عندما تتهرب الدولة من مهامها وواجباتها
محمد عيسى
أزمات متوالية تلاحق اليوم الشعب السوري وتثقل كاهله. فبالإضافة إلى مفاعيل الحرب الأهلية التي أدت –ومازالت – تتسبب حتى الآن في إزهاق أرواح وإعاقة ملايين السوريين وإلى تهجير وتشريد ملايين أخرى. تتقدم نحوه أو تكاد تطبق عليه موجات جديدة من المشاكل والتحديات، تحمل معها تسونامي من الهموم والمصاعب الاقتصادية، وصلت معها حياة الكثيرين إلى حَدِّ المجاعة والبؤس والعوز الشديد. ولا مبالغة إذا قلنا إن قمة الفرح عند المواطن السوري اليوم تتحقق عندما تغرب شمس يومه وقد تخلص من متطلَّبات ذلك النهار، وحين يكون قد وفَّرَ شيئاً من مستلزمات حياة أسرته وأطفاله!!
ومع إشراقة كل صباح؛ يبدأ فصل جديد من القهر والمعاناة، ويبدأ هَمُّ الوصول إلى مقر العمل، وحيث يضطرُّ الموظَّفُ القاطن في الأرياف إلى دفع نصف راتبه أو يزيد كأجور مواصلات، هذا إذا حالفه الحظ وتوفرت الوسيلة. نصف الراتب الذي لا يغطي نفقاته لأكثر من ثلاثة أيام من أيام الشهر في أحسن الأحوال. ومن جهة أخرى يواجه السائق أو صاحب وسيلة النقل معاناة هو الآخر، قد تكون أشد من الأول، في ظل شُحِّ المحروقات ونُدرة توفّرها، حيث لا يتمكَّن سائق العربة العاملة على البنزين من الحصول على البنزين لأكثر من مرَّة أو مرتين في الشهر، وبما يعادل ليتر أو ليتر ونصف في اليوم. وكذلك نفس المسألة تواجه أصحاب وسائط النقل العاملة على وقود الديزل (المازوت)، حيث الكمية التي يُزوَّدُ بها السرفيس العامل على أحد الخطوط العاملة تكفي للقيام برحلة واحدة أو رحلتين فقط على نفس خط عمله، فيما أن الوضع الطبيعي في الأحوال العادية يقوم بخمس أو ست رحلات.
بينما تُحجب حتى هذه الخدمة الهزيلة أيام العطل، والتي صارت نسبتها أعلى من أيام الدوام الرسمي، بسبب نقص المحروقات وتوفيراً للطاقة. فواقع خدمات النقل داخل المدن وما بين المحافظات، يُعَدُّ متدهوراً أو يتدهور بشكل مريع، مما يخلّفُ ضرراً بالغاً على باقي الأنشطة الاقتصادية والأعمال التجارية، ويعرقل نقل البضائع والسلع ما بين مراكز الإنتاج ومواقع التسويق، والذي بدوره يخلق مناخاً من الفوضى في حركة الأسواق ويسبب كساداً حادّاً في بعض السلع والمنتوجات، كالحمضيات، بسبب صعوبة نقلها إلى المحافظات التي لا تنتجها وقد اعتادت على استهلاكها، وكما يؤدي إلى ارتفاع في أسعار سلع أخرى لقلة العرض، بسبب النقل أيضاً. وليس هذا فحسب، بل يعاني قطاع الكهرباء والاتصالات وغيرها اختناقات أشدّ عمقاً وأكثر وقعاً على حياة السكان وعلى دورة الحياة الاقتصادية، فثمة مناطق لا يصلها تيار الكهرباء إلا لدقائق معدودة كل يوم.
أن يضمن حتى شحنا
ومما يجدر ذكره هو أن أزمة النقل من جهة، وغياب أية تدابير من قبل الحكومة، قد تركت أثراً مدمِّراً على منتجي الحمضيات في الساحل السوري بشكل خاص. وحيث لا يقوم الفلاحون بجني محصولهم أو يقومون بإتلافه لغياب التسويق، وكما يعجزون عن القيام بأعمال الحراثة والتسميد وباقي الخدمات، لارتفاع تكاليفها وغياب الجدوى الاقتصادية. ويبقى أن دور الحكومة يفاقم المشكلة، من خلال رفعها الجنوني لأسعار الأسمدة والأدوية الزراعية، في سياق تخلّيها عن واجباتها الاجتماعية لمصلحة ثُلَّة من المورّدين والمحتكرين في مجال التجارة الخارجية والاستيراد، حيث تشهد الساحة الاقتصادية السورية نمطاً من الأنشطة المافيوية في الاقتصاد وفي التجارة، فهناك مافيا للتوريد والاتّجار بمادة الحديد، وأخرى بمادة الأعلاف، وثالثة بزيت القلي، ورابعة بمادة الشاي والسكر.. وغيرها. وهذه المافيات المتحكّمة بالتجارة الخارجية والداخلية منفلتة من أية اعتبارات وضوابط، وبعيدة عن أي حسابات لقدرة المواطن على الشراء.
ويمكن القول بأنَّه لم يعد صحيحاً الوصف القديم للنمط الاقتصادي السائد في الاقتصاد السوري، بأنه نموذج لرأسمالية دولة احتكارية، كما هو الغالب في كل الأنظمة الشمولية، بل أصبح النعت الأدقُّ للنمط السائد؛ هو نموذج “الاقتصاد المافيوي”، ومن أهم تداعياته الدَّفع المتسارع لأغلب شرائح المجتمع إلى حافة المجاعة والفقر المدقع، ثم تحويل الدولة ومؤسساتها إلى مرتَعٍ لنفوذها وأزلامها، ويظهر ذلك بشكل جلي عندما تُقدم الدولة على إجراء انتخاباتها الدورية لمجلس الشعب أو لمجالس الإدارة المحلية، أو حتى لانتخاب ممثلين عن النقابات المهنية، ويظهر طُغيان نفوذ مافيات المال والفساد في تبوّء مواقع هذه الهيئات، على حساب الأحزاب القائمة، في مقولة الجبهة الوطنية التقدمية بما فيها الحزب البعث الحاكم والتي – أي الجبهة – أصبح دورها هامشياً، والدليل على حجم هذا التغوّل لماكينة الفساد والفوضى، هو اضطرار رئيس الجمهورية إلى حل الكثير من هذه المجالس المنتخبة وإعادة انتخابها، بسبب فلتانها الأخلاقي المتكرر، وقد يحصل أن تجرى عملية الحل مرتين متكررتين في العام الواحد.
من كل ما تقدم؛ نستطيع القول إن النهج السياسي والاجتماعي في الدولة السورية قد خلّف نوعين من الفئات في حياة الدولة والمجتمع، الأولى، تستأثر بالثروة والنفوذ وتملك القصور وأساطيل السيارات الفارهة، وتتطفل على الاقتصاد الوطني وتعيش حياة البزخ والترف، وبما يجعلها منفصلة عن حياة الشعب السوري.
والثانية، تقوم بأعباء الدولة والمجتمع، وتقدم جهود الدفاع عن الوطن والتضحيات في سبيل منعته، وكما تقوم بالدور الرئيسي في عمليات الإنتاج والخدمة الاجتماعية، ومع ذلك تعيش في غالبيتها تحت وطأة ظروف صعبة، وتكابد ضروباً شتّى من الحرمان ومشقّة تأمين لقمة العيش، وقد وصلت شرائح منها إلى امتهان أعمال البحث عن رزقها في حاويات القمامة. وما يدعو إلى المأساة في مصير الشعب السوري؛ أن هؤلاء الممتهنين لمهنة التكسّب في القمامة ليسوا قلة نادرة، بل صاروا للأسف أبناء كار وصارت العملية ميداناً، أو كاراً قائماً.
ما يعني أن البيئية السورية قد صارت مرتعا خصباً للسرقة والفوضى والجريمة. وبما يفيد أيضاً أن المواطن السوري يعيش حالة من اليأس والخوف على يومه وغده، ولم يعد يصدق أحداً أو يقتنع بتبرير أو تسويف من قبل سلطة أو حزب أو أعلام أو حليف، مهما كان نوعه أو مصدره.
بل يمكن القول؛ إن جواً من انعدام الثقة بكل ما هو مطروح بات يسيطر على تفكير غالبية السوريين، وقسطاً من الاستياء والنفور والكُرهِ صار ينتابهم لجهة الدور الإيراني والروسي، ويحملهما جزءاً كبيراً من المسؤولية عن تدهور الحالة المعيشية، وعن الضلوع بتأخر حل الأزمة الوطنية العامة، وكما يترسَّخ لديهم انطباعاً بأن الدور الروسي يفرّط بالمصلحة الوطنية ويبيعها أو يقايض فيها مع السياسة التركية، عبر الدفع إلى إقامة صفقة تسوية سورية مع أردوغان، قد تخرجه من أزمته وتُحسِّنُ وضعه في الانتخابات القادمة، وكأن الميدان السوري قد أصبح سلّة مهملات أو مكبَّ نفايات تحل في جوفه مشاكل الإيرانيين ومفرزات الحروب الروسية وتداعياتها.
وإلى ذلك، تستمر التراكمات وفيه أخطاء السياسات المتَّبعة، وتستمر معها تناقضات مصالح القوى المتدخّلة واللاعبة في معادلة الحكم في التفاعل والتأثير على استقرار المشهد، ويتمدد لهيب الصراع، ليصل في سابقة نادرة إلى أروقة مجلس الشعب، ليتسرَّبَ مضمونُ سجالٌ حادٌّ حول أداء الحكومة ما بين عضو البرلمان عن محافظة حمص “ناصر يوسف الناصر”، وما بين رئيس المجلس “حمودة الصبّاغ. يتناول من خلاله “الناصر” السياسات التي تنتهجها الحكومة وتمس مصير الشعب، بكثير من التعرية واللوم والحِدَّةِ، موضِّحاً بعضاً من جوانب المأساة التي يعيشها الشعب، ومبرزاً حجم تواطؤ الحكومة واستهتارها بقضايا الشعب وبواجباتها نحوه، لينبري رئيس المجلس “الصباغ” إلى تقديم دفاعٍ مستميتٍ – خرج فيه عن اللباقات – عن الحكومة. وردَّدَ مرارا جملة “أنت لا تمثل غير نفسك”، ليقوم “الناصر” بتذكيره أكثر من مرة بأنه منتخب من الشعب، وبأنه يعكس في كلامه معاناة الشعب من ظروف صارت لا تُطاق.
وفي مشهد استدعى سخرية السوريين؛ قدَّمَ “الصباغ” نفسه وكأنه هو المنتخب والآخر جاء بطريقة مختلفة عن طريقته في الوصول إلى المجلس. وإذا أضفنا إلى الصورة الإطلالات الجديدة لـ”رامي مخلوف”، والذي بدأ فيها مبشّراً السوريين بنهاية سعيدة وحاسمة لازمتهم خلال أسابيع قليلة، وكأنه قد أصبح ممسكاً بعلم التنجيم، أو أنه يعمل مع صانع القرار الدولي.
نستطيع القول إن تعارض المصالح في بنية النظام الشمولي، بدأت تُطِلُّ برأسها داخل مؤسسات الحكم وفي دوائر القرار، وأصبح كل طرف يحاول أن يُعوِّمَ نفسه ويَجُرَّ الدولة لأن تكون رَهْنَ مصالحه وتصوراته، والكل بدا متخوفاً من تموّجات السياسة الدولية ومفاجآتها.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..