العلاقات التركية _ الإسرائيلية.. بين الانحياز للمصالح و الشعارات
محمد عيسى
إن المتتبع لمسيرة العلاقات التركية – الإسرائيلية؛ لا بد أنه سيقع على نموذج خاص وملتبس من العلاقات بين الدول. فبينما أقدمت الحكومة التركية في مارس من عام 1949 على الاعتراف بالدولة العبرية، في سابقة تعد الأول من نوعها بين الدول الإسلامية، ليتلوها أول تبادل للسفراء بين البلدين في عهد حكومتي عدنان مندريس التركية وبن غوريون في إسرائيل، وليترافق ذلك مع توقيع اتفاق للتعاون الإستراتيجي في المجالات الاقتصادية والعسكرية والسياسية ضد الإرهاب، الذي كان يُقصد منه في ذلك الوقت النظام الشيوعي العالمي. ثم لتقوم الحكومة التركية، وفي أكثر من مرة، وضمن سياسة المجاملة لمحيطها الإسلامي، وفي خطوة رفع للعتب، بسحب سفيرها من إسرائيل. جرى ذلك في أعقاب مشاركة إسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر عبد الناصر عام 1956، وتكررت نفس خطوة المداهنة بعد عدوان عام 1967.
ومع محاولات الظهور اليتيمة بمظهر الدولة الشقيقة للعالم الإسلامي؛ فإنها لم تستطع أن تخفي، وكما كل الحكومات التركية المتعاقبة، عمق الصلات التي تربطها بدولة إسرائيل، وحجم الروابط التحالفية بين دولتين عضوين بحلف الأطلسي منذ نشأته الأولى بشكل رسمي، والثانية بشكل موارب. وكذلك في كل المحطات والصراعات والحروب التي شهدتها المنطقة؛ بدءاً بنشوء حلف بغداد، مروراً بحرب عامي 1967 و1973. لم تتوانَ الدولة التركية عن فتح أجوائها وأراضيها أمام الطيران الإسرائيليّ، ووضع خبراتها الاستخبارية لتكون منصة انطلاق للعدوان على الدول العربية، وبخاصة أثناء عمليات العدوان الإسرائيلي على سوريا والعراق، وأثناء الإعداد والتنفيذ لعملية ضرب المفاعل النووي العراقي مطلع ثمانينات القرن الماضي، ومؤخراً مشروع المفاعل السوري في دير الزور السورية.
ولا يجافي الدارس الحقيقة في شيء حين يقول إن التواطؤ التركي مع الدور الإسرائيلي، قد وضع مشروع الاستقلال والتنمية وقضية الشعوب الساعية للتحرر والدمقرطة في المنطقة العربية، وطيلة فترة القرن الماضي، بين فكَّي كمّاشة، لتظهرا قوّتان حليفتان في مواجهة شعوب المنطقة. لكن ذلك لا يمنع من القول إن تاريخ هذا التحالف قد مَرَّ في طورين أساسيين:
الطور الأول، وقد امتد منذ نشوء الدولة العبرية وحتى عام 2008، تاريخ الحرب على غزة. مرحلة كان من سماتها أنَّ الانحياز والتعاون مع إسرائيل هو سياسة مكشوفة ومعلنة في ممارسات الحكومات التركية الأتاتوركية المتعاقبة، صاحبة الميول والمبادئ المدنية العلمانية. والموضوعية تستدعي بعض التبرير لذلك الانحياز من خلال وقوعهما معا ضمن مقتضيات التحالف الغربي ومعادلاته الدولية.
والطور الثاني، وقد بدأ مع ظهور تحالف الحركة القومية مع حزب العدالة والتنمية الإسلامي. وأهم سمة يمكن أن تتصف بها السياسة التركية في هذا الطور؛ هو النفاق السياسي، بكل معانيه. فهو من جهة تبنّى خطاباً شعبوياً، كانت وجهته الظاهرية التضامن مع قضية فلسطين وشعب غزة، ونادى بحقوق العرب والمسلمين. واعتمد بروباغندا إعلامية وسياسية لتسويق أجنداته. وبعد نجاح التحالف الحاكم بكسب الانتخابات لأكثر من دورة، مستفيداً من بعض النجاحات الاقتصادية التي تحققت بفعل الظروف التي تراكمت ووفَّرتها إخفاقات السياسة الاجتماعية للمعارضة، ورصيد الدولة التركية المتأتّي من تحالفها القديم، ومن موقعها في الاقتصاد الرأسمالي العالمي. نجح أيضاً رئيسها رجب طيب أردوغان بتوظيف ذلك لتحقيق تعديلات عميقة في الدستور العلماني الأتاتوركي، لجهة فرض نظام رئاسي كان يبغي من خلاله الانقضاض على إرث الدولة العلماني، والتحول نحو مشروع دولة الخلافة العثمانية الإسلامي، مما خلق مناخاً لتكريس وتعميق خطابه الانتقائي ودغدغة مشاعر جماهير إسلامية عانت من إحباطات وهزائم متكررة، ولم يفوّت أردوغان فرصة الاعتداءات الإسرائيلية على غزة في عام 2008؛ ليعلن عن قطع علاقاته مع دولة إسرائيل، وليعمد بعد ذلك إلى مهاجمة رئيس الوزراء الإسرائيلي “شمعون بيريز” بعبارات، من قبيل “قاتل الأطفال”، وذلك في خطوة استعراضية أثناء لقائه به في “منتدى دافوس”، وليكتمل المشهد في مسرحية البطل في قضايا الجماهير، بعد قضية “أسطول الحرية” و”سفينة مرمرة”، والحملة التي نظَّمها نشطاء المجتمع المدني التركي للتضامن مع فلسطينيي غزة، والتي أدت بالتالي إلى مقتل عدد منهم برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي، مما أدخل العلاقات التركية الإسرائيلية في وضع متوتر وقطيعة معلنة.
وإذا كان هذا هو الوجه المعلن في السياسة التركية بعد عام 2008؛ فلا ريب أن ثمة وجهاً خفياً آخراً، ونهجاً آخراً درج حزب العدالة والتنمية على انتهاجه، وثمة سياسة في الظل كانت حركة الإخوان المسلمين وحركات الإسلام السياسي بعامة، تعتمدها أو تأتمر بها وفقاً لخطط المركز الإمبريالي ومصلحة صاحب القرار، ليتبين أن من ضروب النفاق في سلوك صنّاع السياسة التركية قد جعل من تركيا ثاني دولة بعد الهند في حجم تبادلها التجاري مع السوق الإسرائيلية، وليصل حدّ أربع مليارات دولار أمريكي.
وليس هذا فحسب؛ بل ليتضح فيما بعد أن النفاق التركي قد فاق كل تصور، فوفقاً لتقرير نشرته صحيفة “الزمان” التركية وأكده التلفزيون الإسرائيلي لاحقاً، أن حكومة أردوغان قد اعترفت بالقدس عاصمة لإسرائيل قبل عام من اعتراف ترامب السيء الصيت في 13 /11 /2017، وذلك في وثيقة تبادلها الطرفان، وتضمنت تطبيع العلاقات بينهما في شهر أغسطس/ آب من عام 2016، وتتضمن نصاً يقول “إن الاتفاق يجري بين الحكومة التركية التي عاصمتها أنقرة والحكومة الإسرائيلية وعاصمتها القدس”، ما يعني اعترافاً لا لُبسَ فيه.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحدّ؛ بل تتوغَّلُ حكومة أردوغان إلى مستويات بعيدة في تعاونها العسكريّ والاستخباراتي مع إسرائيل، وبموجب قاعدة بيانات حلف الناتو ومذكرات التفاهم والاتفاقيات العسكرية التي نشرتها وزارة الدفاع الإسرائيلية؛ فإن إسرائيل تستخدم في عهد أردوغان ثلاثة قواعد عسكرية، اثنتان جويتان في “قونية وإنجرلك”، وثالثة للإنذار المبكّر في “كوراجيك” بمدينة “ملاطيا”، ما جعل أردوغان مؤهَّلاً للحصول على ميدالية “الشجاعة اليهودية”، وفقاً لما نشرته جريدة “الزمان” التركية على لسان رئيس وزراء تركيا الأسبق “نجم الدين أربكان”، خلال فيديو موجود على اليوتيوب حتّى الآن، وقد نشر بتاريخ 14 ديسمبر/ كانون الأول عام 2017.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها..