هل رضخت السويد وفنلندا للشروط التركية للانضمام ل”الناتو”؟
جميل رشيد
لاتزال قضيّة انضمام كُلٍّ من السّويد وفنلندا إلى حلف الشَّمال الأطلسيّ (النّاتو)، تشهد جدلاً بين أعضاء النّاتو الثَّلاثين، لجهة معارضة تركيّا لانضمام الدّولتين الإسكندنافيّتين.
ارتأى البلدان ضرورة الانضواء تحت راية “النّاتو” بعد الحرب الرّوسيّة في أوكرانيا، والمخاوف التي أثارتها باجتياح روسيّا للدّول المحيطة بها، خاصَّةً بعد أن انضمّت بعض دول الاتِّحاد السُّوفياتي السّابق إليه مثل مولدوفا وكذلك رومانيا. رغم أنَّ السّويد وفنلندا حافظتا على حيادهما من مجمل النزاعات والصراعات الدّوليّة، ولم تنجرّا للتّحالفات والاصطفافات الدّوليّة بعد الحرب العالميّة الثّانية.
وضعت تركيّا عقبات وشروط تعجيزيّة أمام البلدين، في مسعى للاستمرار في سياسة الابتزاز التي اتّبعتها مع العديد من دول العالم، وهي سياسة طالما اعتمدها الرَّئيس التُّركيّ أردوغان إستراتيجيّة ثابتة له إزاء عدد من القضايا الإقليميّة والدّوليّة، وفي مقدِّمتها الأزمة السُّوريّة وموضوع اللّاجئين السُّوريّين، حيث لايزال يُهدِّدُ أوروبا بفتح أبواب بلده، لتسهيل وصول اللّاجئين الفارّين من المقتلة السُّوريّة إلى دول الاتّحاد الأوروبيّ كما فعلها في عام 2015.
تمارس تركيّا موقعها ضمن حلف النّاتو لإضعاف حليفاتها، ولإبداء نوع من المغازلة مع روسيّا، التي تعارض انضمام الدّولتين لـ”الناتو”. فالمناورة التُّركيّة وصلت إلى جدار مسدود في القمّة التي عقدها “النّاتو” في 30 يونيو/ حزيران الماضي بمدريد، حيث قَبِلَ أردوغان بانضمام البلدين، مقابل “تفاهمات” جرت بين البلدين.
وكانت السّويد أوقفت صادراتها من السِّلاح لتركيّا عقب غزوها لمدينتي سري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض في أكتوبر/ تشرين الأوَّل عام 2019. إلا أنَّ إحدى بنود مذكَّرة التَّفاهم الموقَّعة بينهما في مدريد، تنصُّ على رفع حظر تصدير الأسلحة إلى تركيّا. وتقدَّمت ثلاث شركات صنع الأسلحة بطلبات للحكومة، إلا أنَّ الحكومة السّويدية لم توافق عليها بعد.
ونشرت بعض وسائل الإعلام التُّركيّة حينها بأنَّ استوكهولم وهلسنكي تعهَّدتا بعدم “دعم مجموعات مسلَّحة أخرى معارضة لأنقرة، بما في ذلك قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة في شمالي سوريّا”، إلا أنَّ هذا الادّعاء هو فقط لتبرير موافقة تركيّا على انضمام الدَّولتين، فالكُلُّ يعلم أنَّ تركيّا ستوافق على انضمام الدَّولتين، وحتى دون تلبية شروطها، وذلك تحت الضغط الأمريكيّ. وكذلك الدَّولتان لا تدعمان (قسد) لا عسكريّاً ولا اقتصاديّاً.
وتحاول أنقرة منذ فترة شراء 40 طائرة حربيّة من طراز “إف – 16” و/80/ مجموعة تحديث لطائراتها الحربيّة الحالية، مقابل المبلغ الذي دفعته لبرنامج مقاتلات الشَّبح الأمريكيّة من طراز (F-35).
إن كانت تركيّا روَّجت للشّروط التي وضعتها أمام الدَّولتين، إلا أنَّ النوايا التُّركيّة الحقيقيّة وراء معارضتها لانضمام الدَّولتين، أبعدُ من رفع حظر صادرات الأسلحة إليها، وتسليم ما تدَّعيه أنقرة بـ”الإرهابيّين” إليها.
في هذا الصدد، قال خبير الشؤون التُّركيّة في مركز الأهرام للدِّراسات السياسيّة والإستراتيجيّة، “كرم سعيد”، أنَّ هناك أربعة أسباب وراء المعارضة التُّركيّة:
1 – السَّبب الأول: هو ضريبة التحالف التُّركيّ الرّوسيّ، لافتاً إلى أنَّ التَّحالف بين الجانبين “يفرض خيارات محدودة على أنقرة، يتبعها رفض توسع “النّاتو” على الحدود القريبة من موسكو، وبالتّالي ترى تركيّا أنَّ دخول البلدين قد يؤدّي إلى توتّر مع موسكو، خاصَّةً في ظِلِّ تهديدات روسيّا، ومن ثُمَّ أنَّ حدوث أيّ اختلالات ستحمل ارتدادات سلبيّة على تركيّا”.
2 – السَّبب الثاني، يرتبط بفكرة “إرباك الحسابات”، حيث إنَّ دخول البلدين إلى الحلف سيؤدّي إلى إرباك حسابات تركيّا ومصالحها الإقليميّة خاصَّةً في مناطق القوقاز شرق أوروبا، فرغم أنَّ فنلندا والسّويد تتبنّيان ظاهريّاً سياسة الحياد، إلا أنَّهما دأبا على انتقاد أنقرة خاصَّةً في الشأن الحقوقيّ، وكان آخرها في أكتوبر/ تشرين الأول 2021 وأزمة طرد السُّفراء العشرة بعد إدانة حبس النّاشط التُّركيّ “عثمان كافالا”.
3 – السَّبب الثّالث: ويتمثَّل في المواقف المضادّة للبلدين، خاصَّةً في “رعاية الخصوم”، وهو ما أشار إليه الرَّئيس التُّركيّ بشكل مباشر بأنَّهما باتا بيوت ضيافة للمُنظّمات “الإرهابيّة”، في إشارة لاستضافتهم عناصر من حزب العمّال الكُردستانيّ ومنظمة غولن التي تصنِّفهم أنقرة “مُنظّمات إرهابيّة”.
4 – السَّبب الرّابع: يرجع إلى “توظيف الأزمة لتحقيق مكاسب وحسم الملفّات الشائكة”، حيث ستعمل أنقرة على الضغط على البلدين والغرب والدّول المعادية لمصالح تركيّا لإجبارهم على حَلِّ القضايا الخلافيّة، سواء الحصول على عضويّة الاتّحاد الأوروبيّ، ومع أمريكا مثلاً حَلَّ أزمة منظومة الصَّواريخ الرّوسيّة “إس – 400″، والطائرات الأمريكيّة المقاتلة “إف – 16” و”إف – 35″، وغيرها ووقف التحشيد الغربيّ المُضاد في منطقة شرق المتوسِّط.
ولكي تصبح السّويد وفنلندا عضوتين في حلف النّاتو، لا بُدَّ أن تصادق الدّول الـ/30/ أعضاء “النّاتو” على طلبيهما بالإجماع، وصادقت /28/ دولة حتّى الآن، والبرلمانان التُّركيّ والمجريّ هما الوحيدان اللَّذان لم يصادقا نهائيّاً بعد.
تدَّعي أنقرة أنّ السّويد وفنلندا تأويان إرهابيّين مطلوبين لديها، ولكن هذه أكذوبة تسعى تركيّا ورئيسها التَّسويق لها، للحصول على مكاسب، وتسليم كُلّ المعارضين لسياسة أردوغان ونهجه الدّيكتاتوريّ في الحكم، ومن بين من تطالب بتسليمهم صحفيّون وسياسيّون وأساتذة جامعات. غير أنَّ الحكومة السّويدية، ورغم تعهُّدها بتسليم بعض الأشخاص إلى تركيّا، إلا أنَّها تواجه موانع قانونيّة وحقوقيّة في تنفيذ هذا العهد. فالسّويد أوَّلاً وأخيراً دولة قانون، ولا يمكنها أن تتجاوز قوانينها مثل تركيّا، وتلوي عنق قانونها صالح سياسيّيها.
وهناك متطلّبات قانونيّة في السّويد وفنلندا، تجعل من الصَّعب جدّاً تسليم هذا الكمّ من الأشخاص الذين تطالب بهم تركيّا، فقد حدَّدت محاكم البلدين جملة من الشّروط الواجب توافرها لديها، كي تتمكّن من تسليم الأشخاص الواردة أسماؤهم في اللّائحة المقدَّمة من حكومتيهما إليها، ومن بينها:
1 – أنَّه للمحكمة المستقلّة القول الفصل في تسليم المجرمين وليس السياسيّين.
2 – لا يمكن تسليم حَمَلَةِ الجنسيّة السّويدية أو الفنلنديّة.
3 – يمكن تسليم الرَّعايا الأجانب، لكن فقط إذا كان ذلك يتماشى مع الاتّفاقيّة الأوروبيّة لتسليم المجرمين.
4 – لا يُسمح بتسليم المطلوبين في الجرائم السِّياسيّة، أو تسليم الأشخاص إلى البلدان التي يتعرَّضُ فيها النّاس لخطر الاضطهاد.
5 – ليكون التَّسليم قانونيّاً؛ يجب أن تكون الجرائم المزعومة مجرَّمةَ في القانون السّويديّ أو الفنلنديّ.
ووفقاً لصحيفة Dagens Nyheter السّويديّة، أنَّه من بين /33/ اسماً سويديّاً مُدرَجاً في وسائل الإعلام التُّركيّة، تَمَّ بالفعل رفض تسليم /19/ اسماً من قبل المحكمة العليا في استوكهولم.
وقال رئيس المحكمة العليا أندرس إيكا: “لا يمكننا متابعة القضايا السّابقة التي جرى البتُّ فيها بالفعل”.
ويذهب بعض المحلّلين السِّياسيّين إلى أنَّ أردوغان يحاول من خلال هذه الإستراتيجيّة؛ لإعادة انتخابه في الانتخابات القادمة، واستخدام ورقة تسليم معارضيه أداة ضغط على أمريكا للموافقة على صفقات أسلحة.
ويعتقد البعض أنَّ هناك فرصة ضئيلة لتسليم السّويد أو فنلندا أيَّ شخصٍ على القائمة التُّركيّة في أيّ وقت قريب.
من جانبها تحاول الولايات المتّحدة، مسك العصا من المنتصف، وإرضاء جميع الأطراف، وتحرص ألا تندلع خلافات داخل الخلف الذي تقوده، خاصَّةً في هذه الفترة الحسّاسة حيث تخوض فيها روسيّا حرباً في أوكرانيا، وترى الولايات المتّحدة أنَّ أيَّ خلافٍ يؤثِّرُ على مواقف الحلف تجاه الحرب التي تعتبرها أنَّها تستهدف جميع أعضاء الحلف بالدَّرجة الأولى.
ولتركيّا تاريخ حافل بمعارضتها انضمام الدّول إلى الحلف، وهذه ليست المرَّة الأولى التي تعارض فيها تركيّا انضمام دولة إلى “النّاتو”، ففي عام 1980 عارضت انضمام اليونان إليه، وقال الرَّئيس التُّركيّ أردوغان بأنَّهم لن يكرِّروا هذا الخطأ ثانية. وكانت اليونان انسحبت من الحلف عقب غزو تركيّا لقبرص عام 1974 وعدم اعتراض “النّاتو” على عمليّة الغزو، وبعد تقديم اليونان طلب الانضمام ثانية، رفضت تركيّا، ثُمَّ ما لبثت أن وافقت.
وتكرَّرَ الموقف التُّركيّ في عام 2009 عندما تَمَّ ترشيح رئيس وزراء الدانمارك “أندرس فوغ راسموسن” ليصبح أميناً عامّاً لـ”الناتو”، إذ اعترضت تركيّا بسبب الرّسوم المُسيئة للرَّسول مُحمَّد، والمواقف من حزب العُمّال الكُردستانيّ، مقابل حصولها على مناصب مُهمّة داخل الهيكل السِّياسيّ والعسكريّ للحلف.
تبقى قضيّة انضمام الدَّولتين إلى “النّاتو” أكبر من الاعتراضات والشُّروط التُّركيّة، فهي متعلّقة بعوامل جيوسياسيّة وإستراتيجيّة للحلف إزاء التكتّلات والأحلاف العسكريّة التي تُطِلُّ برأسها في عدَّة مناطق في العالم، وتتجاوز تركيّا ونظامها السِّياسيّ. كما أنَّ موقع تركيّا وثقلها السِّياسيّ والعسكريّ وأهميّتها ضمن الحلف قد تراجع بعد انهيار الاتّحاد السّوفياتيّ، ويتراجع الآن أكثر في ظِلِّ المواقف المتذبذبة التي يتَّخذها أردوغان إزاء الصراع في أوكرانيا، وسياسة الابتزاز التي مارسها قد ولّى زمنها، فهي سترضخ للضغوط الغربيّة، وفي النِّهاية ستقبل بانضمام الدَّولتين، شاءت أم أبت، ودون أيَّة شروط.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..