اللامركزية في سوريا.. كاستحقاق وطني
جميل رشيد
تدور في الآونة الأخيرة أحاديث ونقاشات عديدة بين أطياف المعارضة السُّوريّة، الدّاخليّة والخارجيّة، حول مفهوم اللا مركزية السِّياسيّة والإداريّة، خاصَّةً بدع أن دخلت الأزمة السُّوريّة منعطفاً هامّاً وتاريخيّاً، لجهة استحقاقات المرحلة المقبلة، والتي سِمَتُها الأساسيّة؛ التغيير في شكل الدّولة والنّظام والدّستور، حيث يطرح العديد منهم ضرورة صياغة عقد اجتماعيٍّ جديد بين السُّوريّين، على أسس ديمقراطيّة عادلة.
إنَّ اللامركزيّة السِّياسيّة بوصفها صيغة لإدارة الدّول؛ تتعلَّق بنظام الحكم السِّياسيّ في الدّول المُركَّبة (الاتّحاديّة/ الفيدراليّة)، وهي أكثر ممّا تتعلَّق بالسِّياسة الدّاخليّة، حيث تتوزَّع السِّيادة الدّاخليّة بين دولة الاتّحاد المركزيّ والولايات أو الدويلات الأعضاء فيه، وما يرتّبه ذلك على تمتُّع كُلِّ ولاية أو دويلة باستقلال ذاتيّ في مباشرة السُّلطة التَّشريعيّة والتَّنفيذيّة والقضائيّة، وبهذا توزَّع الوظيفة السِّياسيّة في الدَّولة بين الدَّولة الاتِّحاديّة، ودويلات الاتّحاد، ولذلك لا يتصوَّر قيام اللامركزيّة السِّياسيّة في الدّول الموحّدة البسيطة، حيث تنتفي ظاهرة ازدواج السُّلطات العامّة، سواءً التَّشريعيّة أو التَّنفيذيّة أو القضائيّة. والحالة هذه تفترض وجود هيئة تشريعيّة (برلمان) لكُلِّ إقليم (محافظة)، تَسُنُّ قوانينها وتشريعاتها الخاصَّة بها، بحيث لا تتعارض مع قوانين المركز، بل تكمِّلها، وكذلك من حقّها تشكيل مجلس تنفيذيّ يعمل على تنفيذ القوانين والتَّشريعات الصادرة عن برلمانها، كما يَحُقُّ لها أيضاً تشكيل جهاز أمنيّ وقضائيّ خاصٍّ بها، إضافة إلى الاتّحادات والمؤسَّسات التي تكفل لها تَميُّزها وخصوصيَّتها الثَّقافيّة والقوميّة، بشكل تساهم في تعزيز مكانة الدّولة، ولا تكون سبباً في انقسامها وشرذمتها.
الوصف الآنف الذكر يقارب شكل الدّولة الفيدراليّة (الاتّحاديّة)، كما هو في الولايات المتّحدة الأمريكيّة وألمانيا وسويسرا.
فيما اللامركزيّة الإداريّة تقتضي توزيع جزء من المهام والوظائف الإداريّة بين المركز (العاصمة) والأقاليم أو الولايات (المحافظات)، وهي بمعنى آخر تعني نقل قسم من صلاحيات المركز إلى الأقاليم، بحيث تمنح كامل الصلاحيّات والمسؤوليّات إليها في مناطقها، مثل الضرائب، وكذلك تكون لها ميزانيّة خاصَّة لها من الميزانيّة العامَّة للدَّولة.
إنَّ الفلسفة السِّياسيّة والإداريّة التي تتّبعها الأنظمة اللامركزيّة، تُحدِّدُ السّياقات الفكريّة والسِّياسيّة والإداريّة لبنائها، وقد استطاعت بعض الدّول من خلال تطوّرها الدّائم؛ الوصول إلى أرقى أشكال بناء الدّول الدّيمقراطيّة. إن فلسفة الحكم اللامركزيّ لا تعتمد على مفهوم “الأكثريّة” و”الأقليّة” بأيِّ شكلٍ من الأشكال، بل تعارضه وتناقضه وتلغيه أيضاً، وتضع “التشاركيّة” وعدم تهميش أيّ مكوّن لها، بغضِّ النَّظر عن عدده، بديلاً له.
الوضع السُّوريّ الرّاهن، وبما آلت إليه الحرب من خراب ودمار، تَفرض الانتقال إلى شكل جديد من بناء الدَّولة، بكُلِّ مؤسَّساتها وإداراتها، ويحدث تغييراً في جوهر المفاهيم السّابقة التي بُنِيَت وتأسَّست عليها الدَّولة السُّوريّة منذ أوَّل نشوئها في عام 1920، ومرورها في مراحل متقلّبة في الخمسينات من القرن الماضي، واستقرارها “الملغوم” في بداية السّتينات، واتّخاذها نمطاً ولوناً واحداً من الحكم والإدارة بداية السبعينات، واستمرارها عليه، وصولاً إلى مرحلتنا الرّاهنة.
لا شَكَّ أنَّ اتّخاذ الشكل الأُحادي المَبني على أسس قومويّة صرفة، مثل القوميّة الواحدة واللّغة الواحدة والعرق الواحد والثَّقافة الواحدة..، وتهميش باقي مكوّنات الشَّعب السُّوريّ، سبَّب في الكوارث التي حلَّت وتُحُلُّ علينا منذ إحدى عشر سنة، بحيث استنزف كامل طاقات الشَّعب والدَّولة السُّوريّة، حتّى بات معها التفكير في إعادة لملمة أشلائها المبعثرة تتطلب نوعاً من “المعجزة”.
لا يختلف اثنان أنَّ المركزيّة المُفرِطة، كانت وراء المأساة التي يَمُرُّ بها الشَّعب السُّوريّ، وبات بديهيّاً أنَّ الخروج من الأزمة، يستدعي طرحَ بديلٍ؛ يلائم التطوّرات الحاصلة إقليميّاً ودوليّاً، ويُضمّد جراح السُّوريّين التي أثخنتها الحرب. وفي هذه الحالة تغدو اللامركزيّة ضرورة حياتيّة بالنِّسبة لهم، وليست ترفاً فكريّاً وتنظيراً سياسيّاً، أو إضاعة للوقت.
الطَّرح الذي تقدَّمت به الإدارة الذّاتيّة في شمال وشرق سوريا بضرورة اعتماد اللامركزيّة السِّياسيّة والإداريّة في نظام الدَّولة السُّوريّة؛ إنَّما يُعَبِّرُ عن رؤية وطنيّة مسؤولة، تختصر في طيّاتها مطالب السُّوريّين وتطلُّعاتهم نحو دولة يسودها العدل والقانون، وتَستبدلها بالمركزيّة التي أنتجت كُلَّ هذه الويلات والمصائب لهم، وتنتقل بها إلى دولة الحقوق والواجبات، وتُزيلُ الغُبنَ عن مكوّنات طالما ظَلَّت مهمَّشة طيلة منذ نشوء الدَّولة السُّوريّة المشوَّهة والمنقوصة الأركان، وتُعيدُ بناء الهُويَّة الوطنيّة السُّوريّة وفق أسس عصريّة جديدة، عنوانها الرَّئيس مشاركة الكُلّ في صناعة القرارات السِّياسيّة والاقتصاديّة، ويمكِّن كُلّ مكوّنٍ من ممارسة ثقافته ولغته بحُرّيّة تامَّة، دونَ قيودٍ أو شروط، ومنصوص عليها في دستور ديمقراطيٍّ وعقد اجتماعيٍّ جديدٍ تُشارك جميع المكوّنات في وضعه.
يستدعي اعتماد نظام اللامركزيّة كشكل من أشكال أنظمة الحكم وإدارة الدّول، تعاوناً كبيراً بين المركز والأطراف، بما يخفِّف من أعباء المركز أيضاً، وهو ما يحتّم إنشاء قوّات أمن محلّيّة، ومؤسَّسات وإدارات خاصَّة بها، كافتتاح كُلّ مكوِّنٍ مدارس تدرِّسُ لغتها الخاصَّة بها، إلى جانب اعتماد لغة الدَّولة وعدم التَّغاضي عنها، وكذلك افتتاح المراكز الثَّقافيّة بكُلِّ مكوِّنٍ، إلى جانب ضرورة وجود هياكل إداريّة واقتصاديّة مثل البلديّات وهيئات الماليّة والصحّة وغيرها، ولها كامل الحُرّيّة في تنظيم أنفسها وفق مقتضيات مصلحتها، وبما يتلاءم مع طبيعة مكوّناتها، على أن تراعي عند صياغة قوانينها وتشريعاتها التنوّع والتوزّع الجغرافيّ لسُكّانها.
يسود في عُرفِ اللامركزيّة المعتمدة في دول العالم، أنَّ الأقاليم (المحافظات) تَشتَرك مع المركز في الاقتصاد والسِّياسة الخارجيّة والدِّفاع والماليّة، ولكن يمنحها القانون صلاحيَّة إنشاء قوّات أمنيّة خاصَّة بها تحافظ على أمن واستقرار مناطقها، ولكنَّها تشترك مع قوّات المركز (العاصمة) في الدِّفاع عن الوطن ضُدَّ أيّ تهديدٍ أو عدوانٍ تواجهه البلاد، على أن يكون التَّعامل بالمثل، أي أنَّ المركز بحكم الصلاحيّات الممنوحة له لحفظ السِّيادة الوطنيّة؛ ملزم بالدِّفاع عن أيّ منطقة أو محافظة تتعرَّض لتهديدٍ خارجيٍّ، مثل الوضع الحالي في شمال وشرق سوريّا، حيث تتعرَّض دائماً لتهديدات من الاحتلال التُّركيّ بالغزو.
التَّلميحات الصادرة من الحكومة السُّوريّة بالانتقال إلى صيغة اللامركزيّة “الإداريّة” فقط، دون “السِّياسيّة”، والتي جاءت على لسان رئيس الوزراء “حسين عرنوس”، عشيَّة انتخابات الإدارة المحلّيّة، تبدو في ظاهرها خطوة مُرَحَّبٌ بها على صعيد توجُّه الدّولة للتخلي عن المركزيّة، إلا أنَّها لا تغدو كونها مقاربة سطحيّة إن لم تُقتَرن باللامركزيّة السِّياسيّة، وحينها؛ اللامركزيّة الإداريّة وحدها لا تفي بغرض الانتقال الفعليّ نحو نظام اللامركزية على جميع الصعد، السِّياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة والأمنيّة والإداريّة، وما يستتبعها من تغييرات في بُنية الدَّولة السُّوريّة وهياكلها الإداريّة والمؤسَّساتيّة. وكان الرَّئيس السُّوريّ بشّار الأسد قد تحدَّث في وقت سابق عن اللامركزيّة الإداريّة ضمن قانون الإدارة المحلّيّة /107/، إلا أنّه لم تحدث أيّ خطواتٍ عمليّة على طريق التَّمهيد للانتقال إلى اللامركزيّة. وحصر اللامركزيّة بتعديل قانون الإدارة المحلّيّة المذكور، يعتبر مناورة سياسيّة للتهرُّب من الاستحقاقات الفعليّة للانتقال إلى اللامركزيّة.
لا يمكن أن يتكلَّلَ أيُّ جهدٍ سياسيٍّ وطنيّ سوريّ بالنَّجاح على طريق إحلال اللامركزيّة، والتخلّص من تَرِكة الماضي الثَّقيلة، بكُلّ تداعياتها وسلبيّاتها، إلا بتخفيف قبضة المركز على الأطراف، وفي المرحلة الرّاهنة يتمثَّل هذا التوجُّه بالتَّوافق مع ما تطرحه الإدارة الذّاتيّة عبر إطلاق حوار وطنيٍّ سوريٍّ – سوريٍّ، يضع حلولاً ناجزة للأزمات المعقَّدة التي تَمُرُّ بها سوريّا، وتُعيد بناء هُويَّة وطنيّة سوريّة جامعة، تقطع مع المراحل السّابقة، وتصيغ دستوراً وطنيّاً سوريّاً يُلبّي حاجة وطموح جميع السُّوريين، ويكون مُعبِّراً عن التنوّع الإثنيّ والمذهبيّ والطائفيّ، فاعتماد اللامركزيّة لا يَتُمُّ عبر تصريح أو خطاب، أو لقاء عابر، بل تتحقَّق عبر العمل الوطنيّ الجاد والدؤوب، وقبلها يتطلّب توفّر إرادة وطنيّة في التغيير الحقيقيّ والانفتاح على الآخر.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها..