حينما يغدو رأس المعارضة السورية مادة للمقايضة
محمد عيسى
مصالحة في غير مكانها وزمانها، ولم تنضج أو تتوفر أي من شروطها، وقد تكون أدخلت جميع الفرقاء وحتى مروّجيها ودُعاتها أنفسهم بالحائط. ومن يراقب سيل التعليقات والمواقف التي تتدفق كل ساعة، حول ما بات يُعرف بحديث الساعة أو أحجيتها “الانعطافة التركية نحو سوريا”، أو “الاستدارة التركية المباغتة حول سوريا”؛ يخرج بنتيجة واحدة؛ هو أن جو الدهشة والتخبط والارتباك ما زال هو سيد الموقف.
فالنظام التركي الذي عمل مبكراً على تلويث الأجواء في الثورة السورية، وتأسين مياهها، عبر سرقة قرارها المستقل وأسلمة خيارها، أو حتى “تسنين” معقلها ووقودها، يدفع اليوم ثمن ما صنعت يداه، ويواجه عواقب ما يمكن اعتباره زج الدين بالسياسة. فهو لم يتسبب فقط بهزيمة هذا النمط من الثورات، بل أيضاً صار عليه أن يتحمل ارتدادات الفاشلين فيها. وعلى قاعدة أن الأيديولوجيات حين تعمل لا تجري على طريق العربة، ولا يمكن تعديل مسارها كما يرغب السائق، بل هي حمّالة أوجه، وقد تعمل ضد مُطلقها في لحظة معينة، وما تجربة الأمريكان مع تنظيم “القاعدة”؛ إلا خيرُ دليلٍ على تعقيدات محتملة ستواجه التوجّه الأردوغاني الجديد.
أما حول اللَبوس الإيديولوجي الإسلامي للمعارضة السورية، وتورّط أنقرة منذ اللحظة الأولى لانطلاق الحراك في 2011، يذهب الكاتب السياسي البارز “محمد سيد رصاص” في آخر مقال له إلى أن المجلس الوطني السوري وبعده الإئتلاف، ثم ظهور الجيش الحر، كلها تشكيلات قد اتخذ قرار إنشائها وصياغة توجهاتها في إسطنبول بين أعوام 2011 و2013، وكان لتنظيم “الإخوان المسلمين” دور الغلبة في تركيبتها، مع ملاحظة احتوائها إلى جانب الإخواني البارز “فاروق طيفور” وزمرته، على بعض ما أسماهم بـ”الليبراليين” الجُدُد أمثال “جورج صبرا” و”سهير الأتاسي” وغيرهم ممن ظهروا بعد إعلان دمشق في 2005، وقد انحدروا في غالبيتهم من صفوف “حزب الشعب الديمقراطي” الذي أسسه الشيوعي المعارض “رياض الترك”، والذي ارتبط اسمه وتياره بعلاقات تحالف مع “الإخوان المسلمين” منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي. فهؤلاء الليبراليين حلفاء “الإخوان المسلمين” التاريخيين، لم يكونوا أقل من الإخوان تعويلاً على تركيا ودور أردوغان، حيث اعتقدوا بأن أمريكا قد منحته تفويضاً في المسألة السورية، على طريقة “ساركوزي” في الملف الليبي، لتنهار أحلامهم بعد حصول الطلاق بين أمريكا والإخوان وحزب العدالة والتنمية، غَداة دعم أمريكا لنظام “السيسي” في مصر في مواجهة نظام “مرسي” الإخواني، وليصبحوا، كما أشار الكاتب، بعد التطورات الأخيرة، وبعد سلسلة المقايضات الروسية التركية، بلا وزن ولا إرادة أو معنى.
وعلى نفس المنوال؛ وفي تناوُلٍ ناقدٍ ممنهجٍ وجريءٍ، يقدم المفكر الناقد “ياسين الحاج صالح”، مقاربة لواقع الثورة السورية والمعارضة، نشرها موقع “سفينة السفينة”، يَخلُص فيها إلى حقيقة مفادها؛ أن الثورة قد هُزِمت وأن مقتلها قد تأتى ليس عن أسلمتها فقط؛ بل من خلال “تسنينها” أيضاً، وأن دور أنقرة في فرض فهمها ونموذج تفكيرها و”تسويد” مجلس مشايخ من المسلمين “السنة” يقيمون في إسطنبول أو أنقرة لا يعرفون سوريا ولا يمتّون بصلة إلى “الإسلام الشامي الوسطي” على كادرات الثورة، ويُكِنّون أعتى مشاعر الحقد والنكران لدور ووجود الأقليات الدينية والعرقية. وليس هذا فحسب، بل يبرز الكاتب ضلوع أنقرة في تكريس أو خلق نماذج قصيرة القامة في مؤسسات الثورة والمعارضة أمثال “زهران علوش” و”أبو محمد الجولاني” والنابغة “أبو عمشة”.
فهذه هي المعارضة التي نمت وترعرعت في الحضن التركي حيناً والقطري حيناً آخر، ثم سُوِّقَت إلى المجتمع الدولي وإلى لجان التفاوض واللجان الدستورية وما شابه. معارضة إسلاموية الهوى والعقيدة، نمطية التفكير تابعة ومؤتَمرة بما يوحى إليها من المراكز الروحية والاستخبارية المموّلة. واليوم ستواجه مصيرها في خلوة الصفقات، كما يواجه أي قطيع معروض للبيع في بازار لتبادل السلع، وستقدم فلولها هي الأخرى مظاهر خيبة أملها وردّات فعلها نحو مشغلها وزارع الأوهام في رأسها. ومن الحرّيِ بالذكر أن إرهاصات عديدة بدأت بالظهور وتشير إلى ذلك، ويدخل ضمن هذا الاعتبار، أو يمكن النظر لردّات الفعل الشعبية التي ظهرت في أرياف إدلب وفي بعض مناطق النفوذ التركية، والتي رافقتها تصريحات مندّدة بخطوات التقارب مع دمشق من قبل رئيس ما يُدعى بالحكومة المؤقتة، ثم جرى التراجع عنها، وقد تكرَّر نفس الموقف مع “الجولاني” الذي ندَّد بالاتفاق، ثم تراجع عن تنديده بقوله “أن أهداف أنقرة، وبتركيزها على مجابهة خطر قوات سوريا الديمقراطية الانفصالية”، بحسب زعمه، “مازالت تنسجم مع أهداف الثورة السورية”.
وإلى ذلك يمكن القول إن الموقف ونقيضه يمكن أن يكون في مواجهة الحسابات الأردوغانية في حال تقدَّمَ قطار التسوية إلى نتائج فعلية وسياسية معتبرة.
يبقى السؤال الأهم في هذه القضية؛ هل ثمة فرص جدية لنجاح خطوات التصالح التي تجهد الدبلوماسية الروسية، والتي انضمت إليها جهود وزير خارجية إيران “النهيان”، للدفع بها أو تمريرها ضمن الحقول الشائكة، والتي اتفق جميع المراقبين أن من الصعوبة بمكان القفز من فوقها، ولأن واحدة من أهمّ تجلّيات عوامل الفشل التي تقف في طريقها هو موقف الرئيس بشار الأسد، الذي لا يرى أن من مصلحته السير قُدُماً في تعبيد طريق أردوغان نحو تحقيق نجاح انتخابي قبل أشهر قليلة من موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وهو العدو الذي كان سبباً كبيراً في متاعبه، وسيكون كذلك في يقين الأسد، فيما لو كتب له النجاح. لذلك نشهد تهرُّباً من قبل المسؤولين في دمشق من تقريب مواعيد اللقاءات مع نظراتهم الأتراك، وكما نلاحظ رفعاً لسقوف الاشتراطات.
وفي سياق ذي صلة؛ يذهب السفير الأمريكي السابق لدى دمشق روبرت فورد، وفي أحدث ظهور له، وفي سياق انتقاده لسياسة بلاده تجاه دمشق إلى حد القول، إن أردوغان نفسه ليس جادّاً في التطبيع مع دمشق، إنما يريد فقط أن يُطلق عملية تفاوض، وهو يعلم أنها لن تصل إلى نتائج حاسمة على المدى المنظور، إنما هو متيقن من حاجته الشكلية للبدء بعملية تفاوضية، نظراً لأن الشارع الانتخابي التركي يريدها للخلاص من وزر اللاجئين، ولأن استطلاعات الرأي تؤيد الشروع بعملية تفاوض.
ومن جهة أخرى، وبمعزل عن الجدية وعن المصداقية في التوجهات التركية ودوافعها، يبقى مصير هكذا مبادرة مرهون بعاملين، الأول؛ أمريكي، حيث لا توجد أية دلائل تفيد بأنه راضٍ عنها أو سيأخذ موقفاً محايداً نحوها.
والثاني؛ يتمثل بالعامل العربي، الذي بدأ بالظهور في المعادلة السورية عبر البيان السعودي – المصري الأخير.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..