في أبعاد زيارة “بافل” لروج آفا
جميل رشيد
جاءت زيارة رئيس الاتّحاد الوطنيّ الكُردستانيّ بافل الطالبانيّ إلى روج آفا وشمال وشرق سوريّا، في مرحلة دقيقة ومفصليّة في مسيرة الإدارة الذّاتيّة للانفتاح على الدّاخل الكُردستانيّ بشكل أكثر فعّاليّة، وكذلك على محيطها الإقليميّ والدّوليّ.
لا شَكَّ أنَّ للزيارة دلالات وأبعاد كُردستانيّة بالدَّرجة الأولى، من حيث إعادة تفعيل العلاقات بين القوى الكُردستانيّة الفاعلة على السّاحة الكُردستانيّة في أجزائها الأربعة، والتَّنسيق في المواقف السِّياسيّة والعسكريّة، وفتح الآفاق أمام الإدارة الذّاتيّة التي تعاني من حصارٍ خانقٍ، إن كان من قبل الاحتلال التُّركيّ أو الحكومة السُّوريّة وحلفائها على الجغرافيا السُّوريّة. فالإدارة الذّاتيّة أحوج ما تكون إلى إحداث اختراقات في جدار الحصار المفروض عليها، والسَّعي إلى بناء تحالفات كُردستانيّة وإقليميّة، لمواجهة الاعتداءات المُستمرّة عليها من دولة الاحتلال التُّركيّ في المُقدِّمة. وللاتّحاد الوطنيّ الكُردستانيّ دورٌ كبيرٌ في إنشاء تحالفات كُردستانيّة وإقليميّةٍ هامَّةٍ، يمكن أن تؤثِّرَ في مسار الأحداث، وتُساهم في لَجم الاحتلال التُّركيّ ومنعِهِ من شَنِّ أيّ عدوانٍ جديدٍ على روج آفا وشمال وشرق سوريّا.
لا يُخفى على أحد أنَّ الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ في العراق قد وطَّدَ علاقاته مع دولة الاحتلال التُّركيّ، وأحدثت تلك العلاقات شرخاً كبيراً في العلاقات البينيّة الكُردستانيّة – الكُردستانيّة، متجاوزةً أحياناً كثيرة الثَّوابت الكُردستانيّة، الأمر الذي استغلَّه الاحتلال التُّركيّ في بناء قواعد عسكريّة له في باشور/ جنوب كُردستان، والتي تحوَّلت إلى قواعد احتلال متقدِّمة له، لِيَشُنَّ انطلاقاً منها عمليّات العدوان على مناطق الدِّفاع المشروع ويُهدِّدَ أمن واستقرار باشور/ جنوب كُردستان بالكامل.
يمكن قراءة زيارة الطالبانيّ بأنَّها خلقت سياقات جديدة للعلاقات الكُردستانيّة – الكُردستانيّة، منها محاولة ممارسة الضغوط على الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ للحَدِّ من نفوذ دولة الاحتلال التُّركيّ في باشور كُردستان، وحتّى فَكَّ العلاقة معه. فرُغمَ تكهُّن البعض بأنَّ الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ يَشعُرُ بالامتعاض من الزّيارة، إلا أنَّ أوساطاً أخرى لم تستبعد أن تأتِيَ في إطار تحسين العلاقة بين الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ والإدارة الذّاتيّة، وفتح صفحة جديدة من التَّعامل بين الطرفين، خاصَّةً إذا ما أُخِذَ بعين الاعتبار الضغوط التي تُمارسها الولايات المتّحدة الأمريكيّة على حكومة الإقليم والحزب الدّيمقراطيّ تحديداً للتَّواصل مع الإدارة الذّاتيّة، وأنَّ هناك مساعٍ أمريكيّة في الاتّجاه، مثل افتتاح معبر “سيمالكا” واعتباره معبراً رسميّاً بين مناطق الإدارة وحكومة الإقليم.
لا يمكن استبعاد الدَّور الأمريكيّ في هذا الصدد، فمشاركة قائد القوّات الأمريكيّة المشتركة في الشَّرق الأوسط في الوفد، له دلالته، لجهة سعي الولايات المتّحدة إلى تشكيل تحالفات في المنطقة، تُساهم في محاربة تنظيم “داعش” الإرهابيّ، خاصَّةً أنَّ رئيس جهاز مكافحة الإرهاب في الاتّحاد الوطنيّ الكُردستانيّ كان ضمن الوفد أيضاً.
كما أنَّ الولايات المتّحدة توحي من خلال هذه الزّيارة، عن محاولاتها إبعاد الاتّحاد الوطنيّ الكُردستانيّ عن دائرة النّفوذ الإيرانيّ، وتشكيل جبهة معارضة للأخيرة، تَمتَدُّ من جنوب كردستان وسوريّا، لتقليص النّفوذ الإيرانيّ في المنطقة، إضعاف مرتكزاتها التي تتسلَّل منها لإحداث حالة من الفوضى واللا استقرار في المنطقة.
لا شَكَّ أنَّ الزّيارة ستنعكس بشكل إيجابيٍّ على مسألة بدء الحوار الكُرديّ – الكُرديّ في روج آفا، بين أحزاب الوحدة الوطنيّة الكُرديّة والمجلس الوطنيّ الكُرديّ، وكذلك الحركات والأحزاب الأخرى خارج الإطارين. فالمجلس الذي وجد نفسه وحيداً وضعيفاً، بعد أن شَعرَت هولير/ أربيل بتراجع دورِها في هذا الملفِّ وباقي الملفّات، إثر هذه الزّيارة، سيضطرُّ معه إلى القبول باستئناف الحوار، وستُحاوِلُ الولايات المتّحدة وكذلك الاتّحاد الوطنيّ الكُردستانيّ تفعيل الحوار، والوصول إلى نتائج ملموسة، لا أن يكون حواراً بيزنطيّاً، يضع كُلُّ طرف فيه شروطاً تعجيزيّة، خاصَّةً من جانب المجلس الوطنيّ، ومطالباته المتكرّرة بتقاسم الإدارة وفق نظريّة الـ”فيفتي – فيفتي”، وكأنَّ الإدارة هي مَغْنَمٌ، وليس لخدمة الشَّعبِ.
فالحوار المتوقّف منذ فترة ليست بالقصيرة؛ يحتاج إلى جُرعَةٍ دفع جديدة من قبل بعض الأطراف الرّاعية للحوار، ويمكن أن تَصُبَّ هذه الزّيارة في تقريب وجهات النَّظر، بما تُساهم في ترتيب البيت الكُرديّ في روج آفا، وتَصل إلى تشكيل مرجعيّة كُرديّة تكون قادرةً على تمثيل الكُرد في المحافل الدّوليّة، وتضع مصالح الكُرد في روج آفا في مُقدِّمَة أولويّاتها، وتبتعد عن تأثير الدّول المُحتلَّة لكُردستان، وخاصَّةً تركيّا. فالمجلس الوطنيّ الكُرديّ ومن خلال علاقاته مع تركيّا، أثَّرَ سَلباً على كُردِ روج آفا، وتسبَّبَ في كوارِثَ لا نهاية لها، إن كان خلال احتلال عفرين وسري كانيه وكري سبي، أو في تشويه صورة الإدارة الذّاتيّة في الخارج.
وإن كانت قيادة الاتّحاد الوطنيّ تَستنِدُ إلى ميراث الرّاحل جلال الطالبانيّ في نَسجِ علاقاته الإقليميّة والدّوليّة؛ فإنَّ هذه الزّيارة، يمكن توظيفها في فتح قنواتِ حوارٍ بين الإدارة الذّاتيّة والحكومة السُّوريّة، بما للاتّحاد من علاقاتٍ تاريخيّة مع حكومة دمشق، للوصول إلى تفاهماتٍ، من شأنها أن تُعزِّزَ الثّقة بين الطرفين وتوصل إلى حَلٍّ للأزمة السُّوريّة.
كما يمكن للإدارة أن تستفيد من علاقات الاتّحاد الوطنيّ الجيّدة مع الولايات المتّحدة في بناء علاقات متوازنة وقويّة مع مراكز القرار فيها.
فتَصريحات المسؤولين في قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة والاتّحاد الوطنيّ الكُردستانيّ حول الزّيارة، عكست حجم التَّنسيق بين الطرفين، والذي يتعدّى الجانب السِّياسيّ ليصل إلى الجانب العسكريّ، خاصَّةً في إطار مكافحة الإرهاب، وتكثيف الجهود لمحاربة خلاياه النّائمة في كُلٍّ من جنوب كُردستان ومناطق شمال وشرق سوريّا، وبالتَّنسيق مع قوّات التَّحالف الدّوليّ. والعمل في هذا الإطار، سيُعزِّز من فرصة فتح معابر جديدة أمام الإدارة الذّاتيّة، مثل معبر تل كوجر/ اليعربيّة، وهذه المسألة لها أهميّتها، بعد أن رفض مجلس الأمن فتح هذا المعبر، إثر استخدام روسيّا الفيتو ضُدَّ إدخال المساعدات الإنسانيّة إلى مناطق شمال وشرق سوريّا.
غير أنَّ أكثر الأطراف امتعاضاً من هذه الزّيارة، هي تركيّا، التي تبذل جهودها في تشتيت الشَّمل الكُرديّ، وترى في أيِّ تقارُبٍ كُرديّ – كُرديّ أنَّه يستهدفها ويعاديها. فما انفكَّت تركيّا عن بَثِّ الفتن وإحداث شروخ بين أطراف الحركة الكُرديّة، إلى جانب محاربتها الإدارة الذّاتيّة بكُلّ الوسائل العسكريّة والسِّياسيّة والدّبلوماسيّة، فهي ستحاول، وبعد هذه الزّيارة، إلى تكثيف ضغوطها على الحزب الدّيمقراطي الكُردستانيّ وحكومة إقليم جنوب كًردستان لإجهاض أيّ محاولة تقريب للمواقف بين القوى الكُردستانيّة، خاصَّةً أنَّه ترافق مع هذه الزّيارة أنباء عن سَعيٍ من قبل بعض الأطراف الكُرديّة إلى عقد المؤتمرٍ الوطنيّ الكُردستانيّ، تحضره جميع أطراف الحركة الكُردستانيّة في أجزاء كُردستان الأربعة.
فرُغمَ التَّهديدات التُّركيّة المتواصلة بشَنِّ عدوانٍ برّيٍّ جديدٍ على روج آفا ومناطق شمال وشرق سوريّا، فإنَّ أيّ لقاء كُرديٍّ – كُرديٍّ في هذه الفترة، يمكن أن يُلجِمَ تركيّا، ويضعها أمام استحقاقات الانسحاب من الأراضي التي تحتلّها، وتُغيّر من مواقفها تجاه القضيّة الكُرديّة، خاصَّةً مع بدء العَدِّ التَّنازليّ للانتخابات الرّئاسيّة والبرلمانيّة التُّركيّة، وتدهور وضع أردوغان وتحالفه مع حزب الحركة القوميّة الفاشيّ وتدنّي شعبيّته.
إنَّ حاجة كُلٍّ من الإدارة الذّاتيّة والاتّحاد الوطنيّ الكُردستانيّ إلى تطوير علاقات التَّعاون والتَّنسيق في المواقف حيال عددٍ من القضايا، وفي مقدِّمتها، مكافحة الإرهاب ومواجهة الاحتلال التُّركيّ، تدفَعهما إلى تكثيف جهودهما، لتَصُبَّ في خدمة الهدف المنشود، وقد ترجمتها تلك الزّيارة، وأيُّ رؤية أخرى خارج هذا الإطار قد تبدو غير صحيحة.
كما أنَّه من الخطأ تقييم الزِّيارة ضمن زاوية تشكيل المحاور الكُردستانيّة، فلا يُمكن في هذه الفترة العصيبة التي تَمُرُّ بها القضيّة الكُرديّة في الأجزاء الأربعة من كُردستان أن يُفكِّرَ أيُّ طرفٍ كُرديٍّ غَيورٍ على قضيّته في تشكيل محاوِرَ معادية لمحاور أخرى، وهي مستبعدة، على الأقلّ في ضوء حيثيّات الزّيارة ووقائعها، على العكس تماماً؛ يمكن لها أن تحفِّزَ القوى الكُردستانيّة التي تُغرِّدَ خارجَ السِّرب الكُردستانيّ، بالعودة للعمل تحتَ المِظلَّة الكُردستانيّة، وتكون نواةً ونقطةً استقطابٍ وجَذبٍ لها في قادمِ الأيّام.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..