هل سترسم دمشق والقامشلي معا خارطة لحل الأزمة السورية؟
جميل رشيد
أجرت قناة “الحدث” التّلفزيونيّة، قبل أيّام، لقاءً هامّاً مع القائد العام لقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة “مظلوم عبدي”، تَطرَّقَ فيه إلى أهمّ الأحداث والتطوّرات المستجدّة على السّاحة السُّوريّة، وبالأخص في مناطق شمال وشرق سوريّا.
لعلَّ توضيحات “عبدي” في سياق حديثه، سلَّطت الضوء على العديد من المسائل والقضايا، التي طالما شغلت بال العديد من المهتمّين ووسائل الإعلام، منها قضايا تمس سوريّا عموماً ومستقبلها، وأخرى تتعلق بتوجّهات قوّاته وشكل الاصطفافات العسكريّة والسِّياسيّة في المنطقة، وموقعهم منها، وكذلك محاولات تركيّا شَنَّ عدوان جديد على مناطقهم.
بكُلِّ الأحوال أيُّة قراءة لحديثه خارج سياق الرّؤية الوطنيّة السُّوريّة، رُبَّما تكون خاطئة، فلم يبتعد “عبدي” في تحليله للوضع الرّاهن في سوريّا، عن الهَمِّ الوطنيّ المتمثّل بتحرير المناطق المحتلّة وعودة الأمن والاستقرار إلى سوريّا.
ذهب “عبدي” بعيداً في تحليله للتَّفاهمات بين تركيّا، روسيّا، والحكومة السُّوريّة، إلى حَدِّ الاعتقاد بأنَّ أيَّ مساومة ما، على غرار المساومات السّابقة التي جرت على عفرين وسري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض، قد تحصل على كوباني أيضاً، في ظِلِّ الاجتماعات المُكثّفة بين الأطراف الثَّلاثة، وبالتّالي الإيعاز لتركيّا بشَنِّ عمليّة عسكريّة برّيّة على كوباني في غضون شهر فبراير/ شباط القادم، كي يتمكّن الرَّئيس التُّركيّ من تعزيز فرص فوزه في الانتخابات التُّركيّة القادمة.
أعاد القائد العام لـ(قسد) التَّذكير بأنَّ الحكومة السُّوريّة، وكذلك روسيّا، لن تسمحا بشَنِّ تركيّا عمليّة عسكريّة في مناطق الشَّهباء وخاصَّةً في تل رفعت، مشيراً إلى أنَّ ذاتَ الأطراف ستغُضُّ الطرف عن أيّ عدوانٍ عسكريّ على كوباني، في إشارة إلى أنَّ كوباني وكونها تقع شرق نهر الفرات، فهي ضمن الاهتمام الأمريكيّ وليس الرّوسيّ. تلميحات “عبدي” بالعمليّة التُّركيّة، إنَّما الهدف منها حَثَّ الولايات المتّحدة ودول التَّحالف الدّوليّ لمحاربة الإرهاب لاتّخاذ موقف معارض للعمليّة العسكريّة، وهو ما تُرجِمَ على أرض الواقع من خلال تصريح وزارة الخارجيّة الأمريكيّة أوَّل أمس بأنَّها تعارِضُ أيَّ عمليّة عسكريّة تركيّة في شمال وشرق سوريّا. كذلك هي دعوة للحكومة السُّوريّة وروسيّا للكَفِّ عن سياسة المساومة مع تركيّا، والعودة إلى التَّفكير والعمل معاً بكيفيّة تحرير الأراضي التي تحتلُّها تركيّا.
تَطرَّقَ “عبدي” في سياق حديثه إلى أنَّ المناطق التي تنوي تركيّا شَنًّ الهجوم عليها؛ إنَّما يتواجد فيها نحو اثني عشر ألف عسكريّ من القوّات الحكوميّة السُّوريّة، وأنَّ المحادثات بينهم وبين دمشق مستمرّة حول المسائل الأمنيّة والعسكريّة في سبيل الحيلولة دون وقوع العمليّة، ولكنّه أكَّدَ في الوقت ذاته أنَّ دمشق لم تردّ بشكل واضح على دعوتهم للدِّفاع عن تلك المناطق المُهدَّدة بالعدوان. واعتبر أنَّ هذه ضمن مهام القوّات الحكوميّة السُّوريّة.
إذا ما تتبّعنا مسار اللّقاءات المُكثَّفة الجارية في دمشق بين وفد من دائرة العلاقات الخارجيّة برئاسة المسؤول الأوَّل فيها “بدران جيا كُرد” خلال الأيّام القليلة الماضية، وزياراته المكوكيّة بين دمشق والقامشلي؛ يمكن الاستنتاج بأنَّ مواضيعَ عديدة تُدرس من قبل الجانبين، وأهمُّها العمليّة التُّركيّة، وكُلُّ الاعتقاد بأنَّ دمشق والقامشلي ستصلان إلى رؤية مشتركة لمنع وقوع العمليّة، فيما إذا تمكَّنت دمشق من تخفيف الضغوط الرّوسيّة عليها، حيث بات واضحاً أنَّ موسكو تريد التخفيف عن وطأة خسارتها في أوكرانيا عبر نقل جزء من صراعها مع الدّول الغربيّة إلى سوريّا، وإجراء مقايضات سياسيّة وعسكريّة مع تركيّا.
الموضوع الآخر الذي ركَّزَ عليه “عبدي” في حديثه، تمثَّلَ في إمكانيّة إجراء مقايضة بين الولايات المتّحدة وتركيّا، على غرار ما حصل في عام 2019. وأكَّدَ أنَّ الولايات المتّحدة أبلغتهم بشكل رسميّ عن عدم سماحها بتكرار سيناريو 2019. وزيارات المسؤولين الأمريكيّين لمناطق شمال وشرق سوريّا، ولقاءاتهم مع العديد مسؤولي الإدارة الذّاتيّة والقوى السِّياسيّة والشَّعبية، تكشف بوضوح عن توجّهات الولايات المتّحدة بخصوص الحفاظ على أمن واستقرار هذه المناطق، على العكس من ذلك؛ تسعى إلى إمكانيّة فتح حوار بين الإدارة الذّاتيّة وتركيّا، والذي من شأنه أن يساهم في تمهيد الطريق أمام حَلٍّ للأزمة السُّوريّة برُمَّتها. حيث بدأت تتوضَّح شيئاً فشيئاً خطوط الإستراتيجيّة الأمريكيّة في سوريّا، والمتمثّلة بالعودة إلى قرارات الأمم المتّحدة وخاصَّةً القرار 2254، وجمع أطراف المعارضة والحكومة السُّوريّة حول طاولة واحدة في جنيف، وليس تمرير الصفقات مثل روسيّا عبر مسارات أستانا وسوتشي والتي ساهمت في تعميق الأزمة. الولايات المتّحدة تسعى إلى سَدِّ الطرق أمام روسيّا في فرض رؤيتها للحَلِّ في سوريّا، وبالتالي لن تسمح لها بمكافأة أردوغان بشَنِّ عدوان جديد على المنطقة.
فهل ستستجيب الإدارة الأمريكيّة لدعوة قائد (قسد) في نقل التَّعاون بينهما من الجانب العسكريّ إلى السِّياسيّ أيضاً، وبالتّالي فتح المجال أمام الاعتراف بالإدارة الذّاتيّة؟
من جانب آخر ربط “عبدي” عمليّة القضاء النِّهائيّ على تنظيم “داعش” الإرهابيّ بمدى الدَّعم المُقدَّم للإدارة الذّاتيّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، ليس على الصعيد العسكريّ فقط؛ بل على الصعيد الاقتصاديّ لإعادة إعمار المناطق التي دمَّرها الإرهاب، وتعزيز ثقة النّاس بالإدارة الذّاتيّة، ما يُمكِّنَها من إدارة المناطق التي تديرها بالشَّكل الأمثل.
نقطة في غاية الأهميّة شدَّدَ عليها قائد (قسد)، وهي أنَّهم في قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة لم يهدّدوا التَّحالف الدّوليّ بوقف العمليّات ضُدَّ تنظيم “داعش” الإرهابيّ؛ وأنَّه ليس بمقدورهم القتال على جبهتين في حال شَنَّت تركيّا عدواناً على مناطقهم؛ الدِّفاع ضُدَّ العدوان وقتال “داعش”، وهذه دفعت قوّات التَّحالف الدّوليّ وعلى رأسها الولايات المتّحدة إلى تحذير تركيّا من مَغبَّة شَنِّ أيّ عمليّة في مناطق شمال وشرق سوريّا، وهو ما دفع باتّجاه تكوين رأي عام في أوساط دوائر القرار في الدّول الغربيّة لممارسة الضغوط على تركيّا ومنعها من شَنِّ العدوان، كما حصل مع ألمانيا مؤخَّراً، وهي الحليفة الدّائمة والإستراتيجيّة لتركيّا. كما طالب “عبدي” الولايات المتّحدة وروسيّا بعدم فتح المجال الجوّيّ أمام الطيران التُّركيّ، وهذه بحَدِّ ذاتها إشارة قويّة منه بأنَّ بإمكان قوّاته ردع أيَّ عدوان على مناطقهم إن تَمَّ تحييد سلاح الجوّ، وإن تضافرت جهود قوّات (قسد) مع قوّات الحكومة السُّوريّة في هذا المجال؛ فلن يكون بمقدور تركيّا وجميع المرتزقة التّابعين لها إطلاق طلقة واحدة باتّجاه الأراضي السُّوريّة، وهذا الأمر محكوم بمدى التّوافق بين روسيّا والولايات المتّحدة. كذلك فرض العقوبات على حكومة العدالة والتنمية؛ ستجعلها تقلع عن فكرة شَنِّ أيّ عدوان.
المسألة الأكثر حساسيّة والتي أشار إليها “عبدي” هي مسألة العلاقة والتّابعيّة لـ”حزب العمّال الكُردستانيّ”، حيث أكَّدَ أنَّ الأمريكان يعلمون جيّداً أنّ جميع قيادات (قسد) هم سوريّون، ولا علاقة لهم بـ”الكُردستانيّ” مطلقاً، وهم ليسوا فرعاً منه، وهي طالما كانت الذَّريعة التي تتمسَّك بها تركيّا لشَنِّ العدوان على مناطقنا. ولم ينكر “عبدي” أنَّ مقاتلي “الكُردستانيّ” قاتلوا معهم في كوباني، واستشهد منهم ما يقرب من أربعة آلاف مقاتل، وعاد قسم منهم إلى مناطقهم، فيما بقي قسم آخر عالقاً هنا في روج آفا، وهم بذلك أدّوا واجبهم القوميّ تجاه شعبهم الكُرديّ في روج آفا.
وكشف “عبدي” عن أنَّ زعيم حزب العمّال الكُردستانيّ “عبد الله أوجلان” عاش في سوريّا لفترة طويلة، وهناك الملايين من النّاس متعلّقة بفكره وإيديولوجيّته، وذكر بأنَّه شخصيّاً يعرفه جيّداً وعمل معه لفترة طويلة من الزَّمن. ولكنَّه عاد ليشدَّدَ على أنَّ أجندتهم سوريّة، رغم أنَّ البعض من الأشخاص ناضلوا مع حزب العمّال، ولكنَّهم الآن سوريّو التوجّه والتَّفكير.
ولفت “عبدي” الانتباه إلى أنَّ الولايات المتّحدة تسعى إلى خفض التوتّر بينهم وبين تركيّا، عبر محاولة فتح قنوات للحوار، وتبديد المزاعم التُّركيّة حول مخاوفها من حزب العمّال الكُردستانيّ، وأكَّدَ أنَّ مخاوف تركيّا تنبع من القضيّة الكُرديّة وليس من حزب العمّال. وهي قراءة موضوعيّة للفوبيا التُّركيّة من حَلِّ القضيّة الكُرديّة، فقد صَرَّحَ أردوغان أكثر من مَرَّةٍ بأنَّه لن يسمح بتكرار سيناريو شمال العراق (إقليم كردستان) في سوريّا، وسيُنهي الإدارة الذّاتيّة التي يوسمها دائماً بأنَّها كُرديّة الهوى والتوجّه، في حين الحقائق على الأرض تفنّد تلك المزاعم، وتؤكّد أنَّ الإدارة تمثّل جميع المكوّنات في شمال وشرق سوريّا، ولهذا تسعى تركيّا إلى إنشاء تحالفات إقليميّة ودوليّة ضُدَّ الإدارة، واستبعادها من أيّ ترتيبات في سوريّا مستقبلاً، فهي تستخدم نفوذها لدى الدّول الغربيّة وروسيّا في إبعاد الكُرد وإقصائهم من معادلة الحَلِّ السُّوريّة، رغم قناعة ويقين جميع الأطراف الدّوليّة باستحالة الوصول إلى أيّ حَلٍّ للأزمة السُّوريّة دون الكُرد والإدارة الذّاتيّة.
اتّهم “عبدي” تركيّا بخلق الذَّرائع لشَنِّ العدوان، عبر اتّهام قوّاتهم بعدم التزامها باتّفاقيّة سوتشي التي وقّعوها عبر الرَّئيس بوتين مع تركيّا، وأكَّدَ أنَّ قوّاتهم انسحبت من الحدود، وأنَّ القوّات المنتشرة على الحدود مع تركيّا هي قوى الأمن الدّاخليّ، وأنَّهم لن يقبلوا بانسحابها أبداً. وفي هذه المسألة تريد تركيّا رفع الغطاء والحماية الكاملة عن المناطق الحدوديّة؛ ليتسنّى لها دخولها، وبالتّالي احتلالها على غرار مناطق عفرين، سري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض.
وحذَّرَ “عبدي” من الإقدام على توقيع اتّفاقيّة أضنة ثانية والسَّماح لتركيّا بالتوغُّل داخل الأراضي السُّوريّة مسافة /32/ كم، وهو ما تستميت تركيّا في الحصول عليها، عبر محاولة استمالة كُلّ من روسيّا والحكومة السُّوريّة، ولكنَّ الأخيرة لن تُجازِفَ بوضع يدها في يد أردوغان الذي ساهم إلى حَدٍّ كبير في تدمير سوريّا وقتل شعبها وتشريدهم، ومهما اقتضت الضرورة السِّياسيّة لذلك.
السّيناريو الذي رسمه “عبدي” حول ماهيّة وشكل الحرب في حال أقدمت تركيّا على شَنِّ العدوان، وتأكيده أنَّ كوباني لن تسقط، وستكون حرباً كبيرة وتخلّف دماراً هائلاً، ولن تحقّقَ تركيّا حُلُمها بالسَّيطرة عليها؛ أعاد إلى الأذهان سيناريو تحرير المدينة من تنظيم “داعش” الإرهابيّ، والتي مَرَّت ذكراها قبل أيّام، حيث قال أردوغان حينها “كوباني سقطت، أو هي على وشك السقوط”. ويبدو أنَّ “عبدي” يستمِدُّ هذه الثّقة الكبيرة من قوّاته وقدرتها على ردع العدوان، إضافة إلى تطوّر الحوارات مع الحكومة السُّوريّة، والتي ستدُقُّ إسفيناً في مسار المصالحة بينها وبين تركيّا، رغم الضغوط الرّوسيّة على دمشق.
مَيَّزَ “عبدي” بين الإدارة الذّاتيّة ومشروعها السِّياسيّ وبين أطراف المعارضة الأخرى، عبر التأكيد أنَّ مشروعهم يقضي الاعتراف بالإدارة الذّاتيّة من قبل حكومة دمشق، وترك حماية مناطق شمال وشرق سوريّا لقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة وقوى الأمن الدّاخليّ، وكُلُّها تحت العلم السُّوريّ. ويبدو أنَّه البرنامج السِّياسيّ الأكثر واقعيةً بالنسبة لسوريّا والمنطقة عموماً، فهل ستوافق دمشق عليه، أم ستجري وراء الأكاذيب والتَّضليل التُّركيّ في المصالحة وتطبيع العلاقات، رغم وعورة هذا المسار ومعارضة عِدَّةِ أطراف دولية وإقليمية وحتّى محلّيّة لها؟ الأيّام القليلة ستكشف حقيقة مواقف الجميع، ولكن بكُلّ الأحوال الأيّام والأشهر القادمة ستكون دون أدنى شَكٍّ حافلة بالتطوّرات التي من شأنها أن تُغيّر اتّجاهات الأزمة السُّوريّة، وتضعها على سِكّةٍ جديدة.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..