أستانا.. مسار للأزمات وتقاسم للنفوذ
محمد عيسى
اختتمت في أستانا عاصمة كازاخستان، يوم الخميس في الخامس والعشرين من شهر يناير/ كانون الثاني الحالي، الدورة الحادية والعشرين لاجتماعات الدول الضامنة في الملف السوري، والتي تضم ثلاثي كل من دول “روسيا، تركيا وإيران”.وفيما يعد جعجعة بلا طحين؛ لم تفلح هذه الدورة أيضاً كما لم تفلح سابقاتها بإحداث أي اختراق يعول عليه في جدار الأزمة السورية، غير الاتفاق على عقد لقاء آخر في أستانا نفسها، وعلى أن يُعقد في النصف الآخر من هذا العام.
كما اتفقت الأطراف الثلاثة أيضاً على عقد القمة القادمة لقادة دولها في موسكو في موعد يُحدد لاحقاً. أما كيف لامس البيان الصادر عن أعمالها المسألة السورية والتطورات الناشئة، فلا شيء غير كلام مكرور عن أن الدول المجتمعة تعتبر نفسها، وعبر هذا المحور محور أستانا، الطريق الشرعي الوحيد والفعال لحل الأزمة السورية ولتطبيق مندرجات القرار الدولي رقم /2254/، وكلام مكرور آخر عن حرص المجتمعين على وحدة الأراضي السورية، وعن أهمية توفير الشروط الملائمة لعودة اللاجئين ووصول المساعدات إليهم، ثم كيف يرون أن الصراع الناشئ بين الفلسطينيين وإسرائيل يؤثر بالسلب على الوضع السوري، وأنهم يحرصون على عدم اتساع نطاق الحرب الدائرة الآن في غزة.
تلك الحرب التي يدينون في تفاصيلها جرائم إسرائيل، ويدعون إلى وقفها تطبيقاً لقرار الجمعية العامة الأمم المتحدة، كما يدينون العمليات العسكرية التي تقوم بها القوات الإسرائيلية ضد الجماعات المحسوبة على إيران في الأراضي السورية.ويذهب البيان في مكان آخر إلى إدانة أعمال الإرهاب التي تجري على الأراضي السورية، ويردد في أكثر من بند ما يزعم أنها “أعمالاً إرهابية وانفصالية” تهدد وحدة الأراضي السورية، في إشارة واضحة إلى قوات سوريا الديمقراطية، ويعود إلى تسويق المعزوفة التي باتت مكشوفة عن تضييق يجري على حرية وحقوق العشائر العربية، في ما يعد دعوة صريحة لتبرير ضلوع دول هذا المحور في إيقاظ وتأجيج المشاعر العرقية والطائفية، وللنيل من منجزات الشعب السوري التي تحققت عبر تجربة مجلس سوريا الديمقراطية، ومن خلال سلسلة متواصلة من الحوارات الجادة والمؤتمرات الهادفة إلى تحقيق إجماع وازن ومتزايد على الانخراط بمشروع (مسد)، كطريق آمن وسالك ووحيد لخروج السوريين بجميع مكوناتهم من أزمتهم إلى دولتهم الواحدة الإئتلافية التعددية والديمقراطية اللامركزية.
فهذا اللقاء في أستانا،وللمرة الواحدة والعشرين، يعزف على نفس الآلة ونفس النغمة، وينسب لغيره أسباب فشله ونضوب جعبته من أية حلول للأزمة السورية ولأزمات مواطنيه وأزمات المنطقة.ولأن التجربة وتطور الصراعات وتداعياتها قد كشفت أن لقاءات أستانا لا تعدو أن تكون لقاءات أطراف مريضة ومأزومة، ومصالحها غير متوافقة في جميع الملفات التي تسعى للتعاضد حولها، فهي نظم ودول تعاني من صدوع ذات طبيعة اجتماعية وأخلاقية في الغالب، وهي في العادة كما المرضى حين يتلاقون لا يصدرون أمراضهم، وليس أدل على ذلك أكثر مما ينضح به المشهد الإيراني، باعتباره اليوم الراقص الأول على مسرح الحروب والتوترات التي تشهدها ساحات الشرق الأوسط وميادين.
إن إيران الدولة ومشروعها الإسلامي الفارسي، والأطراف والجماعات التي عبّأتها لخدمة مشروعها خلال العقود الأربعة الماضية، وبعد تفجر الحرب في غزة؛ أصبحت على المحك وتعاني من مآزق عديدة، ليس لأن إسرائيل قد قررت الدخول في صراع تناحري مع مشروعها الكبير فقط، بل لأن إيران نفسها قد تضخمت لديها مشاعرغرور القوة، فباتت تضرب ذات اليمين وذات الشمال، هي ذاتها مشاعر الصلف التي تصاب بها كل الأنظمة الشمولية عشية سقوطها، وحين تدخل في مهام ومواجهات مع أطراف تفوق قدراتها
فالهوس الإيراني الذي بدأ مع انطلاق ثورة الخميني بفكرة تعميم نموذجها على شعوب المنطقة من بوابة الزجّ بهم بمعارك تحرير “المقدسات”، واستدعاء قيم وأمجاد الماضي لتشكيل المستقبل، قد أدى إلى ما وصلت إليه الأمور في معارك غزة، وماهذه الفجائع غير أمثولة لما يحصل في لبنان وسوريا واليمن وباقي المناطق، فالطرف الإيراني اليوم وهو يلعب دور قطب الرحى في محور أستانا كلاعب رئيسي؛ لديه وحده كلمة السر التي تأخذ الشعوب الإسلامية إلى طريق الخلاص، فإنه في الواقع يأخذها ويأخذ شعبه إلى مزيد من المغامرات والأوجاع والمآسي.فبعد الكارثة التي أوقع الإيرانيون فيها شعب غزة؛ يأتي اليوم الدور على الشعب اليمني الواقع تحت نفوذ الحوثيين، الذين دفعهم التحريض الإيراني إلى ممارسة أعمال القرصنة في البحر الأحمر وتعريض الملاحة والتجارة العالمية إلى مخاطر وخسائر جسيمة، وكان لها ارتدادات متلاحقة.فبعد النشاط القتالي للأمريكان والبريطانيين ضد تجمعاتهم؛ جاء اليوم التحذير من قبل الصين الشعبية، والذي جرى توجيهه من قبل الخارجية الصينية للحكومة الإيرانية، كي تتحمل مسؤولياتها وتستخدم نفوذها لوضع حد لانفلات الحوثيين.هذا التطور الذي كان قد سبقه تطور آخر من قبل مؤسسة الجيش في باكستان، والذي تمثل بهجوم قوي داخل إيران، مع تحذير شديد كردٍّ على التهوّر الإيراني المستمر بافتعال الصراعات داخل أراضي باكستان.
ولما كانت هذه هي خلفية الدور الإيراني، خلفية قائمة على توريط الشعوب بمعاركها وأوهامها؛ فمن البديهي أن هداياهم للشعب السوري وأزمته هي تحويل الساحة السورية إلى مكسر عصا مع الأمريكان والإسرائيلي.وعلى نفس الخطا يجري المركب العثماني، شريك “الأستانيَين” الآخرين في كذبة الحرص على وحدة الأراضي السورية.فمن سخرية القدر أن يكون هناك أفراداً يمكن أن تمرّ عليهم مزحة الدور التركي المتقاطر دوماً إلى أستانا لأخذ دوره في إنقاذ الدولة السورية من براثن الإرهاب والتقسيم، هذا الدور الذي لا يُخفى على أعمى في الدنيا. إنه الضالع الأول، وربما الأوحد، في خلق أزمة السوريين قبل أي طرف آخر، هذا الطرف يرتكب جريمته ويريد من ضحاياه أن يقتنعوا بأنه هو الضحية وهم المذنبون.
الأتراك الإخوانيون وأصحاب التاريخ الأسود بحق الشعوب التي شاءت سخرية القدر أن تربع أجداد أتراك (العثمانيون) على حكمها يوماً، يريدون اليوم أن تصدق هذه الشعوب وهم يقصفون بطائراتهم المسيرة كل مرتكزات الحياة، من بنى ومنشآت ومحطات مياه، وتهجير وتتريك وتذويب للسكان الأصليين،ويريدون من شعوب ومكونات المنطقة أن تصدق أنهم كانوا في طريقهم إلى أستانا من أجل البحث عن أيسر الطرق المؤدية إلى إنقاذ السوريين وحماية حدود الدول المتاخمة لحدودهم من حمى “الإرهاب”. وليس هذا وحسب؛ بل من القضايا البليغة في حجم تنافضها،أن المتلاقين جميعاً على مأدبة أستانا، في تناقض بينيٍّ حاد فيما بينهم حول مقاربتهم للمشكلة السورية، بمن فيهم الروس، صنّاع مسرحية أستانا ومبتكري طريقها.
الروس الذين أوقدوا النار تحت طبخة أستانا لم يكن في طبختهم في السنتين الأخيرتين غير موضوع مهم واحد يحظى بجل اهتمامهم، ويدور حول الدفع بخطة مصالحة سورية تركية بين نظام الأسد وأردوغان،والتي من شأنها أن تؤمن مصالح أردوغان وتمتص أزمته الداخلية على حساب السوريين. مصالحة انهمك البيان الختامي للاجتماع الأخير بالتركيز– وكما في اللقاءات السابقة– على أولويتها، لم تكن، ولأسباب عديدة، غير طبخة بحص.