المفاوضات بين الإدارة الذاتية والنظام.. شروط نجاحها وفشلها
محمد عيسى | مجهر
إنَّ أيّ قراءة متأمّلة في الآفاق المُحتمَلة للمفاوضات – التي كَثُرَ الحديث عنها في الآونة الأخيرة – بين الإدارة الذّاتيّة والسُّلطات السُّوريّة في دمشق، ﻻ يمكن أن تُوفِّرُ انطباعاً واضحاً للمتتبِّعِ أو للدارس. كما ﻻ يمكن تقدير احتمالات نجاحها أو فشلها على نحو دقيق، قبل إجراء نظرة بانوراميّة فاحصة لطبيعة القوى المتصارعة والمتدخّلة في هذا الصراع طيلة حقبة السَّنوات العشر المنصرمة من عمر هذه المعضلة، وذلك على المستويات الدّاخليّة والإقليميّة والدّوليّة.
وعلى هدا النَّحوِ؛ ليس خافياً أنَّ القوى التي كانت تتبارى على الخشبة طيلة الوقت هي من صنفين نشأتا من جذر واحد. صنفٌ أوَّلٌ تَمثَّلَ بالنِّظام الشُّموليّ ذي النَّزعة الاستبداديّة المستظلِّ بهُويَّة قوميّة عروبيّة متآخية في نشأتها مع الإسلام، من خلال رسالة خالدة، زعم على الدّوام أنَّ الأمَّة العربيّة حاملة لها على نحو ما. وصنفٌ ثان تَمثَّل بالإسلام السِّياسيّ بفصائله وتسمياته المُتعدّدة، واغتنى من فشل الأوَّل في إنجاز دولة العدل والقانون، ومن تغوّله في إنتاج الفساد وتسويقه، ونفد إلى عواطف الجمهور في مرحلة معيّنة، من خلال تواطؤ الإثنين معاً في استبعاد القوى الدّيمقراطيّة واليساريّة العلمانيّة عن أيِّ دورٍ أو فرصة في حياة المجتمع.
ووفق خريطة القوى هذه؛ تعامل الرَّأي العام مع صيرورة الصراع، وهكذا كان يتشكَّلُ الانطباع عن آفاقه، فإمّا أن ينتصر النِّظام ويستمرّ في إعادة إنتاج نفسه في سياق خطابٍ خشبيٍّ متبلّدٍ، ﻻ يرى غير نفسه المؤهَّل والمؤتَمَن على وحدة البلاد واستمرارها على خارطة العالم، وهو وحده المُخوَّل بعقد الاتّفاقات والتَّحالفات مع العالم؛ لامتلاكه شرعيّة ﻻ يَمتلِكُها غيره، بحسب زعمه، ووحده من يحتفظ بتمثيل في مُنظَّمة الأمم المتَّحدة.
أمّا الإسلام السِّياسيّ بصيغه الإرهابيّة التي أنتجها ممَثِّلاً بنماذج كـ”النُّصرة وداعش”، وما يعنيه ذلك من مخاطرٍ وتهديدٍ للسِّلم والاستقرار العالميّ.
ضمن هذه الثنائيّة من ضمور الخَيارات؛ النِّظام أو الإسلاميّين؛ كان الأمل يَنسَدُّ أمام السُّوريّين، وكانت تتشكَّل المعادلات الصعبة التي عقَّدت الموقف الدّوليّ حول سوريّا وحول طرق الحَلِّ فيها. وهذا المناخ بالذّات هو من منحَ الفرص لفرط التدخُّلِ التُّركيّ والإيرانيّ في الشأن والمصير السُّوري إلى مستوى كبير.
في هدا الجوِّ من جفاف الخيارات السّائد بالضبط، وعلى وقع مخاض الارهاصات التي تحصل في تاريخ الثَّورات وفي حياة الشُّعوب عامَّة؛ نشأ من رحم الصِّراع مولود جديد يحمل شكلاً ومضموناً مختلفا، وسمّى نفسه مجلس سوريّا الدّيمقراطيّة (مسد)؛ مؤلَّفٍ من تحالف قوى سياسيّة كردية وعربيّة وسريانيّة وآشوريّة وتركمانيّة، ومن مكوِّنات شتّى، كواجهة سياسيّة لقوّةٍ عسكريّة مقاتلة؛ هي الأخرى تُمثِّلُ أعراقاً وكيانات متعدّدة.
(مسد) الوليدة في أتّون الصراع مع القوى الإرهابيّة مثل “داعش”، استطاعت، وخلال وقت قصير، أن تفرض نفسها كلاعب مُهمٍّ وحاسمٍ في المعركة العسكريّة الجارية مع “داعش”، ومن خلال الانتصارات التي حقّقتها في معارك كوباني وغيرها، وخاصَّة في تلك المعارك التي شاركت فيها المرأة المقاتلة ضمن وحدات حماية المرأة؛ استطاعت هذه القوّات أن تقنع المجتمع الدّوليّ بأنَّها القوة العصريّة الجديرة بدحر الإرهاب واقتلاع جذوره.
وعلى هذه التُّربة؛ تربة الانتصار على “داعش”، نَمَتْ وتطوَّرت صورة (قسد)، وبالتّالي نجحت (مسد) بأن تُقدِّم نفسها بأنَّها الخيار الثّالث، وبالتّالي خيار التّاريخ الذي درجت كُلُّ ثورات العالم على أن تجري على سِكَّته.
ومع ظهور (مسد)، القوّة السِّياسيّة والمشروع الواقعيّ البديل والواضح لإخراج سوريّا من أزمتها، نحو سوريّا واحدة ديمقراطيّة ولا مركزيّة، دولة لجميع السُّوريّين، وعلى جميع المستويات والأصعدة. مع هذا الظهور؛ صار للأزمة السُّوريّة معنى آخر، وصارت المعادلة السُّوريّة ضمن وضع جديد آخر، وقد انقلبت الثُّنائيّة الآنِفة الذِّكر، لتُصبِحَ بصيغة جديدة؛ النِّظام بصيغته الملتبسة، أو (مسد).
النِّظام بصيغته الملتبَسة، أو (مسد)، ويُقصَد بالصيغة الملتبَسة؛ أنَّ النِّظام قد ولج وضعاً مختلفاً، وطرأت تطوّرات على بنيته. وبفعلٍ من تحالفاته وتعقيدات معاركه؛ أصبح أقلَّ علمانيّةً في خطابه، وأصبح أكثر ميلاً أو غزلاً مع الأفكار الإسلامويّة في توجُّهاته، حيث تدور أحاديث في الرَّأي العام عن تزايد في نفوذ وزارة الأوقاف في النِّظام؛ على حساب وزارة الإعلام، مع زيادة في نفوذ الأولى وزيادة تدخُّلها في عمل الوزارات الأخرى كالتَّربية والثَّقافة وغيرها، يُضاف إلى ذلك انتشار صار أكثر حِدَّةً لمعدَّلات الفساد، مع تدهورٍ مفرِط للقوَّة الشِّرائيّة للعملة، وسيطرة مرتكز نفوذ جديدة على التِّجارة الخارجيّة، وتأثيرات جديدة على قوانين السّوق، ما جعل الدَّولةَ أكثر تخلّياً عن وظائفها اﻻجتماعيّة وأكثر انحيازاً لمصلحة كبار التُّجار والسماسرة، ما أدّى ويؤدّي يوميّاً إلى اضطّراب في حركة الأسواق، وظهور مصاعب جَمَّة تحيط بظروف معيشة الشَّعب.
لهذا نستطيع أن نصِفَ وضع النِّظام المستَجِدّ بالوضع الجديد الملتبَس، والمتّجه إلى التخلّي أو التَّراجع عن الكثير من سياساته السّابقة على المستوى الاقتصاديّ والاجتماعيّ، ودخول مُفردة “التخلّي” المتسارع عن الدَّعم المتعلِّق بحياة الكثير من الفئات.
نستطيع أن نقول بنتيجة كُلِّ ما تَقدَّم؛ إنَّنا اليوم، ومع تراجع ثقل الإسلام السِّياسيّ بعد هزائمه المتكرِّرة؛ أنَّنا بحقٍّ أمام متنافِسَيْن ﻻ ثالث لهما (مسد)، بما تَعنيه وترمز إليه كقوَّةٍ صاعدة تملك من الفرص والرّؤية والعلاقات والبرامج والطموح، والنِّظام، بكُلِّ ما لَحِقَ به وبصورته من أخطاء وتراجعات وفوضى، متنافسين دفعهما وضعهما وظروفهما إلى وضع التَّفاوض، فهل ستنجح المفاوضات؟!
للجواب على هذا التساؤل؛ لا بُدَّ أن يأخذنا البحث ناحية ديالكتيك الحياة، وأن نحتكم إلى منطقه ومفاعيله في رسم الوقائع والتَحكُّم في صيرورتها على طول مسار التّاريخ وفي محطّاته الكبرى، فالقديم لم يُخلِ يوماً مكانه للجديد طوعاً، والولادة، أيُّ ولادة، لم تحصل دون إرهاصات وأوجاع شتّى، والحوار أو عمليّات التَّفاوض بين طرفي المعادلة السّابقة، ومدى ما يمكن أن تسفر عنه، هو رَهنٌ بتراكم مؤثِّرات عِدَّة، ويَدخُلُ توصيفنا لأرض الملعب وهُويَّة اللّاعبين ودرجة استعدادهم وتأهيلهم في تقديرِ أو في حساب نتائج المباراة الدّائرة، وكما السُّدود تأبى التدرُّج في انهيارها ولا تنهار إلا دفعةً واحدةً، وتعرف من تصميمها؛ أنَّ أبسط ثغرة تفتح في ساترتها ستؤول حتماً إلى انهيارها برمَّتها، فأنظمة الاستبداد، وفي كُلِّ الدُّنيا لا تفاوض على انهيارها، فهي ﻻ تفاوض إلا لكسب الوقت، على أمل إعادة إحيائها، وعلى وهم إعادة تدوير أو إنتاج نفسها.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها