عفرين.. من إرهاب إلى آخر
جميل رشيد
تَشهَدُ منطقة عفرين منذ عدَّةِ أيّام، توتُّراً واقتتالاً بين مجموعات مرتزقة وإرهابيّة محسوبة على الاحتلال التركيّ، و”هيئة تحرير الشّام/ جبهة النُّصرة سابقاً”، على خلفيّة مقتل النّاشط الإعلاميّ “مُحمَّد أبو غنّوم” في مدينة الباب من قبل مجموعة تابعة لفرقة “الحمزة” التي أسَّسها الاحتلال التركيّ عام 2016 ومرتبطة باستخباراتها بشكل مباشر.
السؤال الذي يطرح نفسه بشكل مباشر؛ ما الذي دفع الاحتلال التركيّ إلى إقحام “هيئة تحرير الشّام” الإرهابيّة في عمليّات التصفية والاقتتال بين مرتزقتها، وبالتالي التخلّي عنها، طالما كانت تتبع لها وتنفِّذُ أجنداتها في سوريّا وخارجها، هل هي استحقاقات المصالحة مع حكومة دمشق وتنفيذاً لشروطها، أم أنَّها حسابات داخليّة تركيّة صرفة تتعلَّق بالانتخابات القادمة، هل سترتد هذه الانعطافة الأردوغانية سلباً عليه، هذا إذا ما أدركنا أنَّ إدارة المناطق المحتلّة وملفُّ اللّاجئين السُّوريّين على أراضيها، غدا كابوساً يَقُضُّ مضاجع أردوغان وحزبه وتحالفه الحاكم، فهو يسعى من خلال تسليم إدارة المناطق المحتلّة إلى “تحرير الشّام” للتخلّص من جميع الملفّات دفعة واحدة، بعد أن فشل في نيل موافقة دوليّة لعدوان على مناطق شمال وشرق سوريّا، وإنشاء “منطقته الآمنة” المزعومة.
بادئ ذي بدء ينبغي فَهمَ السّياقات السِّياسيّة والتطوُّرات الحاصلة في سوريّا والمنطقة والعالم، والتي تشير بوضوح إلى أنَّها تذهب إلى مزيد من التوتّر والاصطدام. فالحرب الروسيّة في أوكرانيا؛ تُلقي بظلالها على المشهد العالميّ بِرُمَّتِهِ، خاصَّةً بعد التعثُّر الروسيّ وعدم إحرازها انتصاراتٍ واضحة، وإصرار الدّول الغربيّة وعلى رأسها الولايات المتّحدة على إلحاق الهزيمة بروسيّا وجيشها في أوكرانيا، في ظِلِّ تقديم الدَّعم المتواصل لأوكرانيا عسكريّاً واقتصاديّاً.
لا شَكَّ أنَّ شكل التَّحالفات والاصطفافات الدّوليّة والإقليميّة قبل الحرب الروسيّة في أوكرانيا ليست كما بعدها، فتبدُّل المواقع والمواقف من الحرب؛ باتت سمة ظاهرة. ففي حين تُبدي الصّين موقفاً رماديّاً من الحرب، ومنذ بدايتها، إلا أنَّها لا تخفي رغبتها في تحقيق روسيّا النَّصر في أوكرانيا، لطالما اعتبرت الدّول الغربيّة ندّاً حقيقيّاً لها، إلا أنَّها لا تنجرّ إلى دعم روسيّا بشكل علنيّ، وهي التي تستخدم “قوَّتها النّاعمة” المستندة إلى قوَّتها الاقتصاديّة في فتح الحدود أمامها والتغلغل في المناطق الأكثر غنى واستقراراً، وهو ما تخشى منه الدّول الغربيّة.
فيما تركيّا المنضوية ضمن حلف النّاتو، لا زالت تراوغ وتحاول الاستفادة من الصراع بين روسيّا والغرب، رغم قناعة الطرفين باستحالة خروجها من الحلف الغربيّ لأسباب جيوسياسيّة وبنيويّة تتعلَّق بماهيّة الدَّولة التُّركيّة ومؤسَّساتها المرتبطة حتّى العظم بالمؤسَّسات الأمنيّة والاقتصاديّة والسِّياسيّة الغربيّة.
تجلّى الموقف التركيّ تجاه روسيّا بشكل أكثر وضوحاً في الحرب الأوكرانيّة، من خلال الدَّعم الذي قَدَّمته تركيّا للجيش الأوكرانيّ، إنْ كان بالطائرات المُسيَّرة أو مشاركة ضبّاط أتراك في التَّخطيط وقيادة المعارك ضُدَّ الجيش الرّوسيّ، وهو ما جعل الرَّئيس الرّوسيّ بوتين يَحقد على تركيّا ورئيسها، وهو يخوض الحرب بزعم “حماية أمنه القوميّ”.
قِمَّة طهران التي عقدت بين ثلاثي أستانا في يوليو/ تموز الماضي؛ كانت القَشَّة التي قصمت ظهر مشروع أردوغان في سوريّا، حينما وضعته كُلٌّ من إيران وروسيّا في الزاوية الحرجة، ورسمت له حدوده في سوريّا، عبر ممارسة الضغوط عليه وحمله على الانسحاب التَّدريجيّ من الأراضي التي احتلّها في سوريّا، حفاظاً على ماء وجهه.
الإشارات الصادرة من تركيّا، ومن أعلى مراكز القرار، بفتح صفحة جديدة مع الحكومة السُّوريّة، جاءت بعد الخيبات التي مُنِيَ بها أردوغان في سوريّا، فبات التخلّص من ملفِّ المرتزقة، بشقَيّه العسكريّ والسِّياسيّ، من أولويّات أردوغان وحزبه، وكإحدى الشّروط التي فرضتها روسيّا وإيران عليه للبدء بوضع آليّات “المصالحة” وتطبيع العلاقات مع سوريّا.
تحاول تركيّا من خلال تسليم إدارة المناطق المحتلّة إلى “هيئة تحرير الشّام” التَّسويق للثّانية وشرعنتها، على اعتبارها أنَّها الأكثر انضباطاً ولها قيادة موَحَّدة وتملك قوَّة عسكريّة متوازنة وقادرة على مواجهة قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، وهو ما قد تستثمر بها في أيّ مساومات مقبلة مع جميع الأطراف، وخاصَّةً روسيّا وإيران وكذلك الحكومة السُّوريّة، وتمنحها الذَّريعة في محاربتها، لطالما أنَّها مُصنَّفة على قائمة الإرهاب العالميّ.
تركيّا تلعب لعبة ضرب الخصمِ بالخصمِ، من خلال خلق حالة من الاقتتال بين تلك الفصائل التي تأتمر بأوامرها ولا تخرج قيد أنملة عن تعليماتها وقراراتها. حتّى “تحرير الشّام”، ومنذ بداية تشكُّلها عام 2012 ظلَّت مرتبطة بعلاقات وثيقة مع الدَّولة التركيّة ولم يُعكِّر صفوها شيء، بل على العكس، القوّات التركيّة المتواجدة في إدلب تحت ذريعة “مناطق خفض التَّصعيد”، كانت على الدَّوام المظلّة الحامية لها، وسعت تركيّا إلى التَّسويق للمنظَّمة الإرهابيّة ودعمها بشتّى الوسائل.
المعارك الوهميّة الدّائرة رحاها في ريف عفرين، بعد بسط “هيئة تحرير الشّام” سيطرتها الكاملة على مدينة “عفرين” وناحية “جنديرس”، ما هي إلا لذَرِّ الرَّماد في العيون. فلقد عقد وزير الدّاخليّة التُّركيّ “سليمان صويلو” وعدد من ضُبّاط الاستخبارات التركيّة قبل عدَّةِ أيّامٍ اجتماعاً مع قيادات فصائل المرتزقة في مدينة إعزاز، أبلغهم فيها “صويلو” بضرورة تسليم كامل مناطق عفرين إلى “تحرير الشّام”، ودون اعتراض عليه.
اللّافت في هذا الفيلم الهوليوودي ذي الإخراج التركيّ، هو الحياد الغامض لبعض الفصائل التُّركمانيّة المرتزقة، وخاصَّةً مرتزقة “السُّلطان مراد”، وعدم اصطفافها مع أحد الطرفين، ورُبَّما تحتفظ بها تركيّا ورقة احتياطية لا تُفرِّطُ بها، ولا تريد لـ”تحرير الشّام” الاقتراب منها.
إنَّ انقسام فصائل المرتزقة بين من انضمَّ للقتال إلى جانب “الجبهة الشّاميّة وجيش الإسلام”، وأخرى وقفت إلى جانب “تحرير الشّام”، إنَّما جاءت بتعليمات تركيّة صريحة ومباشرة، لتُشرعن عمليّة سيطرة “تحرير الشّام” على منطقة عفرين، إلى جانب تصفية بعض فصائل المرتزقة، والاحتفاظ بأخرى تستخدمها مستقبلاً كورقة ضغط ضُدَّ “تحرير الشّام” نفسها.
الإستراتيجيّة التي اتَّبعتها تركيّا في تأليب فصائل المرتزقة ضُدَّ بعضها البعض؛ لم تَصُبّ في صالحها، بل زادت من توغُّلِ الفكر الإجراميّ والإسلامويّ المتطرّف، وحوَّلتها إلى قطعان من العصابات المنفلتة من عقالها، دون رقيبٍ أو حسيبٍ على ممارساتها التي لا تمُتُّ للإنسانيّة بصلة، تتصرَّفُ بوحيٍ من الذّهنيّة العشائريّة والمذهبيّة المقيتة، لا لشيء، فقط للانتقام من الكُرد، وها هي ترتَدُّ عليها بنتائج وخيمة، عملاً بالقاعدة المُتعارَف عليها “صانع السُمِّ ذائقه”.
لاتزال الحكومة السُّوريّة تلتزم الصَّمت حيال ما يجري في عفرين وريفها، وتراقب المشهد من بعيد، دون أن يصدر عنها أيّ موقف، كما أنَّ الدّول الدّاعمة لها مثل روسيّا وإيران لم تبدِ هي أيضاً أيَّ ردود فعل حيال تمدُّد “هيئة تحرير الشّام” في عفرين، وهي التي تقصف مواقعها ليل نهار في إدلب وريف حلب الغربيّ، ورُبَّما تنتظر اللّحظة المناسبة لبدء حملة عسكريّة شاملة ضُدَّها بالتَّعاون مع قوّات الحكومة السُّوريّة وإيران.
وفيما الاقتتال لا يزال مستمرّاً بين الطرفين المتصارعين على النُّفوذ في ريف عفرين وامتداده إلى ريف إعزاز، في ظلِّ زيادة الحشودات العسكريّة، يبدو أنَّ القرار التُّركيّ يقضي بتسليم كامل المناطق المحتلّة إلى “هيئة تحرير الشّام”، وإعادة ترتيب المنطقة وإدارتها، بعد فشل الإدارات التي شكَّلتها بالتَّعاون مع مرتزقتها، وهو مؤشِّرٌ على نيَّتها في “شرعنة” الإرهاب، بكُلِّ أشكاله ومُسمّياته، وعلى مرأى ومسمع العالم أجمع.
ستحاول تركيّا ومعها تنظيم “تحرير الشّام” الإرهابيّ إبراز الوجه النّاعم لهما، في محاولة لجذب واستقطاب مُهجَّري عفرين، ودفعهم للعودة إلى ديارهم التي هُجِّروا منها قسراً، تحت يافطات وشعارات خادعة. فهي ستفسح المجال أمام السُكّان الكُرد الأصليّين ممَّن تبقّوا في عفرين في التنقُّل والذِّهاب والعمل في أراضيهم بنوع من الحُرّيّة، وفرض حالة من الأمن والأمان، بشروطها التعجيزيّة الإرهابيّة، متوهِّمةً أنَّ ذلك قد يُشكِّلُ دافعاً لدى مُهجَّري عفرين للعودة إلى منازلهم، وهو فَخٌّ وضعته تركيّا، لتكسب من خلالها شرعيّة احتلالها لعفرين ومحاولة البقاء فيها، ومنذ بدء احتلالها لها؛ تسعى لنيل هذه الشَّرعيّة، ولكنَّها فشلت فيها. وهنا يتوجب على الإدارة الذّاتيّة وأهالي عفرين المُهجَّرين أخذ جانب الحذر والحيطة من هذه الألاعيب التي ستلجأ إليها دولة الاحتلال التُّركيّ بالتَّعاون مع “تحرير الشّام” الإرهابيّة في تمرير هذا المخطَّط الخبيث.
غير أنَّ سيطرة “تحرير الشّام” على عفرين، ستحفِّزُ (قوّات تحرير عفرين) لإكمال استعداداتها لبدء حملة عسكريّة ضُدَّها لتحرير من الاحتلال التُّركيّ وأعوانه. فسيطرة “الهيئة” تمنحها مزيداً من الشَّرعيّة في بدء حملة تحريرها، وسيلقى أيّ عملٍ عسكريٍّ ضُدَّها قبولاً دوليّاً، ولا يمكن لأيّ طرفٍ دوليٍّ أو إقليميّ معارضته، طالما أنَّها تستهدف استئصال شأفة الإرهاب من سوريّا، ولا تختلف عن محاربة إرهاب “داعش” بشيء.
كما أنَّ الولايات المتّحدة مَدعوَّةٌ إلى توضيح موقفها عمّا يجري في عفرين، وهي التي شكَّلت التَّحالف الدّوليّ لمحاربة الإرهاب، واستهدفت عبر طائراتها المُسيّرة قيادات كبيرة لـ”هيئة تحرير الشّام”، ولا يمكنها من الآن فصاعداً الاختباء خلف إصبعها ودعم المواقف التُّركيّة والسُّكوت عنها في استهداف الكُرد ومشروعهم في الإدارة الذّاتيّة، بل يتطلَّب منها دعمهم في أيّ عملٍ عسكريّ ضُدَّ إرهابيّي “تحرير الشّام”.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..