اللاجئون السوريون والانتخابات التركية
محمد عيسى
من قطيعة مفاجئة تفتعلها تركيا في 2011، بين بنظام أردوغان وسلطات دمشق، ترافقها أول موجة لهجرة السوريين إلى الأراضي التركية في 29 إبريل/ نيسان من نفس العام، إلى عودة أكثر إدهاشاً وبدون تدرج أو مقدِّمات منطقيّة، تخترعها أو تجترحها أيضاً نفسها حكومة أردوغان، صانعةُ السِّياسة التركية خلال العقدين الماضيين، وعبر تحالفٍ راسخ ومستمر بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية.
والحديث عن الاستدارة التركية المباغتة لم يعد مسألة في إطار التخمينات أو الترجيحات الصحفية؛ بل صارت سياسة معلنة وممارسة يومية في الإعلام والسياسة التركية، بدأها أردوغان نفسه في تصريحه الشهير أثناء مشاركته في قمة دول منظمة “شنغهاي”، بقوله “لو حضر الرئيس بشار الأسد إلى سمرقند لكنت التقيت به”. لتعود بعد ذلك صحيفة “الصباح” المقرَّبة من الحزب الحاكم، وفي أحدث تقرير لها، إلى نشر ما يمكن تسميته “خارطة طريق” انبثقت عمّا تزعم أنه لقاء بين رئيس الاستخبارات التركية “حقّان فيدان” ونظيره السوري “علي مملوك” جرى مؤخَّراً في دمشق. خارطة طريق لعودة مُنظَّمة وممنهجَة، ثم متدرّجة، لعودة العلاقات بين الدولتين، تبدأ بلقاءات على مستوى الأجهزة الأمنية، ثم تتلوها لقاء بين وزير الخارجية التركي “جاويش أوغلو” مع وزير الخارجية السوري “فيصل المقداد”، تمهيداً إلى لقاء قمة يجمع بين الرئيسين “بشار الأسد” و”أردوغان”.
وتتابع الصحيفة في عرض التفاصيل، وما تضمنه جدول أعمال اللقاء الآنف الذكر، لتوضِّح أن المطالب التركية تمحورت حول الطلب من حكومة دمشق التعاون لتأمين عودة آمنة وسلسة للاجئين وعدم مساءلتهم، بالإضافة إلى إلغاء المرسوم 10 الصادر في العام 2018 والمتعلق بأملاك المهاجرين، بالإضافة إلى مطالب أخرى تتعلق، بحسب أنقرة، بالتعاون لمواجهة ما تسميه “إرهاب المجموعات الكردية” ممثلة بقوات (قسد).
وتضيف الصحيفة من جانب آخر مطالب الجانب السوري، الذي يركز على أولوية خروج قوات الاحتلال التركي من إدلب وباقي الأراضي السورية، ووقف الدعم المقدم للإرهابيين وتفكيكهم، وتسليم المطلوبين منهم. لتردّ أنقرة، ودائماً بحسب الصحيفة، “أن هذه المطالب تُدرس، ومسألة الانسحاب ممكنة في إطار الحل السياسي القادم، وفي إطار التجديد لـ”اتفاقية أضنة” المتعلقة بأمن الحدود.
بصرف النظر عن كلام الصحيفة وعن مستويات الحوار ومواضيعه، فإنه من الحري بالذكر أن الدفع اليوم نحو اللقاء التركي السوري، بعد خلاف مرير دام لأكثر من عشرة سنوات، اضطلعت خلاله السياسة التركية بدور تخريبي ومكشوف حيال الدولة السورية وبنيتها الاقتصادية والمجتمع السوري ودرجة تماسكه، يأتي هذا الدفع متناغماً مع رؤية روسية للاصطفافات الإقليمية، ومن حاجة متزايدة لدور تلعبه أنقرة في الصراعات الدولية، وخاصة في الحرب الروسية الأوكرانية، وبما يبعدها عن حلفائها التقليديين في الحلف الأطلسي، هذا الحلف الذي باتت السياسة التركية أقرب إلى أن تكون خارجه في الواقع، خاصة بعد تصريحات أردوغان بعد قمتي سوتشي وطهران الأخيرتين.
ومن الجدير بالذكر بأن العامل الحاسم الذي يفرض نفسه في رسم التحول التركي لجهة التقارب مع دمشق؛ هو عامل محلي داخلي تركي، قبل أي اعتبار آخر، ويأتي تحدي مواجهة استحقاق الانتخابات الرئاسية والبرلمانية إبّان شهر حزيران القادم، على رأس العوامل الضاغطة على التحالف الحاكم، في ظل تفاقم الأزمات الاقتصادية وتراجع سعر صرف الليرة التركية، والذي بدوره يخلق مناخات غير مطمئنة لأردوغان وتحالفه في موضوع الانتخابات وحول فرص الفوز بها. ولتجاوز نقطة الضعف هذه؛ لا مفرَّ من حل مسألة اللاجئين السوريين، القضية التي باتت المعضلة الوطنية الأولى ومحور اهتمام المتنافسين في برامج أحزاب الحكومة والمعارضة، على السواء.
فهذه المسألة التي تفاقمت بحجمها وتداعياتها خلال السنوات الماضية، قد بلغت حدّاً مؤرقاً لحكومة حزب العدالة والتنمية، وذلك لضلوعها المباشر في خلقها، من خلال تورّطها في الشأن الداخلي السوري، وعبر تشجيع السوريين على الانخراط في الأجندات الثورية ذات الهوية الإسلاموية العصملية، من جهة، والنزعة العنفية الإرهابية، من جهة أخرى. هذا الدور وهذا التورط صار واضحاً ومن المسلمات في الرأي العام التركي، وكذلك مادة المعارضة الرئيسية في تناول حكومة العدالة والتنمية وفي فضح وتعرية سياستها.
وعلى نفس النحو؛ تُجمِعُ أحزاب المعارضة على أن حكومة أردوغان قد حولت الدولة التركية إلى حوض للهجرة وإلى مكب نفايات للأوروبيين بسبب اللاجئين، حيث تذهب زعيمة الحزب الجديد “ميرال آكشينر” في كلمتها أمام مؤتمر حزبها إلى أن سياسة أردوغان قد وضعت تركيا أمام أزمة كبيرة ومأزق أخلاقي، حيث تعهدت بحل الأزمة خلال ثلاث سنوات فيما لو وصلت إلى الحكم، وكما أوردت أرقاماً أكبر بكثير من الأرقام المعلنة لعدد اللاجئين. ويتفق مع رأيها الكثير من الأكاديميين ورجال القانون في المجتمع المدني حول المأزق الأخلاقي، والذي يحتم أن تكون أي عودة للاجئين “مشروطة” بتوفر الظروف والبيئية المناسبة للعودة، ما يعني أن دعوة أردوغان لإعادة اللاجئين اليوم في الظروف الحالية، هي دعوة غير أخلاقية ومخالفة لقواعد القانون الدولي، لطالما أن إعادة الإعمار لما دمرته الحرب في سوريا لم تحصل بعد، ولطالما مفاعيل “قانون قيصر” ما تزال قائمة.
وحول ضرورة التريُّث الآن في مسألة العودة المفبركة وعدم الاستعجال، يقول رئيس حزب المستقبل “أحمد داود أوغلو “يجب حل المسألة بعيداً عن الانفعال والأعمال الشعبوية، وبطريقة طوعية، وبعد توفر البنية التحتية الملائمة”.
ووفقاً لكل ذلك؛ يتَّضح جليّاً أن أردوغان وتحالفه الحاكم قد أصبح أسيراً لما صنعت يداه، فهو من خلق الأزمة وعليه قبل غيره حلها، باعتبارها أزمة وطنية وقانونية ثم أخلاقية لا يستطيع أن يتجاهل الاعتبارات والقوانين الدولية في التعاطي معها. وهو إذ يتوهم – كعادته – أن بإمكانه الاستهتار بالأعراف والقوانين الدولية، وبأنه يمكن أن يسوِّق صيغة قسرية لتوطين اللاجئين في المناطق الحدودية وفي عمق الأراضي السورية، وفي غير مناطق سكناهم الأساسية، صيغة يوظّفها لكسب انتخاباته القادمة، فهو واهمٌ، ولا يجوز أن يراود الشك أحداً بأن الدولة السورية ستقدّم له هذه الجائزة، أو ستمدُّ له حَبل النجاة، وهو الضالع بكل معاناتها.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها..