني التركية لم تؤتِأُكُلَها كما خططت أنقرة هذه المرة، وكمن يقضي بفعل نهمه الشديد للطعام؛ فقد جاءت موجة الزلازل الأخيرة، والتي مازالت مستمرة، في تجوالها داخل الأقاليم والمناطق التركية، وفي تهديد ظروف الحياة والاستقرار في مجمل أرجاء الدولة التركية ومدنها الرئيسية، لتكون بمثابة نكسة أو عقوبة طبيعية أو إلهية لجهود الحكومة التركية التعسفية حيال خصومها وجيرانها، إذ لم ترحمها السدود، ثم فعلت وقالت في النهاية كلمتها.
فالنهم التركي للمياه وتخزين مئات المليارات من الأمتار المكعبة خلف السدود التي أنشأتها في نقاط محددة، كانت تقارير قد قدرتها بمجموعهاإلى ما يعادل عشرة أضعاف الطاقة التخزينية لسد النهضة ذائع الصيت، هذا الأمر كان من شأنه أن يُحدث خللاً كبيرا في توازن القوى في مساحة بعينها من طبقات القشرة الأرضية في منطقة تعاني بالأصل من صدوع تكوينية ومرشحة لحدوث زلازل دورية. وحيث تذهب شروحات المختصين بعلم هيدروليكا حركة السوائل؛فإن واقع السدود القائم مسؤول مسؤولية أكيدة عن تحفيز النشاط الزلزالي الحاصل اليوم، وأن المياه يمكن أن تصل إلى آلاف الكيلو مترات، من خلال التسرب عبر الشقوق القائمة أو عبر إحداث شقوق جديدة، ويمكنها أن تحدث انزياحاًأو تأثيراً في استقرار الصفائح التكتونية المشكلة لسطح الأرض.ولا يجادل هؤلاء المختصينبأن هذه الحقيقة تقع ضمن ألف باء استنتاجات علم الهيدروليكا (حركة السوائل)، ويمكن تشبيهها بعملية نقل بحر صغير من مكانه إلى مكان آخر.
ومما له دلالة التأكيد على صوابية مثل هذا التفسير؛ كثرة الأخبار والتحليلات المقارنة التي تملأ صفحات الإنترنت، والتي تتحدث عن زلازل وقعت في الصين، وأخرى في إسبانيا وأماكن أخرى، كان قد أجمع الدارسون أنها قدحصلت بفعل السدود.
ومما يعطي مصداقية أو ترجيحاً لمثل هذه الآراء، وحول دور النشاط البشري في إحداث الزلازل، أن خبير الزلازل الهولندي الذي تنبّأ بالزلزال الأخير، كان قد أجاب لدى سؤاله عن العوامل التي استند عليها في تنبؤه، وفي الترجمة الحرفية لرده”أن ضغوطاًأو ثقلاً توجهه المباني في تلك النقطة، طبعاً بالإضافة إلى وجودها ضمن منطقة الصدع”.ويضيف، بحسب زعمه، دوراً لحركة الكواكب.والنقطة المهمة في كلامه؛ أن ضغوطاًأو ثقلاً توجهه المباني، من شأنه أن يساهم في تنشيط الزلازل،أما أن “ثقلاًأوضغطاً توجهه المباني” لا شك بأنه خطأآخر وقعت فيه الحكومة التركية، وهو يرمز من خلاله إلى النمو العشوائي لكتل البناء، ولا شك أنها فكرة تتقاطع في منطلقاتها العلمية مع فكرة أوزان المياه في السدود.
وبالإضافة إلى الدور الذي يرجح أن تكون السدود قد لعبته في إحداث الزلزال المروع الأخير وما تبعه؛ فإنه ثمة خطر آخر لا يقل عن خطر الزلازل نفسها، بدأت تلوّح به وسائل إعلام عديدة، ويتمثل بالنتائج الكارثية فيما لو انهار أحد السدود أو بعضها بفعل تواتر النشاط الزلزالي في نطاق انتشار هذه السدود،وحذرت من حجم الضحايا والدمار الذي يمكن أن يحصل جراء ذلك.
وإلى ذلك يمكن القول– وبكل أسف–إن السدود بواقعها ضمن دوامة النشاط الزلزالي المستمر، قد أصبحت بمثابة كابوس يؤرق حياة البشر الأبرياء ضمن رقعة واسعة من الأرض في تركيا الدولة وفي أراضي الدول المجاورة، وبعد ذلك يمكن الجزم أن السياسة التركية ضالعة بجريمة مركَّبة من عناصر ثلاث، الأول، السطو التعسفي على مياه الأنهار، وخرق القانون الدولي الذي يُقِرُّ بحقوق الدول في تقاسم مياه الأنهار العابرة لأراضيها.ومن الجدير بالذكر حول هذه المسألة أن الخارجية السورية قد وجهت شكوى للأمم المتحدة قبل بضعة أشهر، تطالب فيها الأممالمتحدة باتخاذ موقف من سياسة الحكومة التركية التي قامت بقطع مياه نهر الفرات عن الأراضي السورية،الأمر الذي تسبب بعطش السكان السوريين وتضرر أرزاقهم ومصادر حياتهم.
الجريمة الثانية، التسبب في حصول الزلازل، عبر الإفراط في حبس المياه، ومن خلال الفوضى في إقامة الإنشاءات والمباني، وبالتالي المسؤوليةالقانونية والأخلاقية عن هدر حياة عشرات آلاف الضحايا من المواطنين الأتراك والسوريين.
الجريمة الثالثة، التهديد الدائم لحياة عشرات الملايين من البشر القاطنين حول مجاري الأنهار في تركيا وكل من سوريا والعراق، جراء خطر انهيار السدود القائمة.
وانطلاقاً من كل ما تقدم؛ يمكن التيقن من ملاحظة هامة؛ أن السياسة التركية اليوم بتعاطيها مع الشعوب التركية وشعوب المنطقة ودولها، وفي موقفها من قضية المياه وقطعها عن جيرانها، وفي خروجها على القوانين والأعراف الدولية التي تلزمها بتوفير حصة عادلة منها للدول المتشاطئة، ثم في تعدّيها على قوانين البيئة، وفي قضية التنقيب عن النفط في المياه الدولية خارج مياهها الوطنية والإقليمية؛ فلا شك بأنها تجري وبالتناغم مع تاريخها الطويل في امتهان التعسف، والتلويح الدائم باستخدام القوة وارتكاب الجرائم، خاصة وجرائم القتل الجماعي؛ بدءاً بجرائمها بحق الأرمن، ومروراً بالجرائم بحق العلويين، وليس انتهاء بما ترتكبه بشكل يومي ضد مواطنيها من الأكراد.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..