خفايا لقاء بايدن وأردوغان
محمد عيسى | مجهر
إنَّ القضيَّة الأكثر إثارة للرَّأي العام اليوم؛ بل التي تكاد تكون قضيَّة السّاعة في الأوساط السِّياسيّة والإعلاميّة؛ هي عزم تركيّا شَنَّ عمليّة عسكريّة؛ بقصد إنشاء “منطقة آمنة” داخل الأراضي السُّوريّة وعلى طول الحدود بعمق يصل إلى ثلاثين كيلو متراً؛ بحُجَّة “توطين اللّاجئين السُّوريّين” فيها. وتزعم أنَّها قد حصلت من أجل تنفيذ ذلك على “تَفهُّمٍ دوليٍّ”، أو ستحصل على “تَفهُّم” العالم لخطوتها، وأنَّ واحدة من أهمِّ تلك التَّفاهمات قد جاءت بعد قمّة الناتو الأخيرة والتي عقدت في مدريد بإسبانيا.
بعد لقاء بايدن – أردوغان، والذي توحي بنتيجته الأوساط الإعلاميّة والسِّياسيّة التُّركيّة؛ بأنَّ ضوءاً يميل إلى “الخضرة”، وسيميل أكثر، قد حصلت عليه أنقرة من واشنطن.
ضوءٌ يُمهِّدُ الطريق نحو تنفيذ متدرّج لمشروع أردوغان قد تبدأ به أنقرة في أيِّ لحظة، بحسب كلامها. وأيّاً يكن الدُّخان الذي تُطلقه البروباغاندا الإعلاميّة التُّركيّة حول العمليّة المزمع قيامها؛ فليس خافياً على أحد في هذا العالم ماهيّة الأهداف التي تضمرها أنقرة من ورائها، والتي باتت مكشوفة حتّى للسُّوريّين أنفسهم، والذين تدَّعي أنَّها بصدد توطينهم وإيجاد مخارج لمعاناتهم، حيث لم يبدو حماساً كبيراً لهذه الخطوة المحتملة.
أهدافٌ تمعن السِّياسة التُّركيّة في المراوغة حولها وتعجز عن إخفائها، وتدور حول غرضين أساسيّين: الأوَّل احتلال الأراضي السُّوريّة وضَمَّها إلى الأراضي التُّركيّة، بعد تتريكها، عبر قضمٍ متتالٍ ومتدرِّجٍ، على غرار تجربتها الاحتلاليّة للواء إسكندرون وما قبلها، لتحاول تكرارها في عفرين وتل أبيض ورأس العين. والغرض الثّاني؛ الإجهاز على قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة (قسد)، ومن ثُمَّ تقويض ووأد تجربة مجلس سوريّا الدّيمقراطيّة (مسد) اعتبارها مولوداً يُشكِّلُ عامل قلق يَقُضُّ مضجع الإسلامويّين والقومجيّين ونواتج الاستبداد في تركيّا والمنطقة بشكل عام.
وإذا كان كُلُّ ما تَقدَّمَ يُفصح عن النَّوايا التُّركيّة ومن يدور في فلكها في الإقليم من قوى ماضويّة واستبداديّة مأزومة، فشلت في تقديم شيء غير الحرب والتخلّفَ لشعوب المنطقة، فسيبقى السّؤال الأهمّ؛ هو ماذا في موقف الدّول الكبرى في النّاتو وفي بقيّة دول العالم من الأهداف الآنفة الذِّكر.
وهنا تُشخَّصُ جُملةٌ من الحقائق والمعطيات التي توصف البيئة السِّياسيّة وتتحكَّم بالمناخ السّائد الذي ستجري فيه العمليّة، إن وقعت، والذي يغيب أو يعتور نظرة مهندسي السِّياسة التُّركيّة وعلى رأسها أردوغان.
نكاد نلمس تَغيُّراً كبيراً في الوظيفة التي نشأ من أجلها النّاتو كحلف، ليصبح من بينها “الوقاية من الأزمات”، وتوسُّعاً في مهامه، ليشمل مناطق جغرافيّة جديدة لم تعد بموجبها الجغرافيا السِّياسيّة التُّركيّة تحظى بنفس الأهميّة، مع ملاحظة التحوُّل الذي طرأ على الظروف التي نشأ في سياقها الحلف وعمل لمواجهتها. فالاتِّحاد السُّوفيتي لم يَعُدْ قائماً والشّيوعيّة لم تعد تحدّياً أيديولوجيّاً للغرب، ما استدعى الإسلام السِّياسيّ للتَّعاون والتوظيف في مواجهته. وعند هذه النُّقطة تراجعت كثيراً أهميّة تركيّا “الإسلاميّة” كحدود جنوبيّة لحلف وارسو الذي لم يعد قائماً هو الآخر.
غياب الخطر الشِّيوعيّ؛ أفسح المجال لنشوء مخاطر وتحدّيات أخرى، كان على رأسها الإرهاب، والذي كان في جُلِّه منتوجاً خرج من معطف الإسلام السِّياسيّ، والذي تتفرَّدُ أنقرة وقِلَّةٌ من الّدول الآن من بينها إيران وقطر على احتضانه. ومع تبلور هذا الوضع؛ تتبلور سمة جديدة للعصر؛ وهي المواجهة مع الإرهاب الإسلاميّ، بعد أن كانت في أغلب حقب القرن الماضي المواجهة مع الشِّيوعيّة، ما أدّى إلى انتقال تركيّا من موقع الحليف إلى موقع مصنع الخطر.
وعلى نفس السِّياق، وإذا كان الشيء بالشيء يذكر؛ فتركيّا الأردوغانيّة، تركيّا تحالف حزب العدالة والتنمية مع حزب الحركة القوميّة، تذكِّرُ بنشوء الحركة النّازيّة في أوائل القرن الماضي، وذلك في سعيها إلى إيقاظ حلم الخلافة العثمانيّة. فتبدأ بتوتير الأجواء مع الصّين الشَّعبيّة، عبر محاولة شَدِّ جماعة الإيغور ذويّ الأصول التُّركيّة، لتصل إلى تهديد الاتّحاد الرّوسيّ عبر إشاعة الخطاب الإسلاميّ وإيقاظ وتنمية مشاعر الانفصال بين أعراق الجمهوريّات السّوفيتيّة السّابقة.
وأيضاً، وضمن ثوابت سياسة الغرب الرّأسماليّ، أو ضمن ما درجت على تسميته أو ما تعرف باسم “دول الشّمال” على انتهاجه خلال القرنين الماضيّين تجاه المشاريع العابرة للحدود في المنطقة، يبرز تساؤل كبير يقول هل سيتساهل هذا الغرب المتحضّر اليوم مع انطلاق وتطوّر المشروع الكونيّ الإسلاميّ التُّركيّ أو حتّى الإيراني، وهو الذي لم يتهاون طيلة الأحقاب والقرون الماضية مع المشاريع الطامحة لعبور حدودها الوطنيّة، بدءاً بحملات “مُحمَّد علي باشا” نحو شرق المتوسِّط وأوروبا، مروراً بالموقف من دور “عبد النّاصر” بعد تآخيه مع البعث السُّوريّ في ستينات القرن الماضي، وانتهاء مع صدّام حسين؟ هل سيُهادن الغرب أو حتّى المجتمع الدّوليّ مع هذا المشروع الذي يريد أو يسعى نحو استنساخٍ فجٍّ للتّاريخ عبر سياسة راقصة بين الحوائج الأمريكيّة والرّوسيّة؟
إلى ذلك وفي ضوء ما تقدَّم؛ هل سيكون من المنطقيّ أن يُفرِّطَ المجتمع الدّوليّ بمصالح الكُرد أو بالأعراق والإثنيّات التي تمرَّست على تكريس ثقافة العلمنة وعلى إشاعة المفاهيم والقيم الديمقراطيّة في حياتها، وهل سيكون من الواقعيّ تجاهل الأهميّة التّاريخيّة لـ(مسد) كرأس حربة في شَقِّ طريق المدنيّة والتحضُّر وخلق بيئة تحاكي هموم العصر؟
جواب الزَّمن هو من يستحقُّ التأمُّل فيه وحوله، هو هل يكون الضوء الممنوح لأردوغان هو أخضر بالفعل، أم هو على طريقة الضوء الذي أعطي لصدّام في تسعين القرن الماضي بغزوه للكويت؟
الآراء المنشورة في المنصة تعبّر عن وجهة نظر كتّابها