خفايا تمدد “تحرير الشام” في عفرين وشرعنتها
جميل رشيد
شَكَّلَ دخول “هيئة تحرير الشَّام/ جبهة النُّصرة سابقاً” إلى منطقة عفرين، سابقةً جديدةً في سياق تحريك تركيّا لأذرعها، كلّما تعرَّضت مصالحها ووجودها في سوريّا لهزَّات وتهديدات من قوى وأطراف، تتناقض معها في المصالح والرؤى المستقبليّة في سوريّا وخارجها.
لم يِعُد خافياً على أحد، أنَّ “تحرير الشَّام” وحليفاتها، فرضت سيطرتها على إدلب، من خلال الدَّعم التُّركيّ المفتوح لها خلال أعوام سابقة، ما جعلها – أي إدلب – خارج الجغرافيا السُّوريّة، وفتح المجال أمامها لتشكيل “إمارتها القاعدويّة”، وتنشئ فيها مؤسَّساتها التي نَظَّمت العمل الإرهابيّ، لتغدو قوَّةً ضاربةً، تُعوِّلُ عليها تركيّا في تغيير موازين القوى لصالحها. فرغم مرور أكثر من أربع سنوات على توقيع اتّفاقيّة سوتشي بين الرَّئيسين الرّوسيّ والتُّركيّ في 17 أكتوبر/ تشرين الأوَّل عام 2018، والتي تنصُّ إحدى بنودها على تفكيك الجماعات الإرهابيّة، ويقصد بها “هيئة تحرير الشَّام” بالدَّرجة الأولى، ونزع سلاحها الثَّقيل، إلا أنَّ تركيّا تنصَّلت منها؟، ولا تزال تراوِغ في تنفيذها، بل على النَّقيض من ذلك، استغلّت تفاهمات “أستانا”، لتتمدَّدَ أكثر في المنطقة، وتنشئ عشرات النِّقاط العسكريّة، وتحت حماية “هيئة تحرير الشَّام” وبموافقتها.
التغيُّر في المشهد العسكريّ ضمن مناطق الاحتلال التُّركيّ في الشَّمال السُّوريّ، واستفحال حالات الاقتتال بين الفصائل المرتبطة بتركيّا، وحالة الفلتان الأمنيّ السّائدة فيها وازدياد حالات الاغتيال؛ أفقد تركيّا مصداقيَّتها حتى أمام مرتزقتها من تلك الفصائل. ففيما تركيّا تَقرَعُ طبول عدوان جديد على مناطق شمال وشرق سوريّا في تل رفعت ومنبج، فإنَّ مرتزقتها فتحوا على أنفسهم جبهات قتال داخليّة، تستنزف – وفق الرّؤية التُّركيّة – طاقاتها، بحيث يُضعف استعداداتها للمعركة التي تَستعِدُّ لها، حسب زعمها، عبر إقحام المرتزقة في أتّونها. فليس بمقدور تركيّا أن تضمن نجاحاً لعدوانها اعتماداً على مرتزقة تتقاذفهم الصراعات ويسود بينها حالات اقتتال دائمة وانتقام.
وجدت تركيّا أنَّ القوى الضاربة بيدها في “تأديب” مرتزقتها، يتمثَّل في “هيئة تحرير الشَّام” الإرهابيّة، فأوعزت لها بالتمدُّدِ في مناطق عفرين، وفرض سيطرتها على عدَّةِ قرى بريف ناحيتي جنديرس وشيراوا، ضمن إستراتيجيّة تركيّة قديمة – جديدة في ضرب الخصم بالخصم، كما أنَّها تعتمد في إعادة ترتيب أوراق “قوَّتها”، للأسباب التّالية:
1– تعتبر تركيّا “هيئة تحرير الشَّام”، جزءاً من مشروعها في تكريس احتلالها في سوريّا، عبر ولاءات قياداتها لها، بعد أن ربطت مناطق سيطرتها، أي إدلب بها، اقتصاديّاً وعسكريّاً وإداريّاً، رغم أنَّها لم ترفع أعلامها فوق مباني المؤسَّسات التي تديرها “الهيئة” في إدلب، وتُعِدُّها تركيّا عمقها الإستراتيجيّ في سوريّا، وأداتها الضّاربة في تنفيذ مشاريعها الاحتلاليّة.
2– اتِّخاذ تركيّا “الهيئة” ورقَةَ ضغطٍ بيدها، تُهدِّدُ بها روسيّا وإيران في حال رفضهما العدوان على تل رفعت ومنبج، طالما يردُّدها المسؤولون الأتراك، وعلى رأسهم أردوغان.
3– تهديد قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، من خلال تعزيز نفوذه الهيئة” وسيطرتها في مناطق الشَّمال السُّوريّ، وانتشارها في قرى على تماسٍ مباشر مع قوّات تحرير عفرين، وقوّات النِّظام السُّوريّ، ما يجعلها أكثر “فاعليّة” من مرتزقتها في “الجيش الوطنيّ السُّوريّ”، لجهة انضباط “الهيئة” وامتلاكها العقيدة القتاليّة الصّارمة.
4– رغم نشر التَّنظيمات والفصائل التّابعة لها ولحركة “الإخوان المسلمين” للفكر المتطرّف في عفرين، إلا أنَّ “هيئة تحرير الشَّام” تتفوَّق عليه، ودخولها إلى المنطقة يجعلها تعيش أجواء الرُّعب والخوف من فتاوى التكفير، ما يدفع من تبقّى من سكّان عفرين الكُرد الأصليّين للنُّزوح عن منازلهم وقراهم، وبالتّالي يُسهِّل على تركيّا إتمام عمليّات التغيير الدّيمغرافيّ، وتوطين عوائل العناصر الإرهابيّة المرتبطة بـ”الهيئة” وبعضها التّابعة لتنظيم “القاعدة” فيها.
5– “تأديب” الفصائل الرّافضة لتعليماتها وأوامرها، من خلال “الهيئة”، حيث أنَّ الاقتتال الأخير بين “الجبهة الشَّاميّة” و”حركة أحرار الشَّام الإسلاميّة” جاء بعد رفض الأخيرة للقرار التُّركيّ القاضي بإغلاق المعابر مع الإدارة الذّاتيّة وقوّات النِّظام في منطقة الباب، وخروج الأوضاع عن السَّيطرة، ما دفعها إلى زَجِّ سلاح “الهيئة” لحسم الصراع، وكأنَّها – أي الهيئة – العصا الغليظة في يدها، تُهدِّدُ بها من تشاء من الخارجين عن طاعتها. حتّى أنَّ ضابطاً تركيّاً وَبَّخَ قادة بعض فصائل المرتزقة ووجَّه إليهم شتائمَ بذيئة.
6– خلق توازن بين وجود “الهيئة” والفصائل الأخرى في منطقة عفرين، حيث أنَّ للأولى تواجدٌ يسبق هذا الاقتتال، فهي دخلت لمؤازرة “فرقة السُّلطان سليمان شاه/ العمشات”، حينما أصدر ما يُسمّى “المجلس الإسلاميّ السُّوريّ” التّابع لحركة “الإخوان المسلمين” و”هيئة ثائرون” قراراً بمعاقبة “مُحمَّد الجاسم/ أبو عمشة” قائد الفرقة، فهرعت “هيئة تحرير الشَّام” إلى نجدتها، ونشرت بعضاً من قوّاتها في قرى ناحية “شيه/ شيخ الحديد” مع أسلحتها الثَّقيلة، دفاعاً عن “أبو عمشة” وفرقته، فالتزمت جميع الفصائل المطالبة بمعاقبة “أبو عمشة” الصَّمتَ.
إنَّ الهيبة التي فرضتها “تحرير الشَّام” أثناء اجتياحها قرى عفرين، دفعت معظم الفصائل المنضوية تحت راية ما يُسمّى “الجيش الوطنيّ السُّوريّ” إلى فتح الطرقات أمامها وعدم اعتراض أرتالها العسكريّة، خاصَّةً عندما وصلت إلى مركز ناحية جنديرس، وكذلك إلى بعض قرى ناحية شيراوا، جنوبيّ عفرين.
حالة الخوف والفزع التي سادت بين صفوف مرتزقة تركيّا في عفرين، وكذلك في إعزاز والباب وحتّى جرابلس وسري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض؛ دفعت الاستخبارات التُّركيّة لتَعقُدَ اجتماعاً في عفرين بين قادة المرتزقة وقيادات ميدانيّة من “هيئة تحرير الشَّام”، لتهدئة الأوضاع، بما يَسمح لـ”الهيئة” البقاء في بعض القرى الإستراتيجيّة في بلدة جنديرس، وكذلك في شيراوا، وسحب عناصرها من باقي القرى.
رُغم سعيِ تركيّا لشَرعَنَةِ “هيئة تحرير الشَّام”، ومحاولاتها الحثيثة لإزالة اسمها من قائمة الإرهاب الدّوليّة، إلا أنَّ المزاج والمناخ الدّوليّ والإقليميّ، رافِضٌ بشكل مطلق للتوجُّهات التُّركيّة. فـ”تحرير الشَّام” لا تزال إلى يومنا هذا تتَّبِع سياسات متشدِّدَة وإرهابيّة في التَّعامل مع مختلف القضايا الوطنيّة والإنسانيّة، فسجونها تمتلئ بعشرات المعتقلين الرّافضين لسياساتها، كما أنَّها لا تختلف عن شقيقتها “داعش” من حيث التوجُّه والأفكار والعقيدة، ولا تؤمن بالأفكار الوطنيّة والدّيمقراطيّة، بل تجهد إلى فرض تعاليمها القرووسطيّة في مناطق سيطرتها، وهذا يعزِّزُ من القناعة بأنَّ وجودها في عفرين، سيُمهِّدُ الطريق أمام عودة “داعش” إليها من البوّابة التُّركيّة، لتعيد تهديد المنطقة والعالم من جديد.
تبقى شروط بقاء “هيئة تحرير الشَّام” في عفرين من عدمها، مرهونةٌ بالدَّرجة الأولى بالرَدِّ والموقف الرّوسيّ، بعد أن سرت شائعات بأنَّ روسيّا تجاهلت انتشار وتمدُّدَ “تحرير الشَّام”، مقابل انسحابٍ مزعومٍ لها من جبال الزّاوية وقرى بريف اللّاذقية الشّماليّ، وإخلائها للطريق الدّوليّ (M4)، لكن تبيّن أنَّها كانت مجرَّدَ أضغاثَ أحلامٍ.
الأيّام القادمة ستكشف عورة كُلٍّ من تركيّا و”هيئة تحرير الشَّام”، وتظهر تفاصيل أكثر حول الاتّفاقيّات والتَّفاهمات التي أبرمتها تركيّا مع الثّانية، وأنَّها تُعِدُّ لسيناريوهات جديدة، اعتماداً على قوَّتها وبطشها وإرهابها.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها