هل سينطلق حوار بين دمشق والقامشلي على وقع تهديدات أنقرة بالاجتياح؟
محمد عيسى
على وقع الاعتداءات التركية اليومية على الأراضي السورية، والتي تطال حياة السكان المدنيين في المدن والقرى الحدودية، وتستهدف البنية التحتية، كمحطات ضخّ مياه الشرب وتوليد الكهرباء ومصافي تكرير النفط، وتترافق مع التهديدات بشن عملية عسكرية برية جديدة، والمتصادفة أو المتناغمة مع غارات إسرائيلية صارت شبه يومية هي الأخرى؛ تتفتَّقُ عبقرية الطرف الروسي والإيراني الحليف لدمشق بالدفع نحو تطبيع للعلاقات ما بين دمشق وأنقرة.
أنقرة المتورِّطة بأزمة السوريين منذ اللحظة الأولى، والذي عمل رئيسها، رئيس الدولة التركية، والطامح إلى إحياء عصر الخلافة العثماني، رجب طيب أردوغان، إلى تقويض سلطة النظام في دمشق ودعم حركة تمرّد السوريين عليه، باتباع مسلك إيقاظ الأحقاد الطائفية وتصعيد الممارسات الإرهابية، وزعزعة الاستقرار والسلم الأهليين، عبر تغذية واحتضان منظمات الإسلام السياسي الإرهابية، كـ”النصرة وداعش وجيش الإسلام” وسوى ذلك من تشكيلات ومسميات.
وليس هذا فحسب؛ بل ذهب إلى وصف الرئيس الأسد بـ”القاتل والمجرم”، وبأنه سيعمل كل ما وسعه لإسقاطه، تمهيداً لتنفيذ حلمه الصلاة في المسجد الأموي بدمشق، وهو نفسه من دفع بالقوات التركية إلى المدن والأراضي السورية لتشكل ظهيراً وسندا للمنظمات الإرهابية، ولتحتلَّ هذه المدن وتهجر سكانها وتعيث فساداً وتخريباً ونهباَ لمواردها ومقدراتها، وتمارس تتريكاً لثقافة المناطق الواقعة تحت نفوذها، ثم طمساً لقيم وهوية سكانها، حيث تروِّج اللغة التركية والعملة ويرفع العلم التركي، وهي التي درجت واستمرأت قضمَ الأراضي السورية والعربية عامة، فبعد لواء إسكندرون؛ تأتي عفرين ورأس العين وأراضي شمال العراق.
فالسياسة التركية صاحبة كل هذا الإرث من التآمر والعداء للدولة السورية والشعب السوري وشعوب المنطقة، وهي تعايش أزمات داخلية عميقة في الاقتصاد وعلى مستوى الرأي العام، حيث تتدهور شعبية الإئتلاف الحاكم وقد أصبح على مسافة أشهر فقط من الانتخابات البرلمانية والرئاسية؛ فإنها تضع اليوم الوضع السوري برمته أمام تطورات خطيرة، وتحاول أن تمرِّرَ اجتياحاً للأراضي السورية، لتوظفه في مداورة أزماتها وتستثمر في قضية اللاجئين، التي باتت قضية داخلية تركية مؤرقة.
ولتمرير كل ذلك؛ يعلم أردوغان ويعلم أصدقاؤه الروس والإيرانيين، والذي تمرَّس بدوره في استغلال حاجتهم إلى الدور التركي، بعد اشتداد مأزق الروس مع تطورات الحرب في أوكرانيا، ودخول الوضع الإيراني طور مواجهة مع استحقاقات ثورة شعبية دائمة، يعلمون جميعاً أن تحقيق الأهداف التركية يتطلب موافقة سورية، أو تمريراً وصمتاً، أو تغطية من قبل سلطات دمشق؛ بحجة التعاون لبسط سلطة الدولة ومواجهة ما تزعم السياسة التركية أنها “قوى إرهابية تسعى للانفصال وتهدد سلامة الدولة”، في إشارة إلى قوات سوريا الديمقراطية.
وبالمقابل من كل ذلك، وفي مواجهة التحديات الناشئة عن الخطر التركي، ومن موقع المسؤوليات الوطنية والاجتماعية تجاه الشعب السوري والدولة السورية؛ فقد قام مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) وباعتباره صاحب مشروع وطني ديمقراطي ثوري يُعنى بمستقبل سوريا والمجتمع السوري، ويسعى إلى تطوير نموذج الدولة السورية نحو نمط الدولة الواحدة الديمقراطية واللامركزية، قد دعا منذ نشأته إلى الحوار مع جميع فعاليات المجتمع السوري وقواه الأساسية، وعلى رأسها سلطات دمشق.
ولأن المعروض في المأزق السوري محدود وضيق جداً، ولا يتعدى أحد مسلكين؛ الأول، المُضيُّ في الطريق الذي ترسمه روسيا وإيران، والذي يقتضي تفاهماً وتطبيعا مع مشروع أردوغان، والذي لم تُبدِ دمشق أي حماسة نحوه حتى الآن، لأنها تدرك بأنه كان – وما يزال – علة العلل في الأزمة السورية، ويتجلى فتور الموقف السوري إزاء جهود الوساطة مع أنقرة من خلال جملة من المؤشرات والمعطيات، من أهمها كلام للرئيس الأسد مع الصحافة التركية، يردد فيه “..أنا لا أثق بهذا الرجل”، في إشارة إلى أردوغان. وفي الردِّ على سؤال حول ما يزعم من أنها مخاوف من نشاطات “انفصالية لدى (مسد)، قال “ليس لديَّ مخاوف من هذا النوع، فالشعوب في المنطقة لا تحمل هكذا مشاريع أو لا تتحمَّس نحوها..”.
ومما يدلل على برود الموقف الرسمي السوري وتوجّسه من الخطوة التركية؛ هو رفض دمشق منذ أيام قليلة استقبال وفد تنوي أنقرة إرساله إلى دمشق، مطالبة تأجيل ذلك، أو أن يكون الحوار في بلد آخر، في خطوة اعتبرها مراقبون فيها الكثير من الاستخفاف والإهانة لأردوغان، يضاف إلى هذه المواقف، ظهور أكثر من إيجاز صحفي للمستشارة الإعلامية بثينة شعبان، تدين فيه السياسات التركية فيما يتصل بالغارات التي يشنها الطيران التركي على المواقع السورية، وتعليقاً على ظهور نية بشن عملية برية جديدة. والعامل الأهم من كل ذلك، هو ما تبلوره حاضنة النظام الشعبية في الداخل السوري من مواقف الرفض والتوجس والخوف من النوايا التركية.
وهنا يجب إلا نَغُضَّ الطرف عن تبلور خطاب إسلاموي داخل مفاصل النظام الشمولي، يقول كثيرون إن وزير الأوقاف وآخرون يقفون خلفه، وقد يكون لهذا التيار رأي محفز أو داعم لخطوات التقارب مع تركيا، وهو معاد بنفس الوقت لسياسة التقارب مع (مسد)، وذلك من منطلق الاعتبارات الأيديولوجية والقومية الضيقة.
والمسلك الثاني، وهو طريق الحوار بين السوريين؛ لاجتراح حلول تُمليها الدواعي الوطنية وتفرضها قوانين التاريخ، ولا ريب بأن الحوار وجلسات التفاوض التي دارت حتى الآن بين ممثلي (مسد) وممثلي السلطات في دمشق، تشكل المحطة الأهم والأكثر تعويلاً، لناحية إنتاج مخارج مشرّفة تَليق بالسوريين، وتكون على مستوى التحديات الكبرى.
وبما أن (مسد) في مقاربته للمسألة الوطنية وتعاطيه مع الأزمة السورية، لا يعتمد طرقاً استفزازية، أو خطاباً انقلابياً أو استئصالياً، كما هو الحال في نهج المعارضة الإسلامية المتشددة، بل يقدم مشروعاً سياسياً، ويدعو السوريين للحوار حوله، فهو بذلك لا يثير حفيظة النظام، أو تعزف على مخاوف كانت المعارضة المتشددة قد زرعتها لدى جميع الأطراف. كما يعني أن نجاح الحوار بين الطرفين له فرص معقولة في أن يصل إلى نهايات سعيدة، ثم إن مشروع الإدارة الذاتية لا يشكل بعداً أو مسافة كبيرة عن صيغ يطرحها النظام لمستقبل الإدارة الاجتماعية والاقتصادية ومسائل الخدمات والثقافة في حكم البلاد، حيث تطرح الكثير من الأوساط اليوم داخل النظام وداخل المجتمع أفكاراً لتطوير قانون الإدارة المحلية المعمول به في البلاد، والإدارة الذاتية في هذه النقطة تعلن عن استعدادها الدائم لأن تسلّم إدارة الموارد للمركز في دمشق العاصمة عندما يتطور الحل النهائي، ولا تريد منها غير حصَّتها بحسب نسبتها من السكان، وكذلك قبولها بأن يتولى المركز مهام السياسة الخارجية والأمن والدفاع.
وبالاحتكام إلى المنطق في السياسة؛ يستطيع المتتبع لآفاق اللقاء ما بين النظام في دمشق ومجلس سوريا الديمقراطية، أن يقول لا يوجد في السياسة أو البرامج السياسية لكلا الطرفين معوّقات كبيرة تحول دون إتمام تفاهم تاريخي، وخاصة إذا أولينا اهتماماً خاصاً لحاجة كل من الفريقين للآخر، في ظروف تكالب الأطماع الدولية وأطماع الدول الإقليمية وتطاولها على سيادة واستقرار البلاد. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار المعاني والدلالات التي تركها اختلاط الدماء جرّاء تضحيات شهداء الجيش العربي السوري، وتضحيات شهداء (قسد)؛ فسيؤدي اللقاء ما بين سلطات دمشق ومجلس سوريا الديمقراطية في منتصف الطريق إلى أن يكون جسراً أكيداً لإنهاء معاناة السوريين، وسيقدّم مولوداً جديداً لجمهورية جديدة طالما حَلُمَ السوريين بها، فسوريا الجديدة المتولدة عن الحوار الهادئ وليس عن العنف؛ ستعني للعالم أن الشعب السوري قد انتصر في النهاية، وأن الجميع قد خرجوا رابحين، ولم ينهزم غير العنف والتطرف والفقر والفساد والاستبداد.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..