الناجي الوحيد من الحرب السورية

محمد محمود بشار
الحرب التي لم تنتهي بعد مازالت تنهش في أجساد ضحاياها، خرج الأسد فأُغلِق باب من أبوابها، وما أكثر أبواب هذه الحرب التي تجيد الرقص على جثث الموتى وتحول الإنسان إلى مجرد رقم في سلسلة أرقام ضحايا الحروب.
الساحل السوري، الذي كان بمنأى عن المواجهات المباشرة في هذا الصراع الذي لم يبق حجر على حجر في العديد من المناطق السورية، باتت أبوابه مفتوحة اليوم أمام جولة جديدة كانت بدايتها في شهر آذار من عامنا الحالي، هذا الشهر الذي جاء بعد أربعة عشر عاماً من آذار 2011 ذاك الشهر من تلك السنة، الذي وضع سوريا ضمن خارطة بلدان “الربيع العربي”.
أبرز ما تتميز به هذه البلاد، هو قدرتها على خوض حرب جديدة.
في حقبة حكم بشار الأسد التي قضى أكثر من نصفها في مواجهات عسكرية، كان دائما خطاب النصر هو الذي يتصدر المشهد في “قصر الشعب”، على الرغم من أنه في فترة من فترات هذا الصراع، فقد السيطرة على أكثر من ثلاثة أرباع مساحة البلاد ولم يبق متسع في السجون والمعتقلات لأبناء وبنات البلد، وباتت كل منطقة في سوريا تعرف بمقابرها الجماعية وبيوتها التي تحوّلت إلى أطلال هجرها أصحابها إما إلى المنافي والمخيمات أو إلى المقابر.
أغلبية الشعب السوري لا تعيش فقط تحت خط الفقر، وإنما تعيش تحت خط الموت، فعلى هذه الأرض الرصاصة التي تخطئ هدفها تصيب هدفً آخر، فالسوري الذي لم يفلح في الهرب من الفقر، لم ينجح أيضاً في التنحي جانباً عن مسار تلك الرصاصة.
– الناجي المشكوك في أمره
بعد انتهاء أي حرب ومرور زمن طويل على نهايتها، تبدأ الكثير من الشخصيات بالظهور تحت اسم (الناجي من الحرب) ليروي للعالم أجمع تفاصيل تلك الحرب المليئة بالفظائع والمعاناة. الناجون من الحرب العالمية الثانية، والناجون من الهولوكوست، والناجون من مذابح يوغسلافيا وحروب البلقان، والناجون من الحروب الأهلية الطاحنة في العديد من بقاع العالم، يشتركون جميعاً في آراء قريبة من بعضها البعض.
إلا أن كل ما يتم روايته عن فظاعة الصراعات المسلحة، يكون عبارة عن جزء صغير من تلك التفاصيل المرهقة والمليئة بالأحداث التي تتحكم بذاكرة الناجين، فالساعة الواحدة في زمن الحرب ليست ستين دقيقة، وإنما هي زمن آخر مختلف تماماً عن الساعة الواحدة في زمن السلم.
لا يدرك جوهر هذا التوقيت والاختلاف بين الدقائق والساعات، إلا من عاش الحرب بكل تفاصيلها، فمن الصعب جداً أن يتساوى المستمع لروايات الحروب مع الراوي الذي نجى بما تبقى من جسده.
في سوريا مازال البحث جارياً عن الناجي الوحيد، فكل السوريين قد وقعوا في مصيدة الموت، منهم من سكن القبور ومنهم من يسكن البيوت.
الوضع في سوريا ليس مأساوياً، ولكنها المأساة بعينها، فبعد كل هذه السنوات مازالت هناك أبواب جديدة تفتح للبدء مرة أخرى ومازال الرصاص هو سيد الموقف.
– إمبراطوريات أمراء الحرب
وصل أحد أمراء الحرب إلى سدة الحكم في سوريا، رمى زيه القديم وارتدى بدلة عصرية أنيقة وبات يتكلم عن ضرورة الاحتكام إلى عقل الدولة لا عقل الثورة، فصفق له باقي الأمراء وهم يحيطون به بزيهم العسكري، ومن ثم غادر كل أمير العاصمة السورية دمشق، واتجه إلى إمارته الخاصة وهو يتقلد رتبة جديدة.
إلى اين تتجه هذه البلاد التي يتم فيها تكريم القاتل وترقيته في سلم الرتب العسكرية. وهل يتقن القاتل سوى القتل؟
عندما يريد المسؤول أن يرتقي ببلده، فعليه أن يتبنى شعاراً مشابهاً للشعار الذي حمله الرئيس الأميركي دونالد ترامب حينما قال: (أميركا أولاً).
بينما الواقع السوري يقول، بأن كل أمير حرب يقول: (إمارتي أولاً) فهذه الإمارة هي التي أعطته الأموال والسلطة وبات يمتلك حسابات بملايين الدولارات في بنوك العديد من الدول، ماذا لو قال: (سوريا أولاً)؟
مما لاشك فيه، حينها سيفقد كل هذه الأموال والسلطة وباعتباره سيكون رجلاً من رجالات الدولة سيعيش على راتبه فقط، وهل سيرضى أمراء الحرب براتب الموظف السوري، هذا الراتب الذي لا يقي صاحبه من برد الشتاء وحر الصيف ويكون له سجل مفتوح للديون في كل محلات المواد الغذائية في المنطقة التي يعيش فيها.
يبحث السوري اليوم عمن يرفع شعار (سوريا أولاً) هذا الشعار الذي إن تم تطبيقه، سيفتح الباب أمام السوري ليخرج من تحت خط الموت، ليواجه الفقر بعيداً عن شبح فقدان الحياة برصاصةٍ قد تكون طائشة وقد تكون مصوّبة بدقة.
الروائي الأميركي”أرنست همنغواي” الذي شارك في الحرب العالمية الأولى كجندي وكان متواجداً في ساحات الحرب الأهلية الإسبانية والحرب العالمية الثانية كمراسل حربي، يقول في روايته “لمن تقرع الأجراس” ما يلي:
(إن النسف شيء بسيط، والاكتفاء بنسف الجسر يعني الفشل).
(إنهم لا يعرفون سبباً لهذه الحرب، وهم لا يعرفون لماذا نحارب، وكل مايعرفونه أن ثمة حربا، وإن في وسع الإنسان أن يقتل كما كان شأنه في الأيام الخوالي، دون أن يخشى العقاب).