هل غدت السعودية وتركيا في حلف ضد إيران؟
حسن حسن
أثارت رحلة ولي العهد السّعوديّ إلى أنقرة تساؤلات حول جدّيّة جهود المصالحة بين السّعوديّة وتركيّا، في وقت تشهد منطقة الشَّرق الأوسط تحالفاتٍ واصطفافاتٍ جديدة.
وصل وليُّ العهد السّعوديّ مُحمَّد بن سلمان إلى تركيّا في 22 يونيو/ حزيران، في إطار جولة إقليميّة شملت مصر والأردنّ. زيارة بن سلمان لأنقرة جاءت إثر زيارة للرَّئيس التُّركيّ إلى السّعوديّة في إبريل/ نيسان الماضي، وهي الأولى منذ خمس سنوات. هاتان الزيارتان تمثّلان جزءاً من جهود التَّقارب المستمرّة منذ أكثر من عام، وتهدفان إلى استعادة العلاقات بين اثنين من القوى الإقليميّة ذات الثِّقل. تأتي المشاركة الدِّبلوماسيّة والسِّياسيّة رفيعة المستوى بين القادة السّعوديّين والأتراك؛ بالتّوازي مع جهود التَّقارب الإقليميّ الأوسع بين عِدَّةِ دول في الشَّرق الأوسط.
الاحتياجات الاقتصاديّة واللَّعب بأوراق “القوّة”
بالنسبة لبعض المراقبين الإقليميّين الذين يتابعون تطوّرات الأحداث؛ فإنَّ التغيير في الموقف من أردوغان، الذي غالباً ما يُظهر بأنَّه مقاتلٌ وقوميٌ قويٌّ ومتحالفٌ مع الإخوان المسلمين الذين تعتبرهم دول الخليج بمثابة تهديدات، يبدو أمراً مذهلاً.
كتب “تيموثي آش”، مُحلِّلُ الأسواق النّاشئة في “بلوباي أسيت مانجمنت”، في مذكَّرة يوم الخميس “يأتي مُحمَّد بن سلمان إلى أنقرة ويقبل – تقريباً – استسلام أردوغان غير المشروط”، في إشارة إلى وليّ العهد السّعوديّ بالأحرف الأولى من اسمه “رائع تماماً”.
وأضاف آش: “هذا يُظهر حقاً الوضع المالي الضيّق الذي يعاني منه أردوغان ومدى يأسه الآن من أجل السيولة، وأيضاً على الصعيد السِّياسيّ مدى صعوبة الأمر الآن على أردوغان”. ويسرد بأنَّ أردوغان “تذكّر هنا أنَّه صنع شيئاً من هذا القبيل في حادثة خاشقجي، وهو أيضاً هنا حقّاً يتخلّى عن قيادته حول قضيّة الإخوان المسلمين/ القيادة السِّياسيّة”.
ساهم سوء الإدارة الاقتصاديّة لأردوغان في أزمة اللّيرة التُّركيّة المستمرّة منذ سنوات. ومع بلوغ التضخُّم نحو 70 في المائة؛ تعهَّدَ الزَّعيم التُّركيّ بتنمية الاقتصاد للخروج من كارثة صنعها بنفسه. وهكذا، فقد تخلّى عن الخطاب العدائيّ حول كون الإماراتيّين – من بين أمور أخرى سيّئة – قراصنة، جاهلين، وغير كفؤين. كما نقل أردوغان المحاكمة – غيابيّاً – للأشخاص المُتَّهمين بقتل جمال خاشقجي إلى السّعوديّة، مُنهياً بذلك أيَّ احتمالٍ لمحاسبتهم. هذه هي النُّسخة الجيوسياسيّة من العمل على أمل الحصول على بعض الاستثمارات من صناديق الثَّروة السِّياديّة الخليجيّة الهائلة، والصَّفقات التِّجاريّة، ومقايضات العملات، ورُبَّما مبيعات الطائرات بدون طيّار.
على الرَّغم من أنَّ كلا البلدين جزء من نفس المعسكر الموالي للولايات المتّحدة في الشَّرق الأوسط؛ فقد تدهورت العلاقات بين أنقرة والرِّياض بشكل حادٍّ بعد اندلاع انتفاضات الرَّبيع العربيّ في عام 2011. بينما ارتأت الحكومة التُّركيّة سقوط العديد من الحكومات في الجمهوريات العربيّة كفرصة لتعزيز التغيير لصالحها، دعمت الرِّياض الوضعَ الرّاهن القديم واعتبرت الاضطرابات وعدم الاستقرار بمثابة تهديدٍ عميقٍ لها. تركَّزت الكراهية المتبادَلة بينهما أيضاً حول التَّحالف المتنامي بين تركيّا وقطر على أساس دعم الانتفاضات، وخاصَّة الحركات السِّياسيّة العربيّة على غرار الإخوان المسلمين.
بعد أن بدأت المملكة العربية السّعوديّة والإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر مقاطعة قطر في عام 2017، تلاها مقتل الصحفيّ السّعوديّ جمال خاشقجي عام 2018 في القنصليّة السّعوديّة بإسطنبول عام 2018، تدهورت العلاقات بين أنقرة والرِّياض بشكل مضطّرد. علَّق البلدان العلاقات الدِّبلوماسيّة بينهما، وتراجعت العلاقات الاقتصاديّة بشكل ملحوظ بسبب المقاطعة السّعوديّة غير الرَّسمية للصادرات والبّضائع التُّركيّة. وعلى الرَّغم من التّواصل الدِّبلوماسيّ الذي بدأ بين البلدين في أكتوبر/ تشرين الأوَّل 2020 واتّفاقيّة العلا لعام 2021 التي أنهت الأزمة مع قطر وأثارت تقارباً تركيّاً مع الإمارات العربيّة المتّحدة، إلا أنَّه لم يكن هناك اختراق ثنائيٌّ كبير حتّى زيارة أردوغان للمملكة.
في إبريل/ نيسان الماضي، التقى أردوغان بالملك سلمان بن عبد العزيز ومُحمَّد بن سلمان، وهي تمثِّل استدارةً تركيّة بشَّرَت بإعادة العلاقات الكاملة، على الأرجح. ومع ذلك، لم يكن هناك بيان ختاميٌّ مشترك ولا إعلان عن اتّفاقات من أيِّ نوع في ختام الزّيارة. حيثيّات الزِّيارة أثارت تساؤلات حول جدّيّة المصالحة، ممّا يشير إلى أنَّ القضايا العالقة لا تزال بحاجة إلى حَلٍّ قبل أن يتمكَّن الطرفان من استعادة العلاقات إلى سابقاتها بشكل كامل.
قد تَحُلُّ زيارة مُحمَّد بن سلمان لأنقرة الغموض الذي يكتنف وضع جهود المصالحة بين السّعوديّة وتركيّا. وقد أعرب أردوغان مؤخَّراً عن اهتمامه بتعزيز العلاقات مع المملكة في مجالات الطّاقة والأمن الغذائيّ والصحّة والاستثمار والأعمال، فضلاً عن الدِّفاع والأمن وقطّاعات أخرى. المصاعب الاقتصاديّة المستمرّة في تركيّا بالتأكيد توفِّرُ حافزاً للسَّعي إلى الاستثمار السّعوديّ والمشاركة التّجاريّة. من ناحية أخرى، ساهم سعي السّعوديّة لتنويع علاقاتها الخارجّية واقتصادها، وبناء صناعة دفاعيّة محلّيّة قويّة، ومواجهة التحدّيات الأمنيّة المتزايدة، لا سيّما من إيران، في اهتمام الرِّياض بالتَّصالح مع تركيّا.
في ذروته، شكَّلَ حجم التِّجارة الثنائيّة بين السّعوديّة وتركيّا في عام 2015 نسبة 1.5 ٪ من التِّجارة الدّوليّة لتركيّا. وفي عام 2021، وصلت إلى نحو 3.5 مليار دولار فقط. وشكَّلَ الاستثمار الأجنبيّ المباشر السّعوديّ في أنقرة من 2005 إلى 2020 ما نسبته 1 ٪ فقط من إجمالي الاستثمار الأجنبيّ المباشر الذي تلقّته تركيّا خلال تلك الفترة. وبالمثل؛ في ذروته، شكَّلَ عدد السُيّاح السّعوديّين إلى تركيّا أقلّ من 2٪ من إجمالي السُيّاح الذين سافروا إلى تركيّا في عام 2018. لذلك، هناك فرص واسعة لتعزيز العلاقات الاقتصاديّة والعلاقات التِّجاريّة والاستثمارات والسِّياحة بين أكبر اقتصادين في الشَّرق الأوسط.
على المستوى الإقليميّ، عكف البلدان على تعديل سياساتهما الخارجيّة للتكيّف مع الدّيناميكيّات الدّوليّة والإقليميّة، بما في ذلك هزيمة الرَّئيس دونالد ترامب في الانتخابات الرِّئاسية الأمريكيّة لعام 2020، واتّفاقيّة العلا التي أنهت أزمة قطر، وهي حالة تهدئة بشكل غير متساوٍ، تزامناً مع جائحة فيروس كورونا ونهاية حقبة الانتفاضات العربيّة والحرب الرّوسيّة – الأوكرانيّة.
تستكشف السّعوديّة وتركيّا كيفيّة تعزيز نفوذهما الإقليميّ بشكل متبادل، وتعزيز صورهما الدّوليّة كلاعبين مؤثِّرين وكقوى إقليميّة متعاونة في الشَّرق الأوسط. وتحقيقاً لهذه الغاية؛ اتَّبعت أنقرة والرِّياض سياسات خارجيّة أكثر تكاملاً، وعزَّزتا تعاونهما الإقليميّ وزادا من خياراتهما الدِّبلوماسية وقدرتهما على المناورة.
في حين أنَّ محور أو شراكة الرِّياض وأنقرة قد تكون طموحة وبعيدة المدى، إلا أنَّها قد تُغيِّر الدّيناميكيّات الإقليميّة بشكل كبير، لا سيَّما فيما يتعلّق بالتَّعاون الأمنيّ المحتمل ضُدَّ التَّهديدات المشتركة، خاصَّةً ضُدَّ إيران وشبكتها الإقليميّة من الوكلاء المسلَّحين.
إلى جانب العديد من دول المنطقة؛ تشعر كُلٌّ من السّعوديّة وتركيّا بالقلق من أنَّ أيَّ إحياء محتمَلٍ لاتّفاق خطَّة العمل الشّاملة المشتركة النّوويّ، يمكن أن يمكِّنَ طهران من مواصلة أجندتها التوسُّعيّة، وتمويل وتقوية وكلائها، وتسريع بناء ترسانتها الضخمة من الصَّواريخ والطائرات بدون طيّار. قد يسمح هذا لإيران بتشكيل تهديد أكثر خطورةً للعديد من البلدان، ولا سيَّما السّعوديّة وتركيّا. حتّى إذا فشلت محادثات فيينا؛ فإنَّ التَّعاون الأقوى بين السّعوديّة وتركيّا يمكن أن يساعد في احتواء طهران وأنشطتها المزعزعة للاستقرار، وبالتّالي تقوية يد المنافِسَين الإقليميّين لإيران، بما في ذلك الرِّياض وأنقرة.
تزيد الحرب الرُّوسيّة – الأوكرانيّة، على وجه الخصوص، القلق في المنطقة؛ لأنَّها قد تقوِّض نفوذ موسكو في المسارح الحرجة، مما قد يسمح لإيران بملء الفراغ. على سبيل المثال، في مقابلة أجريت في مايو/ أيّار الماضي في مؤسَّسة هوفر، حذَّرَ الملك الأردنيّ عبد الله الثّاني من أنَّ طهران ووكلاؤها سوف يملؤون أيَّ فراغ تركته موسكو، ممّا سيزيد بشكل كبير من انعدام الأمن الإقليميّ، وأصدرت الإمارات وإسرائيل تحذيرات مماثلة بشأن التَّهديد الإيرانيّ.
في المقابل؛ ناقش الإيرانيّون الآثار السِّلبيّة المحتمَلة للعلاقات التي تَمَّ إصلاحها، وزيادة التعاون بين الرِّياض وأنقرة على نفوذ طهران في المنطقة. جادلت وسائل الإعلام الرَّسميّة وشبه الرَّسميّة، بما في ذلك أولئك المقرَّبون من الحرس الثَّوريّ الإسلاميّ، وغيرهم من الصحفيّين والأكاديميّين الإيرانيّين، بأنَّ استعادة العلاقات الطبيعيّة بين الرِّياض وأنقرة من المرجَّح أن تقوِّضَ نفوذ إيران في الدّول العربيّة الإستراتيجيّة، مثل العراق، سوريّا، اليمن، ولبنان.
تشعر طهران بالقلق من أنَّ التَّعاون الوثيق بين تركيّا والسّعوديّة في المسائل الأمنيّة قد يخلق مركزَ ثقلٍ جديدٍ يجذب اللّاعبين الإقليميّين الآخرين نحوها، وبالتّالي إنشاء كتلة إستراتيجيّة إقليميّة لمواجهة إيران وشبكتها الخاصَّة. يمكن أن يشمل هذا بشكل فعّال إسرائيل، التي تعمل على تحسين علاقاتها مع تركيّا منذ زيارة الرَّئيس الإسرائيليّ إسحاق هرتسوغ لأنقرة في مارس/ آذار الماضي، وقد اتَّخذت خطوات لبناء المزيد من العلاقات المباشرة مع السّعوديّة، بالإضافة إلى تطويرها السَّريع على مستوى إستراتيجيّ وأمنيّ واسع النطاق؛ شراكة مع دولة الإمارات العربيّة المتَّحدة.
في حين أنَّ هناك العديد من الجوانب لهذه الرَّوابط المتنامية والتي هي بشكل مختلف أكثر ديمومة أو مؤقَّتة؛ فإنَّ إحدى السِّمات الرَّئيسيّة لكُلٍّ منها هي الرَّغبة المشتركة للحَدِّ من انتشار الهيمنة الإيرانيّة في المنطقة. على ضوء هذه الرؤية، يمكن أن تصبح العلاقات السّعوديّة التُّركيّة قويّة بشكل متزايد، وتتجاوز بصدق المنافسة نحو التَّعاون، وستغدو أكثر وضوحاً؛ حيث يتَّخذ البلدان المزيد من الخطوات الملموسة لتعزيز الشَّراكات بعد زيارة وليّ العهد.
في حين أنَّ الاهتمام بالتقارب من كلا الجانبين واضحٌ، فهناك درجة من الحذر المتبادل. ينبع الكثير من الزَّخم لهذه المصالحة المحتمَلة من عوامل لا تخضع بالكامل لسيطرة هذه الحكومات، بما في ذلك التغيّرات في المشهد السِّياسيّ والإستراتيجيّ للشَّرق الأوسط واتّجاهات الاقتصاد الكُلّي التي تشكّلُها القوى العالميّة أكثر من القوى المحلّيّة أو حتّى الإقليميّة. لذا؛ فإنَّ الاحتمال هو أن تتشكَّلَ احتمالات تقارب سعوديٍّ تركيٍّ أكثر شمولاً من قبل الجهات الفاعلة الأخرى على المدى الطويل مثل أنقرة والرِّياض نفسيهما.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها