تركيا ومحاولة نيل صك احتلالها للمناطق السورية
جميل رشيد
تتوالى التصريحات المتناقضة من مسؤولي النظام التركي، بما فيها الرئيس أردوغان، حول جهود تركيا لإجراء المصالحة مع الحكومة السورية، والتي يبدو أنها دخلت في سباق مع الزمن، مع الإعلان عن قرب لقاء ثانٍ يجمع وزيري خارجية البلدين في موسكو أو في الإمارات العربية المتحدة.
يمكن للمرء أن يستدلَّ من خلال تسريع عملية “المصالحة” من طرف الجانب التركي، والتي ترى بأن المخرج من الأزمات التي تمر بها؛ لا تتم إلا بإتمام هذه المصالحة، وإن كانت شروطها قاسية وتتطلب تنازلات كبيرة، ربما تتجاوز الانسحاب من الأراضي السورية المحتلة وتفكيك الميليشيات والمنظمات الإرهابية، أو حتى تسليمها للحكومة السورية، وعلى طبق من ذهب.
إن إعادة تطبيع العلاقات، بما فيها الدبلوماسية والاقتصادية، بين البلدين، تحتاج بالدرجة الأولى إلى مناخ إقليمي ودولي مناسب يساعد في ترجمة أي اتفاق إلى واقع يعكس سلاماً وأمناً في جميع المناطق السورية، وليس إجراء صفقات على غرار ما تم في أعوام 2016 وحتى 2018 في حلب والغوطة مقابل مناطق جرابلس والباب وإعزاز وعفرين. ويبدو من سياق مباحثات اجتماع موسكو؛ أن المقاربة من الأزمة السورية وتعقيداتها؛ لم يطرأ عليها أي تغيير، أي انحصرت مرة أخرى في محاولة تمرير صفقات سرية بين الطرفين، يحقق لهما بعض المكاسب الآنية، وخاصة أردوغان وبوتين، والتخلص من قسم من أزماتهما الضاغطة، للتحضير ودخول الانتخابات بمواقف قوية، مقابل حصول بوتين على متنفس من حربه في أوكرانيا، فيما الجانب السوري، يبدو أنه في غير عجلة من أمره، لطالما أن الجانب التركي مقدم على إبداء تنازلات مصيرية، قد تغير منحى الأزمة السورية برمتها.
يطفو على السطح في خضم اللقاءات المكثفة التي تجرى بين الطرفين، ودائماً برعاية وحضور روسي، أن حجم الملفات العالقة بينهما لا يمكن حلها خلال وقت قصير، أو بكلمة أوضح؛ قبل حلول موعد الانتخابات التركية في يونيو/ حزيران المقبل، وهو ما يدأب عليه أردوغان في حصول عملية المصالحة والتطبيع قبلها. فالاشتراطات التي وضعتها الحكومة السورية أمام أردوغان، بالانسحاب من الأراضي المحتلة فوراً، وتسليم قادة المعارضة المدعومة منه والمقيمة على أراضيه، وفتح المعابر، وتسليم الطريق الدولي (M4) إلى الحكومة السورية، ليس بمقدور أردوغان حلها دفعة واحدة، حتى وإن وافق عليها. إلى جانب أنه – أي أردوغان – لن يغامر ويرمي بكامل أوراقه أمام الحكومة السورية، بل سيحتفظ ببعض منها، مثل المرتزقة الموالين له، وهو ما صرح به أكثر من شخصية قيادية في الإئتلاف وما تسمى “الحكومة المؤقتة”. فهي الورقة الرابحة بيده، ولن يفرِّطَ بها بتلك السهولة المتوقعة.
كما أن الشرط التركي الوحيد المتمثل بإنهاء الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، هو ضرب من المستحيل، في ظل الظروف والتوازنات العسكرية والسياسية القائمة في سوريا والمنطقة. فبعد أن فشلت تركيا في الحصول على ضوء أخضر من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية في شن عدوان بري جديد على مناطق شمال وشرق سوريا، أدار أردوغان بوصلته نحو الحكومة السورية، لدفعها إلى فتح مواجهة مع الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، رغم أن الظروف الموضوعية والذاتية غير مؤهلة لبدء هكذا صراع، قد يأتي على الأخضر واليابس، ولن تجني منه الحكومة السورية أي نتيجة.
فوجود الإدارة الذاتية يشكل هاجساً لدى دمشق أيضاً، فالإدارة تستحوذ على 70% من الثروات في سوريا وهي سلة الغذاء لسوريا، وتتقاطع رغبتها هذه مع الطموح التركي في التخلص منها، بأي شكل من الأشكال، ولكن هناك أطراف داخل الحكومة السورية، تدعو إلى الحوار مع الإدارة الذاتية والوصول إلى تفاهمات تسهم في حل الأزمة السورية، وتتقاسم فيها الثروات، وهو ما لم تعارضه الإدارة الذاتية.
إن فكرة بدء دمشق مواجهة مع قوات سوريا الديمقراطية، غير واردة في الظروف الراهنة، كما أن الشرط التركي الآخر المتضمن الدفع باتجاه توقيع الحكومة السورية اتفاقية أضنه ثانية معها، أيضاً مستبعدة، في ظل الصراع الدائر في سوريا، وتدخل قوى عالمية فيه. فأي اتفاق بين الطرفين إن لم يحظَ بموافقة الولايات المتحدة وروسيا، لن يكون له أي أثر على الأرض، ويبقى في حكم الميت، هذا في حال اتفق الطرفان على توقيعه. فتركيا تدعو إلى توسيع نطاق تدخلها في سوريا لتشمل التوغل في أراضيها بعمق /32/ كم، بزعم ملاحقة عناصر “إرهابية”، وهو ما يعني الاحتفاظ بالمناطق التي تحتلها في الشمال السوري، بما فيها عفرين وسري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض. أي أن تركيا تسعى إلى أخذ صك تنازل من الحكومة السورية عن المناطق التي تحتلها، وهو غير وارد في مطلق الأحوال، حتى وإن كانت لدى دمشق مصلحة في تخفيف أنقرة من أثر العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة وأوروبا عليه.
كما أن أي تحرك عسكري من قبل الحكومة السورية أو تركيا ضد الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، قد يؤدي إلى صدام مع الجانب الأمريكي، وهو ما لا تحبذه دمشق، ولا تجرؤ أنقرة أيضاً إلى المغامرة فيها.
ولقاء وزيري خارجية البلدين المرتقب، لن يحدث أي اختراقات مهمة، يمكن لها أن تذيب جدار جليد الخلافات بينهما، فهي أكبر من أن تُحَلَّ في لقاء أو حتى قمة بين رئيسي البلدين، فقط الزمن كفيل بإزالتها، وهي بكل الأحوال مرتبطة بتطورات الملف السوري ككل، والوصول إلى حلول متكاملة تحت سقف الشرعية الدولية. فأي تفاهمات بين الطرفين لن يضفيَ إلا مزيداً من التعقيد على الأزمة السورية، فالصفقات المنفردة التي مررتها روسيا وتركيا وصلت إلى خواتيمها، ووضعت قسماً من الأراضي السورية تحت الاحتلال، مقابل زيادة نفوذ الميليشيات والحركات الإرهابية التي عاثت خراباً وفساداً في الجغرافيا السورية.
لقاء موسكو كان أمنياً بامتياز، ولم يخرج عن إطار اللقاءات الأمنية الثلاثية التي كانت تُجرى سابقاً في إطار أستانا وسوتشي واجتماعات كسب وغيرها.
والإصرار الروسي على إتمام المصالحة بين الجانبين، يعبّر عن مصلحة روسية منه أكثر مما لدى دمشق، فرغم أن التسريبات عن لقاء موسكو، أشارت إلى وضع الأطراف الثلاثة، ما يمكن القول عنه إنها “خارطة طريق” لاستكمال بحث الملفات العالقة بينهما، بالتدريج، على أن تتوج بقمة بين رئيسي البلدين، إلا أنها في ذات الوقت عكست حجم التباين في المواقف بينهما أيضاً إزاء جميع الملفات.
فموسكو المنشغلة بالحرب في أوكرانيا، تسعى من خلال إجراء هذه المصالحة إلى دفع أنقرة إلى محاربة الوجود الأمريكي في سوريا، وهو ما اتفقت عليه بين أطراف أستانا (روسيا، تركيا، وإيران) خلال القمة التي جمعت قاداتهم في يوليو/ تموز الماضي في طهران، خاصة أن روسيا تعاني كثيراً من حجم الدعم الأمريكي والغربي عموماً لأوكرانيا، والوجود الأمريكي في سوريا يشكل هاجساً وقلقاً لموسكو، وتسعى للضغط عليها من خلال تواجدها في سوريا، وعبر حليفها في الناتو، أي تركيا.
الموقف الأمريكي المتشدّد من أي مصالحة مع الحكومة السورية، قد يلجم السعي التركي في إنجاز مصالحة سريعة، بل قد تحرك أمريكا بعض القوى والتيارات داخل المناطق التي تحتلها تركيا في سوريا، وبالتالي تتحول إلى قوة معارضة لأي نوع من المصالحة مع دمشق. كما أن الولايات المتحدة لديها القدرة على دعم المعارضة التركية لتقف في وجه طموحات أردوغان للفوز في الانتخابات القادمة، وهو ما قد يقلب الطاولة على أردوغان وينهي مساعيه في المصالحة مع سوريا. وزيارة رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال قليجدار أوغلو إلى واشنطن في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، جاءت ضمن هذا التوجه.
تلويح الرئيس التركي بعدوان عسكري جديد على مناطق شمال وشرق سوريا بعد لقاء موسكو، يوحي بأن اللقاء لم يثمر عن النتائج التي يتوخاها منه، وأن مسار المصالحة يمر عبر طريق شائك، وهو ما دفع أردوغان إلى تسريع وتيرته، عبر الضغط على الجانب الروسي للاستعجال في عقد لقاء ثانٍ على مستوى وزراء الخارجية، تمهيداً للقاء بين أردوغان والأسد. لكن الأخير أعلن حتى قبل لقاء موسكو، بأنه مستعد لإجراء المصالحة بعد الانتخابات التركية، كي يضمن تطبيع العلاقات مع الفائز فيها. ورغم حجم الضغوط الروسية الكبيرة على دمشق والتي حمَّلتها على القبول بالجلوس مع المسؤولين الأتراك، إلا أنه من المتوقع ألا تُقدِم الحكومة السورية على توقيع أي اتفاق وحتى ولو كانت مذكرة تفاهم؛ إلا بعد الانتخابات التركية، ولا تريد دمشق أن تُقدِّمَ نصراً مجانياً لأردوغان قبل الانتخابات، وفق ما قال الرئيس السوري “بشار الأسد” في وقت سابق.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..