النمط العائلي.. كيف ظل المجتمع الدرزي ممسوكاً بقوة؟
أيمن الشوفي
فقدت العصابات المسلحة في السويداء ذاك الزخم القديم الذي كانت تنتمي إليه، والذي أولمَ لها مذاقَ الوهم فامتلأت به مراراً، واعتقدت بأنها صارت بنيةً متفوقة على سائر البنى الاجتماعية، وقادرةً في آن على نحت أنساق الحياة وإعادة تشكيلها كيفما شاءت.
لكن وبمجرد نضوج صحوة مجتمعية حيالها، وانتقالها إلى حيّز الفعل؛ بدأت تلك العصابات بالتفكك والتلاشي، حين جوبهت من قبل فصائلَ محلية مسلحة، بدءاً من عصابة “قوات الفجر” في قرية “عتيل”، وصولاً إلى عصابة “قوات الفهد” في قرية “قنوات”. ولأن بنية المجتمع الدرزي هي بنية عائلية لا مدنية؛ سارعت عائلة “فلحوط” التي ينتمي إليها زعيم “عصابة الفجر”، منذ أيام إلى إعلان التبرئة من دمه ومن دم من معه من أفراد عائلتها، ما يعني أنهم لم يعودوا أولياء دمه بعد الآن، وهذه نهاية رابطة قبلية مهمة في مجتمع عائلي البنية والتكوين كالمجتمع الدرزي المغلق على نفسه في جنوب سوريا.
الإرث العتيق يتجدّد!
لم تصحح الظروف الموضوعية وتبدلاتها منذ بداية القرن الماضي شيئاً من بقاء الإرث العائلي، الذي هو بمثابة العامل المُتَسيّد في تكوين مجتمع الدروز في سوريا. وإلى يومنا هذا يُسأل الشخص عن اسم عائلته، ويُعامل كما لو أنه امتدادٌ لها، أو كأنها تتجسّد فيه وتحميه! تلك العائلات ومنذ هجراتها الأولى إلى جبل العرب عقب اقتتال الدروز والموارنة في جبل لبنان خلال ثمانينيات القرن ما قبل الماضي، وهي تحاول تثبيتَ هُويَّتها الدينية والإثنية في أرض جديدة.
ولأن الطبيعة الجبلية القاسية كانت تتملّك طبيعة طليعة تلك العائلات المهاجرة؛ فقد فضلوا الجبل الوعر على منطقة سهل حوران حين استقبلهم آل الحريري هناك بادئ الأمر. وفي الجبل خاضوا حربهم الأولى مع القبائل البدوية التي كانت تقطن قبلهم القفرَ الجنوبي النائي، ثم خضعوا لسلطة إمارات درزية ناشئة أخذت تتطور من عائلات امتلكت أراضٍ واسعة، وأفراداً كثراً مثل عائلات “الحمدان” ولاحقاً “الأطرش”، وكان لافتاً في ذاك الحين خضوع التراتبية الدينية إلى التراتبية العائلية في بدايات تكوين المجتمع الدرزي في السويداء، وليس العكس! فكان أول شيخ سُمّيَ “شيخَ عقل للدروز” وهو الجدّ الأول “أحمد الهجري”، وكان يعمل كاتباً لدى عائلة “الحمدان” الإقطاعية، ثم تبلورت تدريجياً مؤسسة “مشيخة العقل الدينية” لدى الدروز، وصارت مرجعيتها مستقلةً عن المرجعية العائلية، ومع ذلك بقي الفرد ملتصقاً بالعائلة وكأنها بنيةٌ لا تُمَسّ، وكأنها قدرهُ الذي لا يُمَسّ أيضاً، كما أن انغلاق مجتمع الدروز على نفسه في الزيجات والنسب؛ جعل من النزعة العائلية وكأنها التجلّي الأمثل للفضاء الاجتماعي داخل الوعي الفردي، ومكوّنه الأساسي في آن.
تلك المعادلة التي بدا من الصعب الانفكاكُ منها؛ هي التي جعلت مجتمع الدروز أكثر انغلاقاً وتعلّقاً بالرموز الاجتماعية، والاتكال على الشخصيات الدرزية النافذة تاريخياً، وجعلته أيضاً مجتمعاً متصلّباً معادياً للابتكار، وللقفزات الكبرى، وللتمايز الفردي، فلم تجد الأفكار الثورية أو الأحزاب السياسية مكاناً لائقاً لها داخل ذاك التشنّج الاجتماعي المناهض للتغيير، حتى إن “سلطان الأطرش” قائد الثورة السورية ضد الفرنسيين لم يستطع في بداية تحرّكه المسلّح سوى جمع بضعة عشرات من الرجال حوله قبل نفيهم معه إلى “وادي السرحان” على الحدود الأردنية السعودية، أي لم يكن بمقدور “سلطان الأطرش”. وبالرغم من شخصيته المؤثرة القوية والقيادية من زعزعة البنية العائلية المستقرة للدروز، والتي كانت على وئامٍ مع الفرنسيين من خلال متانة علاقات كبار رجال العائلات الدرزية آنذاك مع مندوبي وممثلي سلطة الانتداب في السويداء، قبل زعزعة استقرار تلك العلاقة وانقلابها رأساً على عقب.
العائلية والحزب القائد
استثمر حزب البعث حين استولى على السلطة في سوريا النظامَ الاجتماعي القائم على نفوذ العائلات الكبيرة عند دروز السويداء، فمكّنَ الشخصيات العائلية النافذة، وجعلها تمتلك مزيداً من أدوات السيطرة الاجتماعية. ومع وصول حافظ الأسد إلى السلطة في سبعينيات القرن الماضي؛ ازداد التمسّك بتثبيت هذا الشكل من إدارة المجتمع الدرزي، أي تحصين مراكز النفوذ العائلي، وإمدادها بمزيد من مفاتيح التأثير والقوة، وبالتالي استطاعت السلطة عزل حركة التمايز الفردي، سواء كانت فكريّةً ثقافية أم سياسية، وجعلها حالةً منبوذة من قبل العائلة بمفهومها الاجتماعي المُدمج مع مفهوم السلطة الأمنية، والتي ظهرت أيضاً بمثابة العائلة الكبيرة، حيث بمقدورها التبرُّؤ من دم كل من يَخرج عن سلطتها.
لقد ضمِنت السلطة في سوريا خلال نصف القرن الماضي شراءَ ولاء رأسِ هرم كل عائلة درزية، بحيث لا يمكن اعتبار إحدى العائلات الدرزية عائلةً معارضة بالكامل لنظام دمشق. لكن، وأيضاً، فقدت القاعدة الاجتماعية الواسعة ضمن كل عائلة أدوات التعبير الاجتماعي والسياسي عن ذاتها، فصارت كما لو أنها ملحقةٌ إدارياً برأس هرمها العائلي، المرتبط بدوره براغماتياً مع سلطة الأمر الواقع، وهذا ما جعل بلورةَ حراك اجتماعي واسعٍ ووازن في السويداء عقب ثورة عام 2011 أمراً صعباً ومعقداً من الناحية الاجتماعية على الأقل، كما أن هذا ما يفسّر مثلاً تواطؤ “لؤي الأطرش” متزعّم إمارة “آل الأطرش” في قرية “عرى”، مع عصابة “فلحوط” باعتبارها أحد أذرع السلطة الأمنية داخل المجتمع الدرزي، حين فرضوا مصالحة بالإكراه مع عائلة “سريوي” التي قتلت عصابة “فلحوط” ابنهم الوحيد قبل سنوات عدّة.
ويبدو أن الرهان على حالة اجتماعية مختلفة في السويداء لا تقوم على الهرمية العائلية المرتبطة بالسلطة القائمة، هو رهانٌ شاقٌ وصعب، يتطلب قطعاً اجتماعياً كلّياً مع الحالة السائدة والزائفة في آنٍ، ويحتاج قبل كل شيء إلى جيل جديد قادر على الثورة بالفعل.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها