أبعاد هجوم “داعش” الأخير على الرقة
محمد عيسى
تصعيد خطير وجديد له مغزاه في شكله وتوقيته، تشرع رأس حربة الإرهاب وشوكته الرَّئيسيّة “داعش” في القيام به في مناطق شمال وشرق سوريا، وفي مواقع متفرقة من البادية السورية. ويندرج عدوان الساعات الأخيرة الآثم على مركز لقوى الأمن الداخلي وقوات سوريا الديمقراطية داخل مدينة الرقة، والذي أودى بحياة ستة شهداء في المواجهة مع المجموعة المهاجمة، ومقتل اثنين من المهاجمين، والذي تبعه تطويق لمنطقة الهجوم وإعلان لحالة الطوارئ في المنطقة، تحسُّباً لاحتمال وقوع هجمات أخرى، يندرج في إطار ما يمكن اعتباره تطعيم لمعركة أو تمهيد لعملٍ عسكريٍّ وسياسيٍّ، يعتزم التنظيم المجرم ومشغلوه تنفيذه في الفترة القريبة القادمة.
هذا ولأن كانت البادية السورية قد شهدت نشاطاً ملحوظاً لتحرُّكات التنظيم في الآونة الأخيرة، عبر استهداف متكرر لقوات جيش النظام؛ فإن التصعيد الجديد يذكر بمسألتين مترابطتين، الأولى حادثة سجن غويران قبلاً من نحو عام في الحسكة، حيث قام يومها التنظيم بعمل كبير ومنسَّق مع قوى وأطراف من خارج الحدود، لتحرير آلاف السُّجناء من مقاتلي “داعش”؛ بُغية إشاعة الفوضى وتقويض سلطة الإدارة الذاتية؛ تمهيداً للإجهاز عليها بعملية لاحقة.
والحديث عن عمل كبير ومنسق؛ يتجاوز في حينها إمكانيات “داعش” على تنفيذه بمفرده، نظراً لحجم وطريقة الهجوم ومكانه. إذ في التفاصيل؛ جرى الدفع بخمس سيارات مفخخة للهجوم على حامية السجن دُفعةً واحدةً، الأمر الذي يستدعي اعدادات استخبارية وتحضيرات لوجستية كبيرة، وقد تطلَّب إحباطه وتطويق نتائجه؛ تعاوناً وتدخلاً نشطاً من قبل قوات التحالف الدولي.
والمسألة الثانية؛ هي في علاقة العملية سابقاً في “غويران” والآن في حملة العدوان على الرقة، بتهيئة الأرض للعملية التُّركيّة التي يزمع أردوغان شنَّها داخل الأراضي السورية. بمعنى إزالة العوائق أمام العمليّة، وتقليص فرص مقاومتها حين تحصل، مما يؤكد أن هناك ترابطاً وثيقا بين وظيفة “داعش”، وما بين الأجندات التركية الأردوغانية.
وما يعزّز هذا الانطباع التغافل المتعمد من قبل الدولة التركية ومؤسساتها الأمنية والإعلامية عن أنشطة “داعش” الإرهابية، وفي الوقت الذي تقوم فيه أبواقها بنشاط يكاد يصُمُّ الآذان، تتناول ما تزعم بأنَّها مخاطر نشاط إرهابي يتعلق بوجود قوات سوريا الديمقراطية على الحدود التركية السورية؛ فإنها لا ترى، وبخلاف ما يراه العالم المتمدن آثار العدوان الداعشي على نفس الحدود، وفي كل مكان. ففي المدينة الحدودية كوباني، وعلى مرمى حجر من الأراضي التركية، وفي الأحياء المواجهة والمحاذية لهذه الحدود، ترك “داعش” شواهد على الإجرام والعدوان لا نرى مثيلا لها إلا في آثار العدوان النازي على ستالينغراد.
ثم أن يقوم بتفجير عشرات السيارات في عموم المدن الحدودية، وبين السكان الآمنين، بدءاً بالحسكة وانتهاء بالباب ومنبج وباقي المدن السورية؛ فإن هذا أمر لا يشكل تهديداً يُذكر في قاموس الدولة التركية، وكم هو عجيب أمر هذه الدولة، وكمن يريد أن يمرِّر فيلاً من ثقب إبرة، حين لا ترى خطراً أو إرهاباً يهدد الاستقرار الإقليمي ويستدعي وحدة جهود دول الإقليم للتصدي له، إلا في برامج وسياسات (مسد) الذي يكاد يكون وحده من يتفرد برفع شعارات العلمنة والمدنية والدمقرطة.
أما “داعش” الذي دحرته قوات سوريا الديمقراطية بالأمس القريب في معقلها الرئيسي، وفي المكان الذي دُعِيَ بـ”عاصمة الخلافة الإسلامية” الرقة، فسيبقى هاجسها الرئيسي وعقدة انكسارها، وستبقى الرقة ميداناً ورمزاً لانتصار قوات سوريا الديمقراطية على وحش الإرهاب الأشرس في هذا العصر. لذلك لن تتوقف محاولاتها اليائسة في تحقيق حلم العودة إلى الرقة المدينة، لما لها من رمزية في عقول بقايا محازبيها المريضة، ولأهميتها في معادلات الصراع عند مهندسي فكرة “داعش” والمستثمرين فيها.
ولطالما كانت “داعش” هذا مشروعاً عابراً للحدود، منذ اللحظة الأولى، وقد انتشر بسرعة فائقة ودون مقاومة تذكر ما بين سوريا والعراق، ووضع يده على ثروات ومقدّرات مالية واقتصادية هائلة؛ فإن اللافت أن لا أحداً على السطح قد تبنى أبوَّة هذا المولود المخيف، في الوقت الذي تشير فيه دلائل علم الوراثة أن هناك أبوة متخفية تقف خلفه.
وفي النهاية “داعش” مشروع إسلاموي وإيديولوجي متزمّت ومتحجّر عابر للحدود، وقد ولد في مناطق النفوذ التركي والإيراني، اللذين هما الآخران أصحاب مشاريع إسلامية عابرة للحدود، ولا تختلف كثيراً في جيناتها عن تلك التي تحملها “داعش” أو “النصرة” أو “القاعدة”، فالكل خرج من نفس المعطف، والتركي الأردوغاني الذي لا يخجل من تسويقه لـ”الجولاني” و”جبهة النصرة”، لا تفصله أية مسافة عن “داعش”. فالإسلام السياسي مظلة إيديولوجية عامة، و”القاعدة” و”النصرة” أو “داعش” مدارس أو لونيّات فيه، وبالتالي فالأبوة واضحة وضوح الشمس وليست بعيدة عن عاصمتي المشاريع الإسلامية، أنقرة وطهران، أو عمّن يتقاطع معهما، وعند هذه النقطة بالذات مازال الكثير من المثقفين متمسكاً بالفكرة الواحدة، أو بما تسمى “الحلقة المركزية في التفكير” والتي سادت في النصف الثاني من القرن الماضي، حول ضلوع الإمبريالية الأمريكية وحدها والغرب الرأسمالي بخلقها في مصانع أجهزة استخباراتها.
بالعودة إلى عدوان “داعش” في مدينة الرقة، والذي نَبَّهَ قائد قوات سوريا الديمقراطية “مظلوم عبدي” إلى أنه حلقة خطيرة من حملة واسعة يجب التيقُّظ لها. فتُطرح مسألة هامة تتعلق بأهداف “داعش” من العدوان وبخصومها أو أعدائها الحيويّين وأعداء مدرستها وجبهتها الفكرية والسياسية. وإلى ذلك يجب ألا يفوتنا أنَّ داعش ومشغليه يخوضان المعركة في ميدانين رئيسيين في الأراضي السورية، الأول هو شرق الفرات ومناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطيةـ باعتبارها التحدي المركزي والوجودي لروّاد مدرسة الإسلام السياسي الإرهابية، والثاني، مناطق البادية السورية، حيث يغلب نفوذ قوات سلطات دمشق، وتقع معارك تكاد تكون يومية بين وحدات الجيش العربي السوري، وما بين خلايا “داعش” المتوارية في البادية، الأمر الذي يعني أن “داعش” كرأس حربة لمشروع الإسلام السياسي يستهدف في الميدان وفي السياسة خصوم الإسلام السياسي أينما وجدو، و يستهدف أيضاً كل ما يرمز إلى قوى مدنية أو علمانية أو ما تبقّى منها.
وعلى ضوء ذلك ووفقاً لتتبع للأحداث، لا يمكن النظر إلى التصعيد الداعشي الأخير بمعزل عن التصعيد التركي الأخير، وعن حُمّى الضجيج الإعلامي والسياسي المتعلق بالعملية العسكرية المزمع خوضها في الأراضي السورية.
كما لا يمكن التغافل عن ملاحظة هامة كرَّستها الوقائع على الأرض وعكستها مواقف واهتمامات الدول المعنية بالوضع السوري، أن دول محور أستانا، روسيا وتركيا وإيران، متواطئة مع أنشطة الإرهاب الإسلامي، ولا تبذل أي جهد جدّيّ ضد التنظيم الإرهابي “داعش” أو “النصرة”، رغم الحديث الكثير عن انشغالهم بمواجهة الإرهاب.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..