هل آن للمعارضة السورية حزم حقائبها والتوجه لدمشق؟
جميل رشيد
يزدادُ الحديثُ عبر وسائل الإعلام في الآونة الأخيرة، عن جهودٍ مكثَّفة تبذلها تركيّا، لإعادة تطبيع علاقاتها مع حكومة دمشق، تزامناً مع تصريحات روسيّة كشفت عن مساعي موسكو في الإعداد لاجتماعات رفيعة المستوى بين مسؤولي الدّولتين.
لا يمكن قراءة المشهد السُّوريّ المُعقَّد بتفاصيله، بشكل مُجزّأ، وبعيداً عن التحوّلات العالميّة المتسارعة، وكذلك عدم فهم معادلات التَّوازن الهشَّة القائمة داخليّاً، لما لها من انعكاسات مباشرة على مسارات الحَلّ ونهاية أزمتها، ومعرفة دور وفاعليّة كُلّ قوَّة، داخليّة أو إقليميّة أو دوليّة فيه.
معادلات الحلول السِّياسيّة المطروحة في أروقة المؤتمرات الدّوليّة حيال سوريّا وأزمتها، وما يَتُمُّ مناقشته في الغرف السُرّيّة بين مسؤولي الدّول الفاعلة في الأزمة، لا يَخرج عن إطار تقاسم الكعكة السُّوريّة، دون تقديم حلول ناجعة لأزمتها لتنهي معاناة أهلها.
خيبات وسقطات ما تُسمّى بـ”المعارضة السُّوريّة”، وانسياقها وراء أجندات الدّول الإقليميّة، وخروجها من إطارها الوطنيّ، جعلها جزءاً من مشاريع الدّول المحيطة بسوريّا، وخصوصاً من جانب جماعة “الإخوان المسلمين”، مع غياب شبه تام لدور القوى الوطنيّة والدّيمقراطيّة، وخاصَّةً بشقِّها اليساريّ، وليس الليبراليّ المتناغم مع شعارات وبرامج الإخوان، ظلت هذه المعارضة عاطلة عن الفعل الوطنيّ السِّياسيّ، ومغيَّبة عن السّاحة، وقسم منها التزم الصَّمت، فحكمت على نفسه بالموت السريريّ، ودون جدال.
الانقسام وحالة الترَهُّل والتبعيّة المفرطة في صفوف المعارضة، أفرزت معها أمراضاً مزمنة، لازمت عملها طيلة أكثر من عشر سنوات من عمر الأزمة السُّوريّة، ولم تتمكّن الخروج من أزمتها، بل دخلت في أزمات متلاحقة، حتّى وصلت مرحلة التشظّي والانقسام على نفسها، على غرار البراميسيوم وحيد الخليّة.
مثل هكذا نوع من المعارضة يَسهُل التحكُّم بها بعد أن تحوَّلت إلى أداةٍ طيّعة في يد الدّول الدّاعمة لها، على اعتبار أنَّها لا تمتلك أيّ قوَّة سياسيّة وحاضنة جماهيريّة، وبعيدة عن التَّمثيل في الدّاخل السُّوريّ، لتتحوَّلَ إلى مُجرَّد ثُلَّةٍ من الثرثارين المتعيّشين على موائد الغير، يستجدون عطفها ودعمها لها، وهكذا غابت مشاريع الوطن السُّوريّ عن أجندات وبرامج المعارضة، وتحوَّل قسم من القيِّمين عليها إلى رجال أعمال وأصحاب مشاريع في دول إقامتهم، لتتحوّل الثَّورة في قواميسهم إلى “ثروة ومغنم” تَدُرُّ لهم الأموال، وليست مسؤوليّة وطنيّة وأخلاقيّة تجاه شعب يعاني الويلات والتَشرًّدَ والحرمان بكُلّ صنوفه.
لا يمكن بأيِّ حالٍ من الأحوال التعويل على هذه المعارضة في إنجاز حَلٍّ وطنيّ ديمقراطيّ سوريّ لأزمتها، في ظِلِّ تحوّل قسم كبير منهم إلى مُجرَّد واجهات فارغة المضمون ومرابين، تبحث عن مكان لها في سوريّا المستقبل تحفظ لهم مصالحهم.
تَعثُّر الحَلّ السُّوريّ يعود في قسم كبير منه إلى دور المعارضة السلبيّ في إنتاج بيئة ومناخ دوليّ وإقليميّ، يدعم تطلُّعات السُّوريّين في دولة وطنيّة ديمقراطيّة، وهو ما حدا بالدّول المنخرطة في الأزمة السُّوريّة، إلى جعلها منفذاً لها لتحقيق مصالحها في الاحتلال وفرض إرادتها وتقسيمها إلى مناطق نفوذ بينها.
أداء المعارضة السيّء لأبعد الحدود طيلة سني الأزمة، أنتج الحركات والفصائل الإرهابيّة، التي عاثت فساداً وخراباً في البلاد، وبات التخلّص من شرورها، أولويَّةً لدى القوى الوطنيّة والدّيمقراطيّة، قبل طرح الحلول السِّياسيّة.
لم تكتفِ المعارضة، وخاصَّةً الإسلامويّة منها، بطرح مشاريع هلاميّة، أقَلُّ ما يمكن القول عنها إنَّها “لا وطنيّة”، بل جعلت من نفسها حربةً في يد القوى الإقليميّة لاحتلال أجزاء من الجغرافيا السُّوريّة، مثلما حصل في عفرين وسري كانيه وكري سبي، وقبلها في جرابلس والباب وإعزاز.
في ظِلِّ التَّصريحات المتواترة عن قُرب التوصُّل إلى تقاطعات بين تركيّا وحكومة دمشق، وبواسطة روسيّا مباشرة، دفعت الرَّئيس التُّركيّ، ليصرِّح بأنَّه “سيلتقي الرَّئيس السُّوريّ بشّار الأسد في الوقت المناسب”، وتصريحات المسؤولين الرّوس عن محاولاتها عقد لقاء بين وزيري خارجيّة سوريّا وتركيّا، نقلته وسائل الإعلام عن سعي روسيّ حثيث لنقل مفاوضات اللّجنة الدَّستوريّة إلى دمشق، وبأنَّه “تَمَّ التَّوافق بين الثُّلاثي الضامن، روسيّا وتركيّا وإيران، على تنفيذ القرار /2254/، الذي تَمَّ اختزاله عمليّاً بصياغة رسميّة كُلِّفَ بها المبعوث الأمميّ لسوريّا، وهي تعديلات دستوريّة لدستور الجمهوريّة العربيّة السُّوريّة لعام 2012 وانتخابات رئاسيّة بإشراف أمميّ، حيث سيتُمُّ نقل أعمال اللّجنة الدَّستوريّة إلى دمشق خلال الفترة القادمة، والتي توقَّفت أعمالها في رُدُهات الأمم المتّحدة، وهذا العمل سيَتُمُّ إنجازه قبيل عام 2027، أي قبل نهاية ولاية الرَّئيس السُّوريّ بأشهر. ومن مصادر خاصَّةٍ؛ فإنَّ جُملة تفاهمات وضع نقاطها لقاء رئيس الاستخبارات السُّوريّ مع نظيره التُّركيّ حول آليّات الحَلِّ للشَّمال السُّوريّ والشَّمال الشَّرقيّ، وهذا التَّفاهم سيتمخّض عنه خلال الفترة القادمة لقاء ثنائي يجمع وزير خارجيّة البلدين المقداد وأوغلو، حيث تلعب جهات وسيطة بتقريب وجهات النَّظر الرّوسيّة الأمريكيّة حول مناطق شرق الفرات لوضع حَدٍّ للأزمة السُّوريّة”.
يبدو من سياق النَصِّ؛ أنَّ المعارضة السُّوريّة التي احتضنتها تركيّا، وبالأخصِّ جماعة الإخوان المسلمين، ارتضت الدّخول في مفاوضات مباشرة مع حكومة دمشق بشكل مباشر، وبشروط روسيّة. إنَّ مُجرَّدَ نقل مفاوضات ما تُسمّى “اللّجنة الدَّستوريّة” إلى دمشق، يفيد بقبول المعارضة بشروط الحكومة السُّوريّة، خاصَّةً الإخوان ومن يدور فلكهم، لطالما نادوا منذ بداية الأزمة السُّوريّة بشعار “إسقاط النِّظام”، ليتبيّن أنَّها الفئة الأكثر “انتهازيّة” في صفوف المعارضة، وتبحث عن موقع لها في السُّلطة القادمة في سوريّا، وليس لها أيّ ارتباطات والتزامات وطنيّة، للعمل نحو دمقرطة سوريّا وإحقاق الحقوق وردّ كرامة النّاس المهدورة.
إنَّ الطَّرح الرّوسيّ في ربط أيّ حَلٍّ في سوريّا بالحكومة السُّوريّة، مَردُّه الاتِّفاقات والتَّفاهمات مع كُلٍّ من تركيّا وإيران، فرغم انشغالها بالحرب في أوكرانيا، لم تتوانَ روسيّا عن الضغط على حليفيها في أستانا للقبول بشروط الحكومة السُّوريّة. وروسيّا تستغلُّ الأزمة العاصفة بكُلٍّ من تركيّا وإيران، لجهة تصاعد المعارضة الدّاخليّة لكلا النِّظامين، والبحث عن انتصارات تحقّقها على السّاحة السُّوريّة، تستند إليها في تحقيق نصر ما لها داخل بلدانها. فتركيّا المقبلة على انتخابات برلمانيّة ورئاسيّة في يونيو/ حزيران العام المقبل، يتمسّك رئيسها بقشَّة مثل الغريق للفوز في الانتخابات، خاصَّةً بعد أن فشلت رهاناته على مرتزقتها من السُّوريّين في إنجاز ما على الجغرافيا السُّوريّة، وتنامي الغضب الشَّعبيّ من اللّاجئين السُّوريّين على أراضيها، وهو ما تستغلُّه المعارضة في التحشيد للانتخابات. فيما إيران التي تواجه “ثورة” حقيقيّة بكُلّ معنى للكلمة، في ظِلِّ توارد أنباء عن تدهور صحَّة المرشد الأعلى “علي خامنئي”، والخلافات الدّائرة بين أوساط الدّولة العميقة في إيران حول إيجاد بديل له، حيث انقسمت بين من يؤيّد تعيين الرَّئيس الحالي “إبراهيم رئيسي” وبين نجل خامنئي “مجتبى علي خامنئي”، وكذلك بين من يطرح تشكيل “مجلس إرشاد”. أمام هذه السيناريوهات المحتملة؛ تبدو إيران في أضعف مراحلها، وليس من المستبعد أن تسحب قسماً من قوّاتها المتواجدة في سوريّا إلى أراضيها، دفاعاً عن نظامها الذي تهتزُّ أركانه على وقع احتجاجات الشّارع.
تُعِدُّ روسيّا مخطَّطاً للحَلِّ في سوريّا يتوافق مع مصالحها، بعد أن ضمنت الرِّضا الأمريكيّ، وحصلت على تنازلات كبيرة من تركيّا وإيران، في حين ما تُسمّى المعارضة تنتظر إشارات داعميها في حزم حقائبها والتوجُّهَ إلى دمشق، ولتتحوَّل إلى أداة في محاربة الشَّعب السُّوريّ وتطلُّعاته في الحُرّيّة والدّيمقراطيّة.
وحدها الإدارة الذّاتيّة في شمال وشرق سوريّا وبمكوِّناتها السِّياسيّة والمجتمعيّة، تتَّخِذُ مساراً واضحاً لحَلِّ الأزمة السُّوريّة، وفق رؤية وطنيّة وديمقراطيّة، رغم الانتقادات التي توجَّهُ لها، لجهة الفساد المستشري في صفوفها، إلا أنَّها تبقى وجهة وقُبلة الوطنيّين والدّيمقراطيّين، تستقطب القوى والشَّخصيّات المؤمنة بغد سوريّ ديمقراطيّ. إلا أنَّ القوى المنخرطة في مشاريع التسوية مع الحكومة السُّوريّة، تحاول التأثير على موقف الأخيرة، لتضعها في مواجهة الإدارة الذّاتيّة، وخاصَّةً تركيّا، التي تشترط أنَّ أيَّ تطبيع مع دمشق يَمُرُّ عبر إنهاء الإدارة الذّاتيّة، فيما تُبدي روسيّا مواقف ضبابيّة وملتبَسة، وتنحاز أكثر إلى مواقف دمشق، الرّافضة حتّى اللَّحظة أيَّ حوارٍ مع الإدارة، رغم قناعة الجميع أنَّ لا حَلَّ سياسيّ في سوريّا إلا بإشراك الإدارة الذّاتيّة فيه، إلا أنَّ ترويكا أستانا “روسيا، تركيّا، وإيران” تسعى لكسب الوقت وإضعاف الإدارة.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها..