انتفاضة في الريف الدرزي !
أيمن الشوفي
لا يستفيض المجتمع الدرزي في الجنوب بإظهار الكثير من ردود الأفعال السياسية المتحمّسة الرافضة لممارسات نظام الحكم السوري المطبّقة عليه وعلى سواه في المناطق الخاضعة لسلطة ذاك النظام، ومعظمها ممارسات تنوي إتمام مآرب سياسة الحصار الاقتصادي التي تُهينُ جمهور الموالين لنظام دمشق، وإنما نجد أن مجتمع الدروز يفضل أن يتعلّم مجابهة سلطة الأمر الواقع بنفسه، وكأنه يتهجَّأ السياسة من أول قاموسها، ويطارد الفعل الثوري من بداية تشكّله، يراقبُ أفعاله تلك، ونتائجها، وصداها لدى النظام، يخطئ كثيراً، ويصيب قليلاً، لكنه يتعلّم، من دون حساب الوقت الضائع عليه، وهو وقتٌ ثقيلٌ يزهق حياة الناس على مهل، من دون أن يكترث بمآلهم ذاك أحد.
الخارطة من أولها
ربما يحتاج الفعل السياسي أو الاجتماعي عند الدروز إلى مرجعية مجتمعيّة تصفهُ أولاً، ثم توصي بخوارزمية العمل المناسبة لإنجازه، ومن دون تلك المباركة أو الطقس المرجعيّ لا تقوم قائمةٌ لأي فعل سياسي أو حتى اجتماعي، وإن تشكّل بغيرها، فسيبدو تائهَ الوجهة، ضعيفَ التأثير مثلما حدث مع النسخة الأولى من حركة رجال الكرامة التي انتهت بتصفية قياداتها قبل سنوات خلت. وغالباً ما تكون المرجعيّة المجتمعية هي أحد شيوخ العقل الثلاثة أو كلّهم معاً، بالإضافة إلى الزعامات العائلية التقليدية مثل زعامة لؤي الأطرش في بلدة عرى، وسواه من كبار رجال العائلات الدرزية، وهم على أي حال ظلُّ السلطة داخل المجتمع، وبوق دعايتها السياسية الذي لا يملُّ من لَكْمِ الهواء، وتسمينه بمعزوفات السلطة الدعائية التي تستميل الأهواء والعاطفة مزيحةً المنطق من دربها كلّياً.
ويبدو أن قرار تحجيم دور العصابات المحلية المسلحة التي صنعها جهاز الأمن العسكري داخل المحافظة قد لقي بعضاً من الضوء الأخضر من قبلِ المرجعيات الاجتماعية، وتمَّ بفعل اجتماعي كوّنتهُ مجموعات محليّة متعددة التسميات ومتنوّعة في مكوّناتها، وجرى تصفية عصابتين، وبقيت عصابة “مزهر” في مدينة السويداء، وبعض العصابات الأخرى قائمةً، الأمر الذي يمكن ردّه إلى تدخل المرجعيات الاجتماعية نفسها لكبح إتمام تلك التصفية، ولا ننسى أنها مرجعيات تأتمر بأوامر السلطة وأجهزتها الأمنية، حتى وإن علا صوتها بمطالب الناس مراتٍ قليلة، لكنه علوٌّ كوميدي لم يستطع أصحابه إقناع أحد بجديته، ولا حتى إقناع أنفسهم بجدية ما يطلبون.
غير أن تجربة ركل العصابات المسلحة من الحياة الاجتماعية للدروز تحمل معنى ومدلولات التجريب السياسي أكثر من كونها فعلاً مجتمعيّاً ناضجاً وقابلاً للديمومة والتطور باتجاه أشكال أخرى من الحراك السياسي ضد النظام القائم، فالمجتمع الدرزي لا يزال مجتمعَ العصبيّة القبلية والتراتبية الاجتماعية بشكلها القطيعيّ، والتي تعفيه كلياً من بلوغ أي نضوج سياسي محتمل في المدى المنظور.
صوت الهاتف الذي لا يرن!
المطالعة الأولية ليوميات الدروز وسواهم تشي بأن نظام بشار يصرُّ على نفي مقومات الحياة البسيطة من مدنهم وبلداتهم، تلك سياسةُ التحفيز على الهجرة، وتنميةُ السخط الاجتماعي على النظام القائم لدرجة أن الناس باتوا على استعداد للترحيب بأي تدخل خارجي يخلّصهم مما هم عليه، ولعلّ متلازمة الهاتف والمياه هي المظهرُ الأكثر تجلّياً لسياسة النظام تلك داخل الفضاء الاجتماعي للدروز، وربما لغيرهم أيضاً. فبمجرد انقطاع الكهرباء تخرج معظم مقاسم الهاتف عن الخدمة، كما لا تصل مياه الشرب إلى قسم كبير من السكان بالرغم من توفّر الآبار في معظم البلدات والقرى، الأمر الذي قاد مجموعات مدنيّة محلية في عدد من بلدات وقرى السويداء إلى إغلاق مراكز الهاتف، وطرد العاملين فيها إلى حين عودة هذه الخدمة إلى ما كانت عليه، مثل الذي حدث في بلدات “الغارية” و”عتيل” و”الهويّا” و”ولغا” وأخيراً في بلدة “المشنّف”.
خمس بلدات في ريف السويداء شهدت حراكاً اجتماعياً مطلبيّاً في توصيفه العام، وربما بمقدور هذا الفعل الاجتماعي أن يتطور إلى فعل سياسي منظّم، وليس أن يبقى مجرّد رد فعل طارئ على منظومة حصار السلطة للمجتمع، والأمر ليس سهلاً بوجود مظلة التواطؤ الواسعة التي يرفعها شيوخ عقل الدروز وكبار رجال عائلاتها ليتفيَّأ بها نظام بشار، ويشقى بظلّها الناسُ النيام، فاقدو الأثر والوزن السياسي في حسابات السلطة حيالهم، فلو استطاع هؤلاء المنتفضون في تلك البلدات تطوير تجربتهم في الاحتجاج السلمي، إلى تجربة عمل سياسي أكثر نضجاً، ومن دون مباركة رعاة النظام الرسميين في فضائهم الاجتماعي، لاستطاعوا تغيير حسابات السلطة تجاه محافظة الدروز، وربما الإسراع في صناعة نعشها، فأمامهم الشتاء أيضاً، بكل منغّصاته وشقائه المقبلين معاً على حياة الناس من دون وقود تدفئة، ولعله الشتاء الذي طال انتظاره، كي يفارق الناس رقادهم، قبل أن يردمهم البرد إلى غير رجعة.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها..