ما وراء رهانات “الإخوان” على “النصرة”
جميل رشيد
تَشهَدُ مناطق الشَّمال السُّوريّ، بعد دخول “هيئة تحرير الشّام/ جبهة النُّصرة سابقاً” إلى عفرين، وبسط سيطرتها عليها، أحداثاً متسارعة، لجهة تغيُّر وتبدُّل شكل الاصطفافات والتَّحالفات القائمة، وإعادة تموضع للقوى المتدخِّلة بالأزمة السُّوريّة.
لا شَكَّ أنَّ القوى الأكثر تأثيراً في تغيير مسارات الأزمة والأكثر نفوذاً وقدرة على إحداث اختراقات مُهِمَّة في جدارها، لاتزال تلتزم جانب الصَّمت حيال سيطرة قوَّةٍ مصنَّفة في قائمة الإرهاب العالميّ على عفرين، باستثناء بيان للمتحدِّث باسم الخارجيّة الأمريكيّة، ذكر أنَّ واشنطن “قلقة بشأن العنف الأخير في شمال وغرب سوريّا وأثره على المدنيّين”، داعياً الأطراف المتناحرة في سوريّا إلى “خفض التَّصعيد، وتركيز الأولويّة على سلامة الشَّعب السُّوريّ”، وهو بيان يحمل في طيّاته مخاوفاً وغموضاً أمريكيّاً، يشي بموافقة مضمرة على تمدّد “تحرير الشّام” في عفرين، ولحسابات أمريكيّة غير معلنة.
وفيما تركيّا الرَّسميّة لاتزال تلتزم الصَّمت حيال تمدّد “النُّصرة” في المناطق التي تحتلّها هي ولها السُّلطة العليا فيها وقرارها مرتبط بها وحدها، فإنَّها في ذات الوقت لا يمكن أن تخفي وجهها الحقيقيّ وأهدافها وراء العمليّة التي خُطِّطَ لها في دوائر الاستخبارات التُّركيّة “الميت”، وأوّلها إعادة ضَخِّ الدِّماء في الدَّور التُّركيّ، الذي بدأ ينهار وسط المُتغيّرات الجديدة في السّاحة السُّوريّة والإقليميّة والدّوليّة، بعد فشل الرِّهان التُّركيّ على مرتزقتها في تنفيذ أجنداتها في سوريّا، وهو ما دفع النِّظام التُّركيّ وعلى رأسه أردوغان إلى التوسُّل لدى الحكومة السُّوريّة، وطلب “المصالحة” وإعادة تطبيع العلاقات بينهما.
إنَّ مفاعيل سيطرة “النُّصرة” على عفرين، أحدثت تخبُّطاً لدى أطراف المعارضة المرتبطة بتركيّا بالدَّرجة الأولى، وهي التي عوَّلت، ومنذ بداية الأزمة، على الدَّور التُّركيّ، بل انسلخت عن سوريَّتها، وتَحوَّلت إلى امتدادٍ لتركيّا في سوريّا، ولم يكن لها أيَّ أجندات وطنيّة سوريّة. فالصدمة التي يعيشها الإئتلاف السُّوريّ، وخاصَّةً الإخوان المسلمون، جرّاء انقلاب حليفهم التُّركيّ عليهم، إنَّما تُمثّل بداية انهيار منظومتهم الإرهابيّة، والتي بدأت أولى حلقاتها في مصر، ثُمَّ في تونس والمغرب، لتصل إلى سوريّا وفلسطين، عبر استدارة فرعها “حركة حماس”، في المصالحة مع حكومة دمشق، وبشروط الأخيرة.
الإئتلاف اعتمد على تركيّا وقطر في بناء هيكليَّته السِّياسيّة والتَّنظيميّة والعسكريّة، ونتيجة علاقة التبعيّة المفروضة عليه من قبل تركيّا، فقد منذ سنوات مصداقيّته، وانحصر عمله في التَّسويق للأجندات التُّركيّة ودعم مشاريعها الاحتلاليّة في سوريا، وخاصَّةً في مناطق روج آفا، وحصرها في محاولة توجيه ضربة للكُرد والإدارة الذّاتيّة. غير أنَّ سقوط الأصل يستدعي سقوط الفرع أيضاً، فتركيّا التي تَمُرُّ في أزمة سياسيّة واقتصاديّة وعسكريّة عميقة، وأنَّ الخروج منها يتمثَّل في المصالحة مع حكومة دمشق؛ فإنَّها جَرَّت الإئتلاف وراءها، ليعيش أزمة إضافيّة، رغم أنَّ أزمة الأخير هي بالأساس بنيويّة تتعلّق بالتشكيلة الهجينة واللا وطنيّة له. فمنذ تشكيله عام 2012، لم يتمكَّن من أن يطرح ويطوّر برنامجاً وطنيّاً سوريّاً، لينال ثقة السُّوريّين، بل انحاز إلى الأجندات التُّركيّة، واستطاعت حركة الإخوان المسلمين أن تُجَيّرُهُ لصالح تمثيل شعاراته وبرامجه الإرهابيّة الإسلامويّة، فتبنّى – أي الإخوان – معظم الفصائل والميليشيّات التي حملت راية الإسلام، زوراً وبهتاناً، وكان ما يُسمّى “المجلس الإسلاميّ السُّوريّ” التّابع له يُشرعن جرائم الفصائل، والإئتلاف يوفِّرُ لها الغطاء السِّياسيّ. فالأوَّل أصدر الفتوى تلو الأخرى، لِيُبَرِّرَ للفصائل الإخوانيّة الإرهابيّة جرائمها وانتهاكاتها في عفرين وسري كانيه وكري سبي وسائر مناطق سيطرة الاحتلال التُّركيّ، مثل الفتوى التي أصدرها إبّان العدوان التُّركيّ على عفرين، حَلَّلَ فيها السَّيطرة على أموال وأملاك أهاليها.
ولا تغيب عن ذاكرة أهالي عفرين والسُّوريّين عموماً زيارة ما يُسمّى “نصر الحريري” رئيس الإئتلاف إلى عفرين، وتكريم قائد ما يُسمّى “فرقة سليمان شاه/ العمشات” الإرهابيّ “مُحمَّد الجاسم/ أبو عمشه” وتقليده درعاً، والدِّفاع عنه ومحاولة تبرئة ساحته من الجرائم والانتهاكات الفظيعة التي ارتكبها في عفرين وباقي المناطق.
إنَّ إحدى شروط حكومة دمشق لإعادة تطبيع العلاقات مع النِّظام التُّركيّ الحالي؛ تقضي بتفكيك منظومة الإخوان المسلمين والفصائل العسكريّة التّابعة لها. واستبقت تركيّا ومعها الإخوان الخطوة السُّوريّة، عبر تبنّي “هيئة تحرير الشّام/ جبهة النُّصرة سابقاً” في الخفاء، عبر السَّماح لها بالتمدّد في المناطق التي تدَّعي أنَّها تسيطر عليها، وهي تهدف من ورائها، إلى تحقيق ما يلي:
1 – إعادة الاعتبار لنفسها، عبر التَّهديد بورقة “النُّصرة”، ومحاولة خلط الأوراق، بما يمكِّنَها من إيجاد مكانة لها في أيِّ ترتيبات مستقبليّةٍ بين القوى التي تتصارع في سوريّا وعليها.
2 – حَلّ جميع الفصائل التي سبَّبت لها “إزعاجاً” في المناطق المحتلَّة من قبل تركيّا وتأديبها، وضَمّها إلى “النُّصرة”، لتغدو قوَّتها الضاربة في تهديد جميع الأطراف، بما فيها قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة وقوّات الحكومة السُّوريّة وحلفائها.
3 – رغم أنَّ الإئتلاف ومن ورائه الإخوان المسلمين، لم يعلنا تبنّي “هيئة تحرير الشّام” علناً، إلا أنَّ ما يجري من ترتيبات، وبأوامر من الاحتلال التُّركيّ على الأرض في عفرين، يؤكِّد، وبشكل لا جدال فيه، أنَّ الإخوان، وبعد أن ارتدى عناصر “الهيئة” المنتشرين في الدّوائر الأمنيّة والخدميّة، لباس الميليشيات التّابعة للإخوان، لشرعنة سيطرتها على عفرين، إنَّما جاء بموافقة من الإخوان المسلمين والإئتلاف، وهي التي باركت لـ”النُّصرة” سيطرتها على إدلب في مارس/ آذار 2015، وتبنَّها على أنَّها “فصيل من الثَّورة السُّوريّة”.
4 – يعتبر الإخوان أنَّ “النُّصرة” هي الورقة الرّابحة بيدها، فستحاول تصفية صفوف الأولى من العناصر الأجنبيّة، لِتُسَوِّقَ لها على أنَّها “فصيل وطنيّ سوريّ”، وهو ما يتوافق مع مساعي “الجولاني” في إزالة قناعه وشطب اسمه من لائحة الإرهاب، وبالتّالي المشاركة في أيّ مفاوضات مستقبليّة حول سوريا. وليس من المستغرب أن نرى “الجولاني” أو من يُمثّله، يشارك غداً في مفاوضات اللَّجنة الدَّستوريّة، أو في مفاوضات جنيف، أو أن تَتُمُّ دعوته من قبل إحدى الدّول الغربيّة ليمثّل الشَّعب السُّوريّ.
الموقف الدّوليّ الملتبِس والضبابيّ من الإخوان المسلمين، وحيال تمدُّد “النُّصرة” في عفرين؛ إنَّما يحمل معه مخاطر، ستنعكس مستقبلاً على كُلّ جهود حَلّ الأزمة السُّوريّة، ورُبَّما يعيدها إلى المربَّع العنفيّ الأوَّل. فرغم أنَّ الدّول الغربيّة وعلى رأسها الولايات المتّحدة الأمريكيّة، منشغلة بالحرب الرّوسيّة في أوكرانيا، إلا أنَّ هذا لا يعني أن تترك السّاحة السُّوريّة ألعوبة بيد كُلٍّ من تركيّا وروسيّا وإيران. ومن المفترض أن تبدي مواقف أكثر جرأة حيال سيطرة تنظيم إرهابيّ على جزء مُهمٍّ من الجغرافيّا السُّوريّة، وتضع حدّاً لمغامرات أردوغان ومعه الإخوان المسلمين في اللَّعب بمصير الشَّعب السُّوريّ.
الثّابت أنَّ تركيّا لم تبادر بمفردها إلى منح “النُّصرة” الضوء الأخضر للسَّيطرة على عفرين، بل تشاركت معها دول محور أستانا “روسيّا وإيران”، وفق صيغة مساومة جديدة، لم يكشف عن تفاصيلها حتّى الآن. إلا أنَّ كُلّ التَكهُّنات تدور حول انسحاب “النُّصرة” من مناطق شمال اللّاذقيّة وحماة وجنوب إدلب، مقابل منحها عفرين ومناطق ما تُسمّى “درع الفرات”. والقصف الرّوسيّ على مقرّ “صقور الشَّمال” في مدخل قرية قطمه بعفرين، ودون تَعرُّضها لأرتال “النُّصرة” العسكريّة التي كانت تتَّجه وتقاتل “الجبهة الشّاميّة” في كفرجنه، يؤكِّدُ هذه الفرضيّة.
من جهة أخرى، تركيّا أضعف من أن تطلق يد “النُّصرة” في عفرين لوحدها، دون نيل موافقة روسيّا وإيران، وهي التي تتوسَّل المصالحة على أبواب دمشق.
فإن كانت تركيّا والإخوان المسلمين ومعه الإئتلاف، تخطّط لأن تنهي ملفَّ اللّاجئين السُّوريّين على أراضيها، عبر فرض الاستقرار والأمن بقوَّةِ قمع “النُّصرة”، وتنشئ “منطقة آمنة” بقوَّة الإرهاب؛ فإنَّه في المقابل سيفتح عليها أبواب جهنَّم، عبر تمسُّك قوى مناهضة لها بورقة “إرهاب النُّصرة” وجميع ملحقاتها “الحكومة المؤقَّتة”، لتطلق حملة لتحرير المناطق المحتلّة، وتنظِّف الشَّمال السُّوريّ من بقايا الإرهاب، قبل أن يتحوّل إلى أفغانستان ثانية.
كُلّ المؤشرات تؤكّد أنَّ الشَّمال السُّوريّ، وعفرين خصوصاً، تعيش على صفيحٍ ساخنٍ، والأيّام القادمة حُبلى بالمفاجآت، وعلى الأقل؛ يمكن القول عنها بأنَّها؛ لا تَسُرُّ تركيّا وحلفائها “الإخوان المسلمين وجبهة النُّصرة”.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..