لقاء موسكو ورهان أردوغان الخاسر
جميل رشيد
مع نهاية العام، تُطوى أوراقٌ وتُفتَحُ أخرى جديدة، فَعَدوُّ الأمس قد يبدو حليف اليوم، فلا مبادئ ثابتة في السِّياسة، كما قالها يوماً ما رئيس الوزراء البريطانيّ الرّاحل ونستون تشرشل “ليس لدينا أصدقاء دائمون، ولا أعداء دائمون؛ بل لنا مصالح دائمة”.
عبارةٌ تختصر كُنْهَ التفكير البراغماتي لدى الحكومات والدّول، وأكثر ما تكرّر في السِّياسة والاقتصاد ومجالات أخرى، واتّخذتها الدّول منهجاً وفلسفة لها، وهو ما تجلّى بشكل أكثر قُبحاً في اللّقاء الثُّلاثي بين وزراء دفاع تركيّا والحكومة السُّوريّة والرّوسيّ في موسكو الأربعاء الماضي.
الفلسفة الذَّرائعيّة لدى الأنظمة تكاد تخلو من الاعتبارات والقيم الأخلاقيّة، فمفهوم السُّلطة، باعتبارها تعبيراً مكثَّفاً للقوة، تتحوَّلُ إلى استبدادٍ، إذا ما تمَّت مصادرتها من قبل قوى تفرض إيديولوجيّتها بقوَّة السُّلطة على المجتمع، وتبحث عن ديمومة مصالح نظامها، وتسعى بشتّى الوسائل إلى جعل نفسها قوَّةً شرعيّةً، ليحدث حالة من التَّفارق بينها وبين المجتمع.
النِّظام التُّركيّ الباحث عن قَشَّةٍ يتمسَّكُ بها ليُنقذ نفسه من “الورطات” التي دخل فيها، بعد أن مَدِّ أذرُعَه إلى جميع السّاحات السّاخنة، بات مصيره على كَفِّ عفريت، ويستجدي كُلَّ الأطراف لإنقاذه، بعدما ألهب المنطقة ووضعها ضمن أتّون صراعٍ مدمِّرٍ، أتى على الأخضر واليابس. وكذلك روسيّا – بوتين، التي تورَّطت هي الأخرى في حرب مفتوحة في أوكرانيا، بدأت هي الأخرى تفتِّشُ عن ثغرات لعلا تعوض خسارتها المدوّية في أوكرانيا، فالاثنان – أردوغان وبوتين – أحرقا كُلَّ أوراقهما في صراعات لا قدرة لهما على تحقيق الانتصار فيها، في ظِلِّ التكتّل الغربيّ المعادي لهما والمدعوم باقتصادياّت قويّة لا قُدرة لتركيّا وروسيّا على منافسته.
فرُبَّما يكون المثل الشَّعبيّ الدّارج “المَيِّتُ لا يَدفن ميّتاً”، أصدق في هذا الصدد، وينطبق على أردوغان الغارق في الأزمات، وروسيّا التي تعاني من تداعيات حربها في أوكرانيا. فيما الحكومة السُّوريّة، تبدو من خلال الوقائع، أنَّها في موقف أفضل من الإثنين، وتستطيع أن تتحكَّمَ بمسار المفاوضات مع الطرفين، إلى حَدٍّ ما.
فالسِّياقات التي وَلَّدت هذا اللقاء، ومَهَّدت لتقارب الطرفين، التُّركيّ – السُّوريّ، اتّضح أنَّها جاءت بعد مغامرات أردوغان البهلوانيّة، ووصولها إلى نهاياتها التي لم تكن، بالمُطلق، مثلما كان يخطّط لها، ورُبَّما انعطافته الأخيرة هذه، لن تشبه سابقاتها، لجهة الأكلاف الباهظة التي سيدفعها، إن وصلت المصالحة “المزعومة” إلى خواتيمها، مثلما يفكّرون ويخطِّطون لها.
بدايةً مجرَّد جلوس وزير الدِّفاع التُّركيّ أمام الوزير السُّوريّ، يُعبِّر عن هزيمة تركيّا في الصراع الذي قادته دولته في سوريّا طيلة أكثر من إحدى عشر عاماً من عمر الأزمة السُّوريّة، وهذا يستدعي وفق منطق معادلات الرٍّبح والخسارة تقديم تنازلات لا حدود لها، في حال قبول الطرف السُّوريّ الاستمرار في المصالحة، وأوَّلها؛ انسحابه غير المشروط من الأراضي التي يحتلُّها في سوريّا، وإعادتها إلى السِّيادة السُّوريّة، وتفكيك كُلّ المنظومة الميليشياويّة الإرهابيّة التي شكَّلها في دوائر استخباراته، وإعادة الأمور إلى ما قبل عام 2016، إلى جانب حَلّ ملفّ اللاجئين وفق القوانين الدّوليّة، وبما يحفظ كرامتهم، ووضع حَدٍّ لابتزازه لهم.
على ضوء ما ترشَّحَ عن الاجتماع؛ فإنَّه من غير المتوقَّع أن تطوى صفحة الأحقاد التي وَلَّدها النِّظام التُّركيّ طيلة سنّي الأزمة السُّوريّة خلال المدى المنظور، فحجم الخراب والدَّمار الذي خلفته تركيّا في سوريّا، وأعداد ضحاياها، رُبَّما تطيح بنظام أردوغان ومنظومته الإخوانيّة المرتبطة به. فرغم أنَّ دهاليز الأنظمة لا تخلو من صفقات ومساومات تحت الطاولة، ولو على حساب دماء الشُّعوب وسيادة الدّول ووحدة أراضيها وسلامتها؛ إلا أنَّها غير قابلة للتطبيق في الحالة السُّوريّة؛ نظراً لطبيعة الصراع الدّائر فيها وعليها، ولنوعيّة القوى المتدخّلة والفاعلة في أزمتها وتشابك خيوطها، وهذا يعكس بطبيعة الحال صعوبة الوصول إلى حَلٍّ سياسيٍّ، وفق ما يتمنّاه السُّوريّون.
كما أنَّ حجم الغدر التُّركيّ بمعارضتها ّ”ّالتركسوريّة”، وردود الفعل المتوقَّع أن تندلع داخل صفوفهم، وكذلك في الدّاخل التُّركيّ، ستكتب نهاية لنظام أردوغان في الإقدام على أيّ مقامرة قد تُطيح به، حتّى قبل حلول موعد الانتخابات القادمة. فأولى استحقاقات أيّ مصالحة مع الحكومة السُّوريّة، تستدعي تصفية ما تُسمّى بـ”معارضة إسطنبول” بكُلِّ مسميّاتها وتشكيلاتها وأسمائها وهيئاتها، العسكريّة منها والسِّياسيّة، وهو شرطٌ لا يمكن للحكومة السُّوريّة التغافل عنه تحت أيِّ شرطٍ كان. وهذا الشَّرط يسري على ما تُسمّى “المعارضة داخل الأراضي السُّوريّة وخارجها”، لطالما غذَّت تركيّا تلك النَّزعة الإخوانيّة العدائيّة لسوريّا، أرضاً وشعباً وحكومة ونظاماً، فاستمراريّة الحكومة السُّوريّة؛ مرهونٌ، إلى حَدٍّ ما، بتصفية تلك المعارضة المرتهنة لتركيّا، وتمتلك تركيّا جميع الأدوات لتنفيذ هذا الشَّرط، لأنَّ تلك “المعارضة” ربطت مصيرها بالنِّظام التُّركيّ، وأيُّ اتفاقٍ تركيّ – سوريٍّ؛ لا محال سيكون على حساب تسليم رأسها للنِّظام.
وإحدى النِّقاط التي تَمَّ النِّقاش حولها، كان فتح الطريق الدّوليّ (M4) المارّ من مناطق إدلب وجسر الشغور، وصولاً إلى اللّاذقيّة، وهذا يقضي بالدَّرجة الأولى تصفية كُلّ الوجود العسكريّ للمرتزقة هناك، أي الاصطدام مع “هيئة تحرير الشّام/ جبهة النُّصرة سابقاً” والجماعات الإرهابيّة الإسلامويّة التّابعة لـ”تنظيم القاعدة”، رغم تابعيّتها المُطلقة لتركيّا وأجهزة استخباراتها، إلى أنَّ الصفقة المتوقَّعة، ستشترط بالقضاء عليها كليّاً، وهو ما يدفعها لتدافع عن نفسها ضُدَّ المشروع التُّركيّ الجديد. وقد ظهرت بدايات ردود الفعل هذه من خلال المظاهرات المعارضة للمصالحة التُّركيّة – السُّوريّة في عدد من المدن والبلدات في إدلب وريف حلب الشّماليّ أيضاً. ورغم عدم التعويل على تلك “المعارضة الهزيلة”، على اعتبار أنَّ تركيّا هي من خلقت تلك الكيانات الوهميّة لتعمل لمصالحها وليس ضُدَّها، وبالتّالي لدى تركيّا القدرة على تفكيكها مثلما أنشأتها، إلا أنَّ أيّ تحرُّك عسكريّ من قبلها قد يعرقل تنفيذ أيَّ تعهُّدٍ تركيّ أمام روسيّا والحكومة السُّوريّة بإخلاء المنطقة من أيّ تواجد عسكريّ، أو تصفية تلك القوى المرتبطة بها.
في حين أنَّ مسألة تسليم المعابر الحدوديّة مع تركيّا إلى الحكومة السُّوريّة، وفتحها أمام تدفُّق البضائع التُّركيّة إلى الدّاخل السُّوريّ، مرتبط بسيطرة الحكومة السُّوريّة على تلك المناطق مثل معبر باب السَّلامة في إعزاز وباب الهوى في منطقة إدلب، ما ينذر باندلاع مواجهات بين المرتزقة المسيطرين على تلك المناطق والحكومة السُّوريّة، بالتّالي العودة إلى المربَّع الأوَّل، فلا تستطيع تركيّا تقديم ضمانات بعدم وقوع معارك قد تقلب المعادلة كُلَّها رأساً على عقب، وقد بدأت إرهاصات ذلك تظهر، ولو كلاميّاً، في التَّظاهرات التي اندلعت غداة الإعلان عن اللّقاء في موسكو.
إنَّ تسليم المعابر للحكومة السُّوريّة يعني حرمان المرتزقة من إيراداتها، تمهيداً لاستسلامهم، وتشكيل فيلق خاص بهم، وزجِّهم إلى جانب الجيش الرّوسيّ في الحرب الأوكرانيّة، على غرار الفيلق الخامس، فمن اعتاد على الارتزاق لا يَهُمُّه لمن يرتزق، بل من يدفع له.
في المقلب الآخر؛ فإنَّ الشرط التُّركيّ الوحيد المتمثّل بإنهاء الإدارة الذّاتيّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة والقضاء على طموحات الشَّعب الكُرديّ في نيل أيّ حقوق تذكر وإخراجهم من معادلة الحَلّ السُّوريّة، والذي بات فوبيا تقشعرُّ لها تركيّا، أو بالأحرى، تستخدمها ذريعة في احتلال مَزيدٍ من الأراضي السُّوريّة، غير قابل للتنفيذ من قبل الحكومة السُّوريّة، لأسباب ذاتيّة وموضوعيّة، وهو خارج إمكاناتها وقدرتها. فهي – أي الحكومة السُّوريّة – تُدرِكُ جيّداً أنَّ أيَّ مواجهة مع قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، المدعومة من التَّحالف الدّوليّ – يعني في المقام الأول فتح صراعٍ جديدٍ على نفسها هي بغنى عنه، والذي سيؤدّي، في حال انجرارها له، إلى توسيع دائرة الصراع، وبالتّالي التَّصادم مع التَّحالف الدّوليّ والولايات المتّحدة، وهو ما تخشاه تركيّا وسوريّا وحتّى روسيّا، رغم أنَّ الأطراف الثَّلاثة بحثت في سُبُل وكيفيّة إخراج القوّات الأمريكيّة من سوريّا، وهذا ضرب من الخيال في ظِلِّ قانون “مكافحة الكبتاغون” الذي وَقَّعَ عليه الرَّئيس الأمريكيّ بايدن، والذي سيدخل حيّز التَّنفيذ في شهر يونيو/ حزيران المقبل، وستأخذ الحكومة السُّوريّة تدابيرها الكفيلة بمنع الوصول إلى تلك المرحلة، ولن تزيد من الضغوط والأعباء على نفسها، وهي الغارقة في أزمة اقتصاديّة خانقة جرّاء عقوبات قانون “قيصر” عليها.
فإنَّ تنفيذ المطلب التُّركيّ، يعتبر ضَربٌ من المستحيل، على العكس من ذلك، من المفترض أن تسعى الحكومة السُّوريّة إلى إيجاد تقاطعات بينها وبين الإدارة الذّاتيّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، وبما يقطع الطريق على الطموحات التُّركيّة في الأراضي السُّوريّة. والبيان الصادر عن مجلس سوريّا الدّيمقراطيّة؛ بَيَّنَ بشكل قاطع أنَّ أيَّ محاولة لتمرير اتّفاقات مع الاحتلال التُّركيّ، من شأنها أن تُقوِّضَ أيَّ مساعٍ للحَلِّ في سوريّا، لطالما كانت تركيّا طرفاً رئيسيّاً في اندلاع الأزمة والحرب الأهليّة، وحَذَّرَ البيان الحكومة السُّوريّة من الانجرار خلف المكايد والأفخاخ التُّركيّة، واعتبرت أنَّ من كان شريكاً في سَفك الدَّم السُّوريّ لا يمكن أن يكون شريكاً وجزءاً من الحَلِّ.
فالولايات المتّحدة الأمريكيّة، عَبَّرت عن رفضها القاطع لأيِّ اتّفاقات بين الدّول الثّلاث، وكان خطابها موجَّهاً بالدَّرجة الأولى لتركيّا، وهي الحليفة لها ضمن حلف “النّاتو”. فأيَّ اتّفاق بين الأطراف المذكورة محكوم بالفشل إن لم ينل إجماعاً دوليّاً، وخاصَّةًّ الولايات المتّحدة المُمسِكة بخيوط اللُّعبة السِّياسيّة والعسكريّة في سوريّا والمنطقة. فلا يمكن لأيِّ اتّفاقٍ أن يرى النّور، إن لم توافق عليه الولايات المتّحدة، وهي التي أجهضت قبل الآن مضامين اجتماعات أستانا ومؤتمر سوتشي وكُلّ اللّقاءات التي سعت روسيّا لأن تكون بديلاً لمؤتمر جنيف، حيث طرحت عدَّةَ مشاريع لحَلِّ الأزمة السُّوريّة، وبما يتوافق مع مصالحها فقط، مثل مشروع الدّستور السُّوريّ الذي وُلِدَ ميّتاً، وكذلك تقسيم مناطق النُّفوذ بينها وبين تركيّا في إدلب، وإجراء مقايضات في الغوطة والزَّبداني وكفريّا والفوعة ومناطق أخرى.
كما أنَّ موضوع اللّاجئين، هو الآخر يُشكّل نقطة افتراق وليس التقاء بين تركيّا والحكومة السُّوريّة. فرغم أنَّه الملفّ بات ضاغطاً على أردوغان ونظامه، بعدما لوَّحت به المعارضة التُّركيّة، ومنذ فترة، فهو غير قادر على إغلاقه والتخلّص من عبء اللّاجئين بالسُّرعة التي يتوقّعها، ليزيد من رصيده الانتخابيّ، حيث أنَّ للمسألة جوانبَ سياسيّة واقتصاديّة متفاقمة، لا تركيّا ولا الحكومة السُّوريّة لهما القدرة على حَلِّهِ في الأمد القريب المرتقب من قبل أردوغان، لاستثماره في صناديق الانتخابات التُّركيّة القادمة. فأيُّ عودة للّاجئين المقيمين على الأراضي التُّركيّة، مرتبطة بالدَّرجة الأولى بتوفير ظروف انتقالهم الطوعيّ السَّلِس إلى مدنهم ومنازلهم، وليس بشكل قسريٍّ، كما أنَّ الظروف الاقتصاديّة المُنهارة في سوريّا، ستجعل من اللّاجئين يقلعون فكرة العودة من أذهانهم، إضافة إلى عدم وجود ضمانات من الاعتقال لدى عودتهم. كما أنَّ البعض من اللّاجئين، وبفعل البروباغاندا الإعلاميّة التُّركيّة المضادة للحكومة السُّوريّة، والتي عمل نظام أردوغان وجماعة الإخوان المسلمين الإرهابيّة على تغذيتها، شكّلت بوناً واسعاً بينهم وبين وطنهم الأم سوريّا، فبات الانتماء الوطنيّ في أضعف درجاته لدى البعض منهم، وتحوَّلوا إلى دُعاةٍ للطائفيّة والمذهبيّة المقيتة، وأيُّ عودة لهم قد تحوّلهم إلى قنابلَ موقوتة يمكن أن تنفجر في كُلّ لحظة، وستتريَّثُ الحكومة السُّوريّة طويلاً في فتح هذا الملفّ، إن لم تتلقّى دعماً اقتصاديّاً من دول الخليج والدّول الغربيّة. فلا يمكن لأيِّ لاجئ أن يفكِّرَ بالعودة إلى منزله المدمَّرِ، أو أن يكون عاطلاً عن العمل في ظِلِّ الانهيار الاقتصاديّ وتدهور قيمة اللَّيرة السُّوريّة مقابل الدّولار الأمريكيّ.
يبقى عَقدُ أيّ اتّفاق بين الأطراف الثَّلاثة جزءاً من المجازفة بحياة السُّوريّين ومستقبلهم، فأيُّ اتّفاق إن لم يقترن بوضع حَلٍّ نهائيٍّ شاملٍ ومستدامٍ، مصيره الفشل، كما الاتّفاقات السّابقة، وقد يعيد الأزمة السُّوريّة إلى بداياتها، وبدء جولة جديدو كم العنف المستعر.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..