زلزال القرن.. الأسباب والتداعيات
محمد عيسى
زلزال مرعب ومدمر ولا يشبه غيره من الزلازل، ولن يكون ما قبله يشبه ما بعده، على مستويات عديدة، وذلك ليس لشدته أو حجم الدمار والخسائر البشرية التي خلفها في دول عديدة، بل يعود الأمر للأسئلة التي أثارها، والتداعيات التي ستنتج عنه على أصعدة عدة، وأيضاً إلى المخاوف والضجة الإعلامية التي رافقته، وفاقت كل تصوّر. واللُّبس المتعلّق به؛ كونه قد جرى توقعه في الزمان والمكان المحددين والشدة المحددة، وهو لم يسبق أن تكرر أو صح في أي واقعة أخرى. إضافة إلى الأسباب التي قد تكون لعبت دوراً في حصوله، أو ساهمت، أو يمكن تساهم، في مفاقمة نتائجه الوخيمة على البيئة التي حصل بها أو علة الإقليم بكامله.
فيمكن القول ضمن زحمة المتدخلين في تفسير هذا الحدث المروِّع؛ إنه لا يوجد تفسير واحد ناجز ودقيق للإحاطة بما جرى، لكن يمكن في سياق كل ما قيل ويُقال تسجيل جملة من الملاحظات، يقع في رأسها:
أولاً: حينما سُئل الخبير الجيولوجي الهولندي الذي تنبأ بحصول هذا الزلزال قبل ثلاثة أيام من وقوعه، وبنفس المواصفات التي رافقته، وسئل أيضاً عن الأسس التي اعتمد عليها في إطلاق توقّعه، أجاب: “الضغوط التي تحصل في المنطقة التي حصل فيها الزلزال، إضافة إلى ما توجهه المباني من ثقل فيها”، مع إشارته هو وغيره إلى أنها منطقة ضعف وصدوع ومرشحة أصلاً لزلازل كبيرة. وهذا يقودنا إلى الملاحظة الثانية والمتعلقة بعبث الحكومات التركية المتعاقبة بنواميس الطبيعة، عبر تغيير مجاري الأنهار وتحويل تركيا إلى غابة من السدود وبعضها الأضخم على مستوى العالم، ولا سيما سد أتاتورك الترابي وغيره كثير وعلى نفس النهر الواحد، وليس هذا فحسب، بل يُضاف إلى كل ذلك الإفراط في تخزين المياه في هذه السدود؛ لغرض قطعها عن الدول التي تَعبُرها هذه الأنهار، ولدوافع سياسية باتت معروفة. وثمة نقطة هامة في هذا السياق من المفيد تسليط اهتمام الرأي العام العالمي عليها، وعلى المنظمات الدولية المختصّة بسلامة البيئة، وكذلك المراكز البحثية المعنيّة، إعارتها الاهتمام ومتابعة مخاطرها، وهي أن السلطات التركية، وفق تقارير مطّلعة لأخصائيين بعلم الهيدروليكا، كانت أخيراً قد أنشأت سدوداً بوجه المياه الجوفية لمنع تواصل الأحواض المائية بين تركيا وسوريا، وبين تركيا والعراق، الأمر الذي سيكون من عواقبه، من وجهة نظر علم السوائل في حال حصوله، نشوء ضغوط عمودية وجانبية هائلة تحدث شقوقاً في أعماق التربة، أو تُعمّق في مستوى التشقّقات الموجودة، وبالتالي تولّد ضغوطاً وإجهادات على طبقات الأرض غير متوازنة، لا شك سيكون من شأنها تسهيل مهمة الزلازل الطبيعية عند وقوعها. ويخطئ، من زاوية الوقائع العلمية، من يجادل أو ينفي تأثير ذلك وعلى تحفيز الزلازل. وكم سفينة غرقت، ليس بسبب حمولتها الزائدة؛ بل بسبب سوء توزيعها على سطح السفينة. وبعيداً عن كل ذلك، ماذا لو انهارت هذه السدود أو بعضها في مناخ العاصفة الزلزالية الحاصلة في تركيا وجوارها اليوم؟ وأي كارثة ستحل نتيجة ذلك على منطقة الإقليم بأكملها؟ وما خطوة الحكومة التركية المتأخرة أمس الأول بفتح أحد السدود على نهر دجلة وباتجاه العراق، وبأوامر عاجلة من أردوغان، إلا دليلاً على جدّيّة هكذا مخاطر.
ثالثاً: وفي سياق عبث النشاط البشري ودوره في إحداث أو تحفيز النشاط الزلزالي؛ تسوّق مواقع عديدة توثيقات عن زلازل حصلت في إسبانيا وفي الصين وأماكن أخرى، وأودت بحياة مئات الآلاف من البشر؛ كان من أسبابها إقامة السدود أو فرطاً في انتشارها. ثم إن أدواراً لا جدال في جديتها لنشاط الحكومات وبرامج تسلحها في تقويض استقرار الطبيعة وتهديد الحضارة على الأرض، وتحفيز أو حضانة ظواهر كالزلازل أو غيرها، وهذا الخطر ليس من المستبعد أن يكون لسلوك لحكومة أردوغان دوراً في الوصول إلى الكارثة التي حلت بالمنطقة برمتها، وخاصة إذا توقفنا عند العرض الذي قدمته الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى الحكومة التركية لتقديم المساعدة في مجريات معالجة تبعات هذا الزلزال، وذلك وفق ما نشرته صحيفة الواشنطن بوست أول أمس، كما يعزز الانطباع بأن أنشطة خطيرة لم تكشف بعد قد تكون الحكومة التركية متورطة فيه، ولها دور في تطور الزلزال الذي حصل.
رابعاً: لا شك بأن هذا الزلزال والتحديات والمخاطر التي رافقته، ما هو إلا حلقة من حلقات كانت قد سبقته كانتشار جائحة كورونا، واتساع وتمدد ظاهرة الأعاصير، والتي بدأت تطرق أبواب الشواطئ السورية وشواطئ شرق المتوسط أواسط الصيف الماضي، وفي سابقة لم تجر من قبل.
كل ذلك ما هو إلا إعلاناً أكيداً بأن الوجود الإنساني والحضارة كلها تواجه خطر الفناء، إذا ما استمر عالم الدول الكبرى باستهتاره بموضوع السلامة على الأرض وبتخريب البيئة، عبر إطلاق العنان، ودون شفقة، للتجارب النووية في باطن الأرض، وإلى تخريب طبقة الأوزون والتسبب بارتفاع درجة حرارة الأرض وغيرها من الأنشطة الصناعية المرتبطة بالنظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي الحالي، الذي فشل أخلاقياً حتى الآن بتقديم نموذج تاريخي يحترم سلامة البشر وأمنهم الاقتصادي والاجتماعي على مساحة هذا الكوكب. وإذا أضفنا إلى اعتوار هذا النظام العولمي الرأسمالي المتوحش، ابتلاء قسم من شعوب هذا العالم ببلوى العيش في ظل أنظمة الاستبداد الشمولية منتجة الفساد والفقر والتخلف، تصبح المعاناة أشد وقعاً، وتصبح تحديات البيئة أمراً أكثر فتكاً.
خامساً: بالانطلاق من كل ما سبق؛ يخلص الدارس إلى استنتاج مفاده؛ إذا كانت القرون الثلاثة الأخيرة قد سرقت اهتمام الفكر السياسي لناحية التحديات الاجتماعية الوطنية؛ فلأن المجتمعات البشرية كانت تواجه أولويات العدل الاجتماعي والحرية والاستقلال من الاستعمار، ولم تكن البيئة مستهدفة بهذا الحجم، فإن الأولوية اليوم هي الأحزاب التي تُعنى باحترام البيئة وحركات الخضر وما شابه، لأن البشرية بكليتها في مركب يواجه خطر الغرق. ولأن مسألة من هذا النوع مفصلية بالمعنى الحضاري والإنساني؛ فمن نافل القول بأنها ستكون أولوية أيضاً في شغل الفلسفة والفكر الإنساني بعامته. وبهذا المعيار يجب أن نعطي وزناً لائقاً للتفكير الأوجلاني الذي أعطى بكل تنظيراته وفي اشتراطاته لتشكيلة مجتمع الاقتصاد الاجتماعي التشاركية، بُعداً أساسياً وأولوية للمسألة الإيكولوجية، فإنتاج أي سلعة مشروط بمراعاة البيئة واحترام قوانينها.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..