واشنطن وأنقرة.. وحوار الطرشان
جميل رشيد
شكّلت زيارة وزير الخارجيّة التركيّ مولود جاويش أوغلو للولايات المتّحدة الأمريكيّة، في هذه المرحلة الدَّقيقة التي تَمُرُّ بها تركيّا، منعطفاً، رُبَّما تقلب معها جميع حسابات أردوغان وتحالفه الفاشيّ الحاكم، ولم تأتِ كما خطّط ورغب بها أردوغان.
فرغم أنَّ الزّيارة جاءت في سياق الاجتماعات الدَّوريّة الإستراتيجيّة الرّوتينيّة بين الولايات المتّحدة وتركيّا؛ إلا أنَّ لها دلالات مغايرة في هذه الفترة الحرجة التي تَمُرُّ بها العلاقات الأمريكيّة – التركيّة، خاصَّةً بعد إعلان الأخيرة عن سعيها لتطبيع علاقاتها مع الحكومة السُّوريّة، إثر توتّر بينهما دام أكثر من عقد من الزَّمن بسبب دعم تركيّا للفصائل الإرهابيّة الجهاديّة المُتطرِّفة في سوريّا.
بكُلِّ الأحوال لا يمكن إسقاط الجانب الأمنيّ والاستخباراتيّ عن الزّيارة، وحصرها في جانبها السِّياسيّ فقط، فتشديد الولايات المتّحدة على مكافحة الإرهاب بالنِّسبة لها أولويّة، وخاصَّةً في منطقة الشَّرق الأوسط، وهذه بحَدِّ ذاتها نقطة خلافيّة كبيرة بين الجانبين، إذ لاتزال تركيّا تدعم التَّنظيمات الإرهابيّة، وتُقدِّمُ لها الدَّعم والمأوى، بما فيها “داعش والنُّصرة” وباقي فصائل المرتزقة المنضوية تحت ما يُسمّى “الجيش الوطنيّ السُّوريّ”، وبالأخصِّ في المناطق التي تحتلّها في سوريّا، بما فيها إدلب.
حسب البيان الصادر عن الطرفين بعد انتهاء الاجتماعات بينهما، لم يطرأ أيُّ جديدٍ على الموقف الأمريكيّ، بل حتّى صفقة طائرات “إف – 16” لتركيّا، ربطتها الولايات المتّحدة بدورها في أوكرانيا، ومدى قدرة تركيّا الابتعاد عن روسيّا، والعودة بفعّاليّة إلى منظومة “الناتو” وتنفيذ خططها في أوكرانيا، وبأن تكُفَّ عن لعب دور البهلوان بين الطرفين، حيث ضغط وزير الخارجيّة الأمريكيّ أنتوني بلينكن على أوغلو بضرورة موافقة بلاده على انضمام كُلٍّ من السّويد وفنلندا إلى حلف “النّاتو”، ودون شروط، أو وقع عوائق أمام انضمامهما.
يبدو أنَّ جاويش أوغلو عاد من واشنطن خالي الوفاض، ولم يتمكّن من ثَنيِ الولايات المتّحدة لتُغيّر سياساتها تجاه دعم قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة والإدارة الذّاتيّة في شمال وشرق سوريّا في إطار مكافحة الإرهاب، كما أكَّدت واشنطن لأوغلو عدم سماحها بشَنِّ بلاده أيَّ عدوانٍ جديدٍ على الأراضي السُّوريّة، وهو ما يبحث عنه أردوغان ليحقّق من خلاله نصراً في صناديق الانتخابات القادمة التي استقدم موعدها إلى 14 مايو/ أيّار القادم.
وكان مستشار الأمن القومي الأمريكيّ السابق جون بولتون قد طالب، في وقت سابق، بطرد تركيّا من صفوف حلف “النّاتو”، نظراً لانحيازها إلى جانب روسيّا، خاصَّةً بعد شرائها منظومة صواريخ “إس – 400” والتي تتعارض مع المنظومة العسكريّة الغربية، واستبعادها من برنامج إنتاج طائرات “إف – 35”. فيما طالب “مايكل روبين” الباحث المقيم في معهد أمريكان إنتربرايز (AEI)، والمحاضر الكبير في كليّة الدِّراسات العليا البحريّة، وكان يعمل سابقاً بمنصب مسؤول في وزارة الدفاع، حيث تعامل مع قضايا الشَّرقِ الأوسط، طالب بضرورة إخراج القوّات التركيّة من المناطق التي تحتلُّها في روج آفا وسوريّا، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات بحقِّ الشَّعب الكُرديّ والسُّوريّ في المناطق المُحتلّة من قبل تركيّا، وكذلك إسراع الولايات المتّحدة الاعتراف بالإدارة الذّاتيّة في شمال وشرق سوريّا. جميع هذه الملفّات كانت حاضرة على طاولة لقاء الوزيرين. وحسب وسائل الإعلام الأمريكيّة؛ فإنَّ أوغلو لم يُقدِّم أيَّ ضمانات للجانب الأمريكيّ بالابتعاد عن روسيّا والعودة إلى حضن “النّاتو”، وظَلَّ يراوغ مثل رئيسه، في مسعى لنيل موافقة الولايات المتّحدة في شَنِّ عدوانٍ جديدٍ على مناطق شمال وشرق سوريّا. فيما دعت زعيمة الأغلبيّة في مجلس النوّاب الأمريكيّ “نانسي بيلوسي” وعضو المجلس “بوب مينينديز” إلى إسقاط الرَّئيس التُّركيّ في الانتخابات القادمة، وهذه الدَّعوة تتوافق مع رغبة الرَّئيس الأمريكيّ جو بايدن الذي تعهَّد في بيانه الانتخابيّ قُبيل انتخابه رئيساً بإسقاط الرَّئيس التُّركيّ أردوغان، فهل يَصدُق بايدن مع وعوده؟
عمدت تركيّا بعد زيارة أوغلو لواشنطن إلى التحرّك بكثافة على السّاحة السُّوريّة، وفق متطلّبات المصلحة الرّوسيّة، وليس وفق أسس ومبادئ “النّاتو”، فالحديث المُتداول الآن عن فتح الطريق الدّوليّ (M4) بين حلب واللّاذقية، وبضمانات روسيّة وتركيّة وأخرى من الحكومة السُّوريّة، قابله انسحاب لـ”هيئة تحرير الشّام/ جبهة النُّصرة سابقاً” الإرهابيّة من مناطق عديدة محيطة بالطريق، وأهمُّها جبل الزّاوية ومناطق جسر الشغور، وبأوامر وتعليماتٍ تركيّةٍ. التحرُّكات التُّركيّة هذه تُنسف التَّنسيق مع الولايات المتّحدة في سوريّا. كما أنَّ بعض التَّسريبات التي تحدَّثت عنها صحيفة الشَّرق الأوسط، بشروع “هيئة تحرير الشّام” إلى بيع سلاحها الثَّقيل، من دبّابات ومدافع ثقيلة وراجمات صواريخ، بزعم أنَّ المعركة مع الحكومة السُّوريّة لم تَعُدْ تتطلَّب سلاحاً ثقيلاً، بل يمكن إدارتها بالسّلاح الخفيف، وهو ما يعني أنَّ قطار التسوية مع الحكومة السُّوريّة يسير باتّجاه ما خطَّطت له روسيّا، في بسط سيطرة الحكومة السُّوريّة على إدلب وتفكيك الجماعات الإرهابيّة، والتي تحدثت أنباء عديدة بأنَّ مجموعات كبيرة منها وصلت إلى أوكرانيا لتقاتل جانب الجيش الرّوسيّ.
لا يمكن الجزم بأنَّ تركيّا جادّة في مساعيها للانسحاب من الأراضي السُّوريّة التي تَحتلُّها، بالمقابل الشَّرط الذي تفرضه على الحكومة السُّوريّة بإنهاء الإدارة الذّاتيّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، هو ضرب من ضروب التَّعجيز والمماطلة في الانسحاب. فالكُلُّ يدرك أنَّ أردوغان سينقلب على كُلّ التَّفاهمات والاتّفاقيّات التي عقدها مع روسيّا والحكومة السُّوريّة مُجرَّدَ فوزه في الانتخابات.
في حين أنَّ زيارة وزير الخارجيّة الإيرانيّ “حسين أمير عبد اللهيان” إلى أنقرة، هي الأخرى لم تحقّق ما يصبو إليه أردوغان في الضغط على حكومة دمشق في قبول الشَّرط التركيّ بمحاربة الإدارة الذّاتيّة. إيران على قناعة تامَّة أنَّ أيَّ تَمدُّدٍ تركيّ في سوريّا؛ إنَّما سيقوِّض وجودها، وبالتّالي أيَّ مصالحة بينهما رُبَّما تُشكّل قاعدة لمحاربتها مستقبلاً، وهو ما دفعها لِتُبدي مقاربات حذرة من المصالحة، فهي على العكس من ذلك، زادت من دعمها للحكومة السُّوريّة، ما جعلها تُشدِّد على شروطها في تحقيق الانسحاب التركيّ من الأراضي السُّوريّة التي تَحتلُّها، قبل البدء بأيِّ عمليّة تطبيع للعلاقات، وهو ما شكَّلَ امتعاضاً لدى روسيّا، التي تحاول الإسراع في عمليّة المصالحة وتطبيع العلاقات بين البلدين.
يبقى الهاجس التُّركيّ المُتمثّل بمحاربة الكُرد في جميع أجزاء كُردستان، يطغى على جميع علاقات تركيّا مع الدّول الأخرى. فقد عاد التوتُّر للعلاقات بينها وبين السّويد، لمُجرّد أنَّ السّويد لم تنفِّذ شرطها بتسليمها النُّشطاء الكُرد على أراضيها، حيث لم تتمكّن من خرق قوانينها، بل احترمتها، وهو ما لا تُعيرُهُ تركيّا وأردوغان أيَّ اعتبار. وعاد أردوغان يرغد ويزبد ويُهدِّد السّويد بعدم الموافقة على انضمامها إلى “النّاتو”. كما أنَّ الأزمة التي افتعلها المواطن السّويديّ العنصريّ بحرق القرآن الكريم، من المحتمل أن تكون إحدى المُنظّمات الفاشيّة التُّركيّة العنصريّة، مثل “الذّئاب الرَّماديّة” تقف وراءها، لتقدِّمَ لأردوغان هديّة انتخابيّة، وعلى طبقٍ من ذهب. فما إن وقعت الحادثة؛ حتّى بدأت الأبواق الإعلاميّة لأردوغان بالتَّطبيل والتَّزمير، وحشد النّاس في السّاحات والشَّوارع، وإظهار أردوغان بأنَّه المُدافع عن الإسلام والقرآن. فهو يحاول أن يَبتزَّ السُّويد وجميع الدّول الأوروبيّة في سبيل كسب نقاط إضافيّة تساعده في الفوز بالانتخابات المقبلة.
لا يَخفى على أحد أنَّ أردوغان يناور بكُلِّ قوة في سبيل الفوز في الانتخابات القادمة، فيما تتّسع جبهة المعارضة الدّاخليّة والخارجيّة ضُدَّهُ، حيث تطرح الأحزاب المعارضة برامج انتخابيّة أكثر واقعيّة منه، في ظِلِّ الأزمات المتلاحقة التي تعصف بتركيّا، فيما يُشكّل حزب الشعوب الديمقراطية الكفَّة الرّاجحة لفوز أيِّ طرفٍ بالأغلبيّة في الانتخابات وتشكيل الحكومة. لا شَكَّ أنَّ خسارة أردوغان في الانتخابات ستكون مدوّية، ولها تداعياتها على الدّاخل التركيّ والمنطقة، بشكل عام. فالخسارة بالنِّسبة له موتٌ سياسيٌّ والخروج من المشهد السِّياسيّ التُّركيّ أبداً، في حين تتكهَّن أوساط أخرى أن يكون مصيره السِّجن أو الاغتيال، فهل ستنقذه الولايات المتّحدة والغرب عموماً من مصيره المحتوم الذي ينتظره، أم أنَّ له مَهام ووظائفَ أخرى يجب عليه إكمالها قبل الإطاحة به؟ الأيّام القادمة ستُبيّن الخيط الأسود من الأبيض!
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..