سوريا دولة تائهة بين خطابات الداخل وحسابات الخارج

محمد محمود بشار
لا يمكن للأرض إلا أن تقول الحقيقة، إن تم قراءة ما يجري عليها بواقعية مجردة من الأيديولوجيات وخارجاً عن تأثير البروباغندا الإعلامية.
بقاء الروس عسكرياً في سوريا وتحركهم من دون أي ارتباك او أي استعجال، ومن ثم تحرك موسكو دبلوماسياً وإرسال وفد دبلوماسي رفيع المستوى إلى العاصمة دمشق، وبعدها الاتصال الذي أجراه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع الذي أكد فيها على علاقات الصداقة بين البلدين، أمور خارجة عن المألوف بحسب المشهد السوري الجديد.
حيث مازالت رائحة البارود المنبعثة من القنابل الروسية تنتشر في أرجاء إدلب ومحيطها، تلك القنابل التي كانت تحرق البشر والحجر قبل الثامن من ديسمبر وكانت مقرات هيئة تحرير الشام هي الأكثر استهدافاً من قبل الروس والنظام السوري السابق.
والتوضيح المكتوب الذي أصدره الرئيس السوري الهارب بشار الأسد من موسكو، تقاطع مضمونه مع التوضيح الذي جاء من قبل ابنه حافظ، حيث ركز الأب والابن على هذه النقطة بأن الروس أخبروهم بضرورة الخروج من دمشق والتوجه إلى اللاذقية لقيادة العمليات العسكرية.
ولكن يبدو أن أحاديث دمشق كانت عديمة القيمة في اللاذقية، وهكذا جرت العادة في حكم سوريا لخمسة عقود ونيف من الزمن، حيث العاصمة الرسمية هي دمشق، بينما عاصمة القرار الفعلي كانت اللاذقية.
إذاً هكذا تقول الأحداث التي جرت بسرعة غير معهودة، بأن الروس كانوا على دراية بما ستؤول إليه أوضاع دمشق، والذين كان لهم دور محوري في إبعاد الأسد عن دمشق ومن ثم إخراجه بشكل نهائي من سوريا وتحويله إلى ورقة للمساومة بين القيصر الروسي بوتين والأمير الشامي أحمد الشرع.
رسائل الداخل المدمرة
لم يكن يجيد استخدام مفردات اللغة، فكانت كل مفردة تخرج من سياقها لتدخل في سياق آخر ومع كل موجة من التصفيق في قاعات تجميع الحاشية، كان بشار الأسد ينتشي بخطاباته التي يبدو أنها كانت تؤثر عليه ليرى نفسه بالفعل يعيش أحلام اليقظة داخل تلك الشعارات التي كانت تأتيه بين موجات التصفيق وأكثرها دماراً كانت في مجلس الشعب السوري حين قال له أحد أعضاء المجلس: “سيادة الرئيس قليل عليك أن تحكم الوطن العربي عليك أن تحكم العالم”، لتزداد حرارة التصفيق وحينها ضحك الرئيس متخيلاً نفسه حاكماً للعالم.
اللغة التي أتقنها بشار الأسد كانت قائمة على تخوين الدول العربية وتقزيم مكونات وقوى الداخل، حتى إنه عندما أدرك أهمية العمق العربي دبلوماسياً واقتصادياً في الفترة التي سبقت إخراجه من سوريا، وحاول أن يقوم بإذابة الجبل الجليدي بينه وبين الدول العربية وعلى رأسها دول الخليج، لم يفلح في مسعاه.
في عالم السياسة المعاصرة من يصل متأخراً يقع في المصيدة، وبفعل السياسة التي مارسها الرئيس، تحولت سوريا كدولة إلى الحلقة الأضعف في الصراع السوري، حتى إنه لم ينتبه إلى المساومة التي تمت بين الدول لإخراجه من الدولة التي كان يترأسها لعقدين ونيف من الزمن، إلا بعد أن أحسّ بلفحات صقيع موسكو على وجهه الذي لم يعتد إلا على دفء قصر الشعب في دمشق.
بعد فرار بشار، جلس أحمد الشرع على نفس الكرسي معلناً نفسه رئيساً ليس لأنه يحب الرئاسة بل لأنها جاءت إليه كما قال هو بنفسه.
الرسائل التي يبعثها الشرع عبر ظهوره الإعلامي توحي بالطمأنينة، إلا أن رسائل من يحيط به من قادة سوريا الجدد لا توحي سوى بالاستمرار في التفرد بالسلطة من قبل طرف واحد وتهميش باقي الأطراف والمكونات السورية الأخرى.
يبدو أن الشرع يسير بخطى حذرة على درب سلفه الهارب، من خلال تطبيقه للفكرة التي تقول بأن الرئيس يريد الخير، بينما من يحيطون به متوحشون ولا يريدون الخير للبلد.
لغة الصمت وفصول الربيع السوري الذي لا ينتهي
السوري الذي كان صامتاً لعقود من الزمن، أدرك هذه الحقيقة إلا أنه كان مغيباً عن الشأن العام تحت تأثير تغول الاجهزة الأمنية. ولكن اليوم وبعد رؤية ما حصل لعائلة الأسد التي حكمت حوالي ستة عقود، وبعد الثورة التي وقفت على قدميها أربعة عشر عاماً، لن يقبل السوري أن تعود عقارب الساعة للخلف ليتم استبدال استبداد اعتمد على لغة العنف علناً باستبداد آخر مغلف بعبارات مثل (أنت سوري حر) و (بالحب بدنا نعمرها).
حكام سوريا الجدد يدركون تماماً مدى قوة العامل الخارجي وبعدما عاشوه في عملية ردع العدوان التي كانت بمثابة حصان طروادة للدول المتداخلة في الصراع السوري للدخول إلى دمشق بصيغة جديدة تتناسب مع واقع العالم بعد نتائج حرب السابع من أكتوبر بين اسرائيل وحماس وعلى ضوء المتغيرات التي أفرزتها صمود أوكرانيا في وجه التوغل الروسي كل هذه السنين وضرب أذرع إيران في الشرق الأوسط وعودة دونالد ترامب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية.
في هذه الدولة الحبلى بالمفاجآت والتغييرات غير المتوقعة، كل الاحتمالات قائمة. فمن يدرك قوة العامل الخارجي ويعمل على تعزيز موقعه باتجاه الغرب لن ينجو من لعنات الشرق المتتالية، حيث مازال الصامتون يشكلون الأغلبية التي تكون بالعادة عصية على الفهم والسيطرة.