في تهافت روسيا وتركيا على المصالحة مع دمشق
جميل رشيد
يَمُرُّ مسار التَّطبيع وإعادة العلاقات بين تركيّا والحكومة السُّوريّة بالعديد من المنعطفات التي من شأنها أن تكون سبباً كافياً لعدم إنجازها، رغم تهافت الطرفين الرّوسيّ والتُّركيّ على العمليّة، ومحاولتهما إتمامها ضمن إطار “الصفقات”، على غرار تلك التي تَمَّت في اجتماعات “أستانا”.
لا شَكَّ أنَّ كارثة الزلزال الذي ضرب كُلّاً من تركيّا وسوريّا، وتداعياته على المستويات السِّياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة، قد ألقت بظلالها على عمليّة “المصالحة” بين الطرفين، وفرض معادلات جديدة، أوَّلها أنَّ أيَّ انفتاحٍ على الحكومة السُّوريّة، من المفترض أن يَتُمَّ ضمن إطار توافق إقليميٍّ ودوليٍّ، وبما لا يتعارض مع الشَّرعيّة الدّوليّة والقرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدّوليّ، وأوَّلها القرار 2254.
روسيّا التي تعاني من أزمات عديدة كانعكاس مباشر لحربها في أوكرانيا، تسعى للاتكاء على تركيّا في تحقيق نصر، ولو محدودٍ، في سوريّا، وبما يخفِّف عنها خسائرها في أوكرانيا. فيما النِّظام التُّركي الذي يعاني من أزمات لا حدود لها، وزادت عليها كارثة الزلزال، فهو الآخر ينتظر بفارغ الصبر أن ينتهي من عمليّة “المصالحة” بأسرعِ وقتٍ ممكن، ليوظِّفَها لصالحه في الانتخابات القادمة.
الانقسام الحاصل في السّاحة السِّياسيّة التُّركيّة، بين قَطبي السُّلطة والمعارضة، ممثّلاً بحزبي العدالة والتنمية والحركة القوميّة، والتَّحالف السُّداسيّ، يُعرقل مساعي أردوغان في إنجاز أيّ عمليّة مصالحة مع الحكومة السُوريّة على ضوء الخطاب التَّصعيديّ للطرفين. ففيما يحاول أردوغان استقطاب أكبر عدد ممكن من الأصوات، ليحقِّقَ فوزاً في الانتخابات، فإنَّ المعارضة التي كشفت عن مرشَّحِها الرِّئاسيّ، تتوعَّدُ أردوغان في حال فوزها في الانتخابات بأن تسعى إلى إعادة العلاقات مع سوريّا إلى سابق عهدها، مع كُلّ ما يترتَّب على ذلك من ترتيبات من قبيل الانسحاب من الأراضي التي تحتلُّها تركيّا في سوريّا، وإغلاق ملفّ اللّاجئين السُّوريّين على أراضيها.
اللّافت أنَّ تأييد حزب الشُّعوب الدّيمقراطيّة للمرشح “كمال قليجدار أوغلو” سيعزّز من فرض فوزه، على اعتبار أنَّ أصوات جمهور الشُّعوب الدّيمقراطيّة تشكل بيضة القبّان والكفّة الرّاجحة في أيّ انتخابات في تركيّا، على غرار ما حصل في انتخابات البلديّة عام 2019، والتي ساهمت بشكل رئيسيّ في فوز مرشَّح حزب الشَّعب الجمهوريّ “أكرم إمام أوغلو”. ويبدو أنَّ السّيناريو نفسه سيتكرَّر في الانتخابات المُقبلة أيضاً.
الكُلّ في تركيّا والمنطقة وحتّى العالم يترقَّب سقوط ديكتاتوريّة أردوغان التي خلقها في تركيّا، والكُلّ معنيٌّ بها وسيتأثَّر به إيجابياً. فبات المواطن والنّاخب التُّركيّ يُدرك أبعاد استفراد أردوغان بجميع السُّلطات التَّشريعيّة والتَّنفيذيّة والقضائيّة، وحتّى الإعلام، في تركيّا، وأنّه يمسك بتلابيبها، ومن يخرج عن طاعته مُهدَّدٌ إمّا بالقتل أو الاعتقال، كما حصل مع العديد من المُثقَّفين والإعلاميّين والسِّياسيّين.
تَحوَّل نظام أردوغان إلى كابوس يُخيّم فوق رؤوس الأتراك قبل غيرهم، ولديهم رغبة كبيرة في التخلُّص منه بأيِّ شكلٍ من الأشكال، وأردوغان يُدرك جيّداً هذه الحقيقة، فهو يحاول أن يستمرَّ في الحكم، حتّى ولو اضطرَّ إلى تزوير الانتخابات، أو تحقيق نصرٍ مُزيَّفٍ في الأمد القريب، من قبيل شَنِّ عدوانٍ عسكريٍّ ضُدَّ مناطق شمال وشرق سوريّا، أو إتمام المصالحة مع الحكومة السُّوريّة.
دخول حزب الشُّعوب الدّيمقراطيّة معترك الانتخابات يُرعب أردوغان، فرغم الضربات المؤلمة والقاسية التي وجَّهها للحزب عبر اعتقال معظم قياداته وممثّليه في البرلمان ورؤساء البلديّات، وإغلاق العديد من مكاتبه في مختلف أنحاء تركيّا، إلا أنَّ الحزب لم يفقد قدرته على الصمود أمام كُلّ تلك الحملات، وحافظ على قوَّته وتماسكه في أن يبقى القوَّة المعارضة الثّالثة في تركيّا، وتكون له كلمته أمام صناديق الانتخابات القادمة. صحيحٌ أنَّ الحزب لن يستطيع تحقيق نصرٍ كبيرٍ بمفرده وإيصال مرشَّحٍ من قِبَله إلى سُدَّة الحكم في تركيّا، لكنه في ذات الوقت إن تحالف مع أيّ قوّة، فسيمكّنها من الفوز، ومهما كان حجم القوّة المعارضة لها.
ففيما أعلن أردوغان أنَّه سيبدأ حملته الانتخابيّة في العاشر من الشَّهر الجاري، بدأت على الضفَّة الأخرى، حملات المعارضة، عبر تصعيد خطابها الموجَّه لحكومة أردوغان في التسبُّب بالزلزال الذي ضرب تركيّا، متَّهِمَةً شركات الإنشاء والتَّعمير التّابعة للحكومة وتلك التي يملكها ويديرها شخصيّات وقيادات من حزب العدالة والتنمية، مؤكِّدة أنَّها لم تتَّبع قواعد السَّلامة العامّة في البناء والحماية من الزلازل. بل واصلت اتّهاماتها لها بالتَّقصير في انتشال وإجلاء العالقين تحت الأنقاض، وضعف تحرُّك مؤسَّسات الدَّولة التُّركيّة في التَّعامل مع الكارثة، وهذه حقيقة عاشها – ولايزال – الأتراك في العديد من المحافظات المنكوبة.
استدركت الحكومة السُّوريّة مُبكِّراً الوضع السِّياسيّ المُتردّي لأردوغان وحكومته الحالية، فلم تهرول نحوه في إعادة العلاقات معها، مثلما فعل أردوغان، بل حافظت على هدوئها المعتاد، وربطت أيَّ مصالحة مقبلة معه بالانسحاب من الأراضي السُّوريّة، كما أعلنت أنَّ أيَّ مصالحة يجب أن تَتُمَّ بعد الانتخابات التُّركيّة، وهو ما يعني أنَّها لا تُعوِّل على أردوغان كثيراً في إنجاز المصالحة، وتُبدي مقاربة حذرة من عدم فوزه في الانتخابات، وهي – أي خسارته في الانتخابات – ستُعيد الأمور إلى المربَّعِ الأوَّلِ.
يعتمد أردوغان على روسيّا كثيراً في إحداث اختراق في جدار الجليد بينه وبين الحكومة السُّوريّة، عبر ممارسة الضغوط عليها لإتمام “صفقة المصالحة” قبل حلول موعد الانتخابات الرِّئاسيّة والبرلمانيّة التُّركيّة القادمة، ويأتي إعلان نائب وزير الخارجية الرّوسيّ عن لقاء قريب بين وزراء خارجيّة روسيّا، تركيّا، إيران، والحكومة السُّوريّة، في سياق الرَّغبة التُّركيّة في إنقاذه من الوضع الشّائك الذي يَمُرُّ به أردوغان وتركيّا.
على صعيد آخر سيحاول أردوغان توظيف الأموال، التي تدفَّقت عليه من مشيخة قطر والسُّعوديّة، وبمليارات الدّولارات، في تعزيز فرص فوزه في الانتخابات، وليس لإعادة إعمار ما دَمَرَّهُ الزلزال، أو تحسين الوضع المعيشيّ لمواطنيه، وهذا ديدن الدّيكتاتوريّات، فهي لا تأبَهُ لشعوبها ومطالبها، بل تفكِّر في استدامة أنظمتها المتهالكة.
من جانبها لا تُبدي الولايات المُتَّحدة الأمريكيّة حتّى الآن اهتماماً كبيراً بعمليّة المصالحة والانتخابات التُّركيّة. ويبدو أنَّها هي الأخرى لا ترغب كثيراً في فوز أردوغان بولاية ثالثة، بعد الدَّور الملتبس له في الحرب الأوكرانيّة وانحيازه لروسيا، وكأنَّ تركيّا ليست دولة أطلسيّة. واستدعاء السَّفير الأمريكيّ في أنقرة من قبل وزارة الخارجيّة التُّركيّة، ردّاً على زيارة رئيس هيئة أركان الجيوش الأمريكيّة “مارك ميلي” لقواعد قوّاته في شمال وشرق سوريّا، ليس له أيَّ تفسيرٍ منطقيٍّ أو تبريرٍ قانونيٍّ يسنده أو يبرِّره، وهل الأراضي التي زارها “ميلي” هي أراضٍ تركيّة أم سوريّة؟ إلا أنَّ ما أزعج تركيّا في سوريّا، هو زيارته لقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة وتقديم الدَّعم السِّياسي والعسكريّ لها، ما يبدِّد مساعيها الحثيثة في شَنِّ عدوانٍ جديدٍ على المنطقة. فزيارة مسؤول أمريكيّ بحجم رئيس الأركان لمناطق سيطرة (قسد) والإدارة الذّاتيّة، لها دلالاتها البعيدة في رسم وقائع على الأرض، وأقلُّ ما يُقال عنها إنَّها لا تَسُرُّ تركيّا. وأظهرت تركيّا نفسها بموقع المدافع عن السِّيادة السُّوريّة حتّى أكثر من الحكومة السُّوريّة نفسها.
وفي حين تعيش منطقة الشَّرق الأوسط تطوّرات سياسيّة متسارعة بعد كارثة الزلزال المُدمِّر الذي ضرب كلّاً من سوريّا وتركيّا، وتضعها على أعتاب مرحلة جديدة، عنوانها الرَّئيس التَّهدئة على جبهات الصراع في معظم المناطق، والاستمرار في محاربة الإرهاب، إضافة إلى البدء بتفعيل المسار السِّياسيّ للأزمة السُّوريّة، وفق قرارات الشَّرعيّة الدّوليّة، بعيداً عن الاستقطابات والتَّحالفات الإقليميّة التي من شأنها عرقلة جميع الحلول. والمغازلة السُّعوديّة للحكومة السُّوريّة في الآونة الأخيرة، وفق تصريح وزير الخارجيّة السُّعوديّ، إنَّما تأتي في هذا السّياق، حيث أبدى تفاؤلاً حذراً من التسرُّع في إعادة حكومة دمشق إلى الجامعة العربيّة ومحيطها العربيّ والإقليميّ، مبدياً في الوقت نفسه انفتاح بلاده على هذه المبادرة.
وعلى ضوء التحرُّكات الإقليميّة والدّوليّة، لا يعتقد أحد بأن يتمكَّنَ أردوغان ونظامه من إتمام عمليّة المصالحة مع دمشق، إلا في إطار الحَلِّ السِّياسيّ النِّهائي للأزمة السُّوريّة.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..