إسرائيل وإيران.. وسيناريوهات الرَدِّ المتبادل
جميل رشيد
خرقت إيران القاعدة المتعارَف عليها في دول الشَّرق الأوسط “الرَدُّ بالمثل في المكان والزَّمان المناسِبَين”، واستهدفت إسرائيل بمئات الطائرات المُسيَّرة والصَّواريخ بعيدة المدى، البالستية والكروز، ردّاً على الاستهداف الإسرائيليّ لقنصليَّتها في دمشق ومقتل سبعة من قيادات الحرس الثَّوريّ الإيرانيّ فيها.
الرَدُّ الإيرانيّ مَثَّلَ رسالة قويَّة لإسرائيل ولحلفائها، وعلى رأسها الولايات المتّحدة الأمريكيَّة، في وقت ساد اعتقاد لدى جميع قادات الدّول الغربيَّة وكذلك بعض الدّول الإقليميَّة، أنَّ إيران ستطوي صفحة قتلاها كسابقاتها، فهي لم تُحرِّك ساكناً عندما قتلت الطائرات المُسيَّرة الأمريكيَّة قائد حرسها الثَّوريّ “قاسم سليماني”، واقتصر الرَدُّ على استهداف صوريّ لقاعدة “عين الأسد” الجوّيّة الأمريكيَّة العراقيَّة وعبر أدواتها من الميليشيّات الشّيعيَّة في العراق. إلا أنَّ هذه المرَّة، جاء الرَدُّ من الأراضي الإيرانيّة، ومن أكثر من قاعدة عسكريَّة، وهي بمثابة رسالة تَحَدٍّ للقوى الغربيَّة التي كانت حتّى ما قبل الرَدِّ الإيرانيّ تستخف بقدراتها العسكريّة وخاصَّةً الصّاروخيَّة، أو أنَّها اقتنعت بأنَّ إيران ستتعامل مع الاستهداف الإسرائيليّ لقنصليّتها على نحو مماثل للاستهدافات السّابقة، ولن يتعدّى حدود التَّصريحات الكلاميَّة والتَّهديد الإعلاميّ.
اللّافت أنَّ إيران لم تُقحم أيّاً من ميليشيّاتها في عمليَّة الرَدّ، فقط استهدف حزب الله الإيرانيّ ببعض الصَّواريخ منطقة “الجليل الأعلى”، وأسقطت بذلك الذَّريعة التي يرفعها بوجهها خصومها بأنَّها تعتمد على أدواتها من الميليشيّات الشّيعيَّة في تمرير سياساتها وأجنداتها في المنطقة، وتأكَّدَ أنَّها تحتفظ بهم كورقة لإشغالهم لا أكثر، وأنَّ لديها القدرة في المواجهة الحقيقيّة مع تصفها بأنَّهم “أعدائها”، ورُبَّما هذه هي المَرَّة الأولى التي تستهدف فيها إيران إسرائيل بشكل مباشر، حيث اقتصر عداءها لها طيلة السَّنوات الماضية على الصُّراخ والعويل الإعلاميّ، دون الإقدام على أيّ فعلٍ حقيقيٍّ على الأرض، رغم أنَّ إسرائيل استهدفت، ولأكثر من مَرَّةٍ، عمق الأراضي الإيرانيّة، عبر قصف المنشآت النَّوويَّة واغتيال علمائها النَّوويّين، هذا عدا الاختراقات الأمنيّة والاستخباراتيّة لمؤسَّساتها البحثيّة العلميّة وخصوصاً النَّوويَّة، ورغم ذلك صمتت إيران و”كبست على جراحها بالملح” كما يقول المثل الدّارج، فما الذي حَرَّكَ الحِميَةَ الإيرانيّة لتتجرَّأَ على إمطار سماء الدَّولة العبريَّة بوابل من أسرابالطائرات المُسيَّرة والصَّواريخ؟
سادت تكهُّنات عديدة لدى العديد من الخبراء والمحلّلين بأنَّ ما جرى لا يغدو خروجاً عمّا أطلقوا عليه اسم “اللُّعبة والتَّفاهمات” بين اللّاعبين الدّوليّين والإقليميّين في المنطقة، وأنَّ الرَدَّ الإيرانيّ على قصف قنصليّتها في دمشق كان “منضبطاً” ولم يخرج عن سياق التَّفاهمات بين الأطراف في المنطقة، وما يؤكِّدُ صحَّةَ ومعقوليَّة هذا التَّحليل أنَّ وزير الخارجيّة الإيرانيّ “أمير عبد اللَّهيان” صرَّح بعد الهجوم؛ أنَّ بلاده أبلغت واشنطن وأخطرتها بالرَدِّ الإيرانيّ على إسرائيل قبل الضربة بـ/72/ ساعة، وكأنَّه يوصل رسالة مفادها أنَّ بلاده عملت بالمثل القائل “انزوي جانباً؛ فإنَّ الحجرة التي رميتها عليك قد تصيبك وتَفُجُّ رأسك”، وكأنَّ القصف الإيرانيّ بمثابة “تحذير”، فيما هدَّد إسرائيل ثانية بأنَّ أيّ استهداف آخر لها، سيقابل بردٍّ أقوى من هذا. ولقد عملت إسرائيل وفق ذاك المثل، إذ اتَّخذت جميع تدابيرها الاحتياطيَّة والدِّفاعيَّة لتفادي الهجوم الإيرانيّ والتَّقليل من الخسائر، وأفرغت الكثير من منشآتها العسكريَّة الهامَّة، وأجرت اتّصالاتها الدّبلوماسيَّة والعسكريَّة مع الدّول الكُبرى، وعلى رأسها الولايات المتّحدة وفرنسا وبريطانيا، ونسَّقت مع عدد من دول المنطقة، وفي مقدِّمتها الأردنّ، للتصدّي للهجوم الإيرانيّ، وكأنَّها “تُعَوِّمُ” الرَدَّ الإيرانيّ، لترسِّخَ من مفهوم أنَّ الهجوم يَطال جميع الدّول وليس إسرائيل وحدها.
تمكَّنت إسرائيل من الزَجِّ بالعديد من القوى في التصدّي للهجوم الإيرانيّ، فانبرت الطائرات الأمريكيَّة والبريطانيَّة والفرنسيَّة، وكذلك الأردنيَّة، وقالت بعض وسائل إعلام إسرائيليَّة إنَّ السُّعوديَّة أيضاً انضمَّت إلى جهود التصدّي للمُسيَّرات والصَّواريخ الإيرانيّة، وبالفعل أثمر ذاك التَّعاون عن إسقاط معظم تلك المُسيَّرات والصَّواريخ في الأجواء الأردنيَّة والعراقيَّة والسُّوريَّة، وقبل أن تصل إلى الأجواء الإسرائيليَّة. ويبدو أنَّ عمليَّة الاعتراض والتصدّي كانت أقرب إلى مشروع تكتيكيّ تدريبيّ للقوى المشاركة، فهي المَرَّة الأولى التي تُخاضُ فيها مواجهة من هذا النَّوع، وكانت بمثابة اختبار لقُدُرات كلا الخصمين؛ إيران تمتحن قوَّتها العسكريَّة والصّاروخيَّة وقدراتها التَّدميريَّة، والطرف الآخر، امتحن قدراته الاعتراضيَّة وفعّاليَّة “القُبَّة الحديديَّة” التي طالما تبجَّحت بها إسرائيل، وادّعت أنَّ أجواءها آمنة ومحميَّة من كُلِّ التَّهديدات التي قد تطالها، ومن أيّ جهة كانت. ولكن تبيَّن أنَّها غير كافية وفيها الكثير من جوانب الفشل.
ولكن ما أكَّدته عدَّة مصادر إعلاميَّة أنَّ عدداً من الصَّواريخ سقطت في عمق الخصم “إسرائيل”،وفي أماكن حسّاسة ودقيقة، كما وصلت بعض الطائرات المُسيَّرة الانتحارية الإيرانيّة أيضاً وأصابت أهدافاً عسكريَّة، حيث أنَّ الكَمَّ الهائل من الصَّواريخ والمُسيَّرات؛ جعل من إمكانيّة اعتراض جميعها عمليَّة مستحيلة وفق المنطق العسكريّ، كما أنَّها خلقت حالة إرباك لدى جميع القوى التي شاركت في التصدّي لها، وبالتّالي الفشل في اعتراضها. ورغم أنَّ إسرائيل تكتَّمت على الخسائر الماديَّة والبشريَّة التي مُنِيَت بها جرّاء الهجوم الإيرانيّ، إلا أنَّ تسريبات إعلاميَّة أكَّدت أنَّ صواريخ بالستيَّة أصابت مطار “بن غوريون”، وكذلك مطارات ومواقع عسكريّة في صحراء النَّقب، وخاصَّةً مطار “نيوفاليم” العسكريّ، وأنّ الصَّواريخ والمُسيَّرات لم تسقط على أيّ منطقة آهلة بالمدنيّين، وإلا لأشغلت إسرائيل الإعلام العالميّ في فضح إيران بأنَّها تستهدف المدنيّين، ورغم ذلك لا يمكن القول بأنَّ الضربة كانت “نظيفة” ولم تُخلّف أضراراً في صفوف المدنيّين، فليس هناك حرب نظيفة على الإطلاق.
تدرك إيران جيّداً أنَّ اللَّعب مع إسرائيل يَجُرُّ وراءه مواجهة مع القوى الكبرى الدّاعمة لها، وفي مقدِّمتها الولايات المتّحدة، فضربتها كانت محدودة ومحسوبة العواقب، فهي تملك من الذَّكاء والدَّهاء السِّياسيّ والرؤية الإستراتيجيَّة ما يصدُّها عن “التورُّط” والدّخول في حرب مفتوحة مع إسرائيل وحلفائها الغربيّين.فرغم أنَّ صواريخ إيران بعيدة المدى طالت العمق الإسرائيليّ، إلا أنَّ العامل الجغرافيّ، وعدم التكافؤ في امتلاك التّقنيَّة العسكريَّة، يلعب دوراً في أيّ مواجهة مستقبليّة قد تُقدم عليها إيران مع إسرائيل، ولو أنَّها امتلكت القنبلة النَّوويَّة؛ لتمكَّنت من خلق توازن إستراتيجيّ مع إسرائيل والغرب، ولم تكن مهيضة الجناح في الدّخول بحرب مع إسرائيل، التي طالما وصفتها بأنَّها “الشَّيطان الأكبر”.
ردود الفعل على الضربة الإيرانيّة كانت باهتة، ولم تخرج عن سياق الإدانة المعهودة، وكأنَّ الدّول الغربيّة سعت للتَّقليل من شأنها عبر تجاهلها أو إهمالها وعدم إعطائها اهتماماً زائداً في إعلامها، فيما هلَّلَ لها حلفاء إيران، خصوصاً ميليشيّاتها المنتشرة في عِدَّةِ دول بالمنطقة، إلا أنَّها في جوهرها لم تخرج من إطار عرض العضلات لكلا الجانبين، دون أن يَعتدَّ بها أحد.
إلا أنَّ الحديث الآن يدور حول الرَدِّ الإسرائيليّ، فهي – أي إسرائيل – تعتبر ما أقدمت عليه إيران بمثابة إعلان حرب ضُدَّها، ويجب ألا يَمُرَّ دون رَدٍّ وعقاب لها، فهي تمتلك القدرات العسكريَّة المتنوِّعة للرد، ويذهب البعض للاعتقاد بأنَّ إسرائيل تمتلك أربعة أشكال من أسلحة الدَّمار الشّامل، وهي “النَّوويّ، الكيماويّ، الفراغيّ والكهرومغناطيسيّ”؛ وعلى الأرجح لن تتورَّط في استخدام كُلٍّ من السِّلاح النَّوويّ ولا الكيميائيّ ولا القنبلة الفراغيَّة.
وإذا ما ردَّت إسرائيل؛ فإنَّها ستستخدم القنبلة الكهرومغناطيسيَّةالتي تعمل على إصدار نبضات تؤدّي الى تعطيل شبكات الكهرباء وأجهزة الكمبيوتر، والتَّشويش على الرّادارات، تلك القنبلة التي تمتلك قدرة تدميريَّة هائلة،لتقتل البشر وتدمِّرَالحجر. ويمكن حمل هذه القنابل بالطائرات التي بإمكانها الوصول إلى أيّ مكان في إيران بعد تزويدها بالوقود في الجَوِّ،أو عن طريق حملها على صواريخ أرض– أرض من طراز “ierico– أريحا” عالية الدِّقَةِ، وهي صناعةإسرائيليّة صرفة، بالإضافة إلى استخدام طائرات “إف – 35” الحديثة والمتطوِّرة والتي قصفت بها القنصليَّة الإيرانيّة بدمشق بصاروخ زنته واحد طن.
تدرس إسرائيل خيارات وكيفيَّة الرَدّ على الهجوم الإيرانيّ وتوقيته، عبر التَّنسيق مع حلفائها الغربيّين والإقليميّين، رغم أنَّ الولايات المتّحدة تدعوها إلى “ضبط النَّفس”، وعدم التَّمادي في رَدِّها، ليتحوَّل إلى حرب شاملة في المنطقة. إلا أنَّه ولدوافع سياسيَّة لدى رئيس الحكومة الإسرائيليّ “نتنياهو”، ولرَدِّ الاعتبار لنفسه أمام شعبه؛ سيلجأ إلى الرَدِّ بشكل عنيف وسريع على الضربة، والتَّعامل بالمثل، دون التَّصعيد والذِّهاب إلى مواجهة مفتوحة ومستمرّة، ليُطوى الملفّ بعدها بشكل نهائيّ، كما ستعمد إسرائيل خلال الفترة القادمة إلى استغلال الضربة الإيرانيّة لترتيب أوراقها في غَزَّةَ، وتكمل مشروعها في تصفيّة ما تبقّى من عناصر “حماس” وتهجير الفلسطينيّين.
مثلما المزاج العام الشَّعبيّ والرَّسميّ في إسرائيل ما قبل الضربة الإسرائيلية لن يكون كما بعدها؛ كذلك لن يكون حلفاء إيران بمنأى عن الخطر والتَّهديدات والاستهدافات الإسرائيليَّة في المنطقة. فطالما ترى إسرائيل أنَّ سوريا هي الخاصرة الرَّخوة في الحلف الإيرانيّ المعادي لها، نتيجة انشغالها بأزمتها المستمرّة منذ أكثر من ثلاثة عشر عاماً، فقد تكون المواقع الإيرانيّة في سوريّا في مرمى الصَّواريخ الإسرائيليَّة، رغم أنَّ التَّواجد الإيرانيّ في سوريّا، هو من تسبَّبَ في إشعال هذا الحريق والذي قد يمتدُّ إلى المنطقة برمَّتها، إن ارتكب أيُّ طرف حماقة ما، ولكن إسرائيل ستركِّزُ بالدَّرجة الأولى على العمق الإيرانيّ، لرَدِّ الاعتبار لنفسها وغسل ماء وجهها.
رغم كُلِّ ما قيل وما سيُقال حول حرب محتملة في المنطقة؛ إلا أنَّ الثابت أنَّ تغييرات جذريَّة تطرأ على البُنى الجيوسياسيَّة فيها، وفي حمأة هذا الصراع؛ الكُلُّ يبحث عن مناطق نفوذ له، مثل تركيّا التي تتحضَّر هي الأخرى لنيل مكاسب، ولكن خسارة الكابينة الحاكمة في الانتخابات المحلّيَّة الأخيرة، لجمت طموحات أردوغان في فتح جبهات حرب جديدة في المنطقة والدّخول في مغامرات ماراثونيّة ودونكيشوتيّة جديدة.
فهل سنرى مزيداً من الحرائق في المنطقة، أم أنَّ القوى الكبرى ستشرع في ضبط كُلّ القوى المتهوّرة، لتعيد السِّياسة والدّبلوماسيَّة بناء ما دمَّرته الحروب؟ الأيام القادمة ستكشف عن سيناريوهات جديدة معدّة مسبقاً للمنطقة.