ارتدادات التغول الإيراني في المنطقة
محمد عيسى
رغم انتقاد الرئيس الأمريكي “بايدن” لسياسة سلفه “ترامب”، والتي كانت قد اتبعت حيال الموقف من إيران في ملفات عديدة، بدءاً بكلامه في2يناير/ عام 2020، والذي انتقد فيه إقدام حكومة “ترامب” على اغتيال “قاسم سليماني” قائد “فيلق القدس” ومرافقيه، مشبهاًإياها بمن يضع إصبع ديناميت في برميل بارود،ثم انتقاده أيضا لسياسة الانسحاب الأمريكية من طرف واحد من الاتفاق النووي الموقَّع مع إيران، ومحاولته العودة إلى مفاوضات جديدة حول الملف ذاته.
ومع تسريع إدارته لموعد الانسحاب الذي وقعته حكومة “ترامب” من أفغانستان، فإن ذلك لم يكن له مردود كاف عند الإيرانيين وفي أوساط الإسلاميين ولدى الدول التي تتبنى نهجاً إسلامياً كتركيا مثلاً، في التعامل مع التطورات والأحداث الجارية في المنطقة العربية والإسلامية، بل بدأوا يسوّقون منذ فترة لبروباغندا إعلامية مفادها أن انسحاباً أمريكياً من كامل المنطقة بدءاً بالعراق وتالياً في سوريا، بل تراجعاً أو هزيمة أمريكية، قد صارت ممكنة وعلى بعد مرمى حجر من أن تحصل، ويجب العمل والتعاون مع أطراف دولية أخرى لتحقيق هذا الهدف.
على هذه القاعدة، وفي سياق هذا النهج، تراكمت جملة من التطورات والوقائع من طرف محور ما دعي بـ”المقاومة والممانعة” الإيراني، والذي أصبح لاحقاً محور اًإسلامياً عاماً بعد انضمام تركيا إليه في الخفاء، وبعد بروز مشاركة روسية خجولة، أحياناً حين يتعلق الأمر بمواجهة مع إسرائيل، وعلنية حين يتعلق الأمر بترتيبات الوضع السوري وحيال ملفات أخرى في المنطقة.
ومباغتة “كتائب القسام” والفصائل الجهادية الإسلامية لإسرائيل يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي آلمت إسرائيل كثيراً، والتي حاولت إيران التنصل من أبوتها لها لاحقاً، وما هي إلا عنواناً على سيطرة قناعة عند الإيرانيين وشركائهم بأنها معارك قد بدأت وهي كفيلة بتحقيق هدفين، الأول إزالة إسرائيل، والثاني طرد الولايات المتحدة من المنطقة.
فالحرب في غزة وردة الفعل الأمريكية والأطلسية الحاسمة والسريعة تجاهها، والتي تجلت بحشد هائل للبوارج والقوى العسكرية في شرق المتوسط ومنطقة الخليج، قد أربكت محور “الممانعين” كثيراً، رغم بروز تعارضات بين الرؤية الإسرائيلية والأمريكية حول شكل الحرب وهدفها النهائي، وحول مستقبل غزة في اليوم التالي لنهاية الحرب، وحيث تحبذ السياسة الأمريكية وضعاً جديداً لغزة تكون فيه سيطرة لحكومة “عباس”ويمهد لحل القضية الفلسطينية على مبدأ حل الدولتين، وبما ينسجم مع القرارات الدولية ذات الصلة.
تسعى حكومة “نتنياهو” اليمينية والمتطرفة إلى استثمار اللحظة وتوظيف التأييد البدئي العالمي، إلى تصفية القضية الفلسطينية وتهجير السكان في غزة وفي بعض مناطق الضفة الغريبة.
ورغم كل تلك التباينات؛ يمكن القول إن إسرائيل وبالاعتماد على الدعم الأمريكي، قد نجحت في الشق الأول من الحرب، في إحباط شعار وحدة الساحات وفي إفراغه من مفاعيله الكثيرة، وأخذت وقتها المفتوح لتنفيذ خططها في مواجهة “حماس”،وتحويل هذه المواجهة إلى طقس يومي دائم وطويل، مع بعض التبريد في حرارته على شاكلة الحرب في أوكرانيا، وأيضاًأبقت على حالة استعداد قصوى لتوسيع محتمل لنطاق الحرب إلى الجبهة الشمالية مع حزب الله في الجنوب اللبناني، ومع الوجود الإيراني في الأراضي السورية، وقد تبدى ذلك عبر تصاعد وتيرة المواجهات المتبادلة مع حزب الله في لبنان، وتصاعد عمليات الاغتيال والاستهداف لكوادر قيادية من مكونات المحور، لم يكن آخرها اغتيال “العاروري” الرجل الثاني والأهم في حركة “حماس”.
ولأن الشهية الاسرائيلية والرأي العام المؤيد للحرب وحالة التعبئة لقوات الاحتياط مازالت مستمرة، فقد تكون إيران ومحور مقاومتها الإسلاموي الذي دخلت إليه تركيا على المكشوف، بعد تنامي شعور القلق لديها من التواجد العسكري الأمريكي في البحر المتوسط، وبعد الأزمة الدبلوماسية الأخيرة بين أنقرة وتل أبيب، قد يكون استنتج متأخراً أنه لا مناص من العودة إلى تكتيك وحدة الساحات، ولأنه قد يكون لمس تراخياً من إدارة “بايدن” في عامها الانتخابي، والتي تسعى لإدارة الصراع بطرق لا تؤدي إلى توسيع الحرب.
إلى ذلك سيكون المحور بصدد الضغط على إسرائيل والولايات المتحدة في جميع الجبهات، بدءاً بتحريك الحوثيين لتسعير القرصنة البحرية وتعطيل التجارة العالمية عبر البحر الأحمر ومضيق باب المندب، بعد أن أومأت لهم بإطلاق عدة صواريخ على إسرائيل،وردت عليها إسرائيل بشكل قوي باستهداف مستودعاتها ومنصات إطلاقها للصواريخ، مروراً بالقصف على المدنيين في أربيل، وأخيراً وليس آخراً ضرب مواقع في باكستان، تقول إيران إنها مواقع استخبارات إسرائيلية، ثم قيام باكستان برد عنيف عليها طال الأراضي الإيرانية في إقليم “سيستان” المواجه لإقليم “بلوشستان” الباكستاني، حيث طال مواقع لجيش تحرير “بلوشستان” المعارض والذي تحتضنه إيران. هذا الرد، الذي تقول تقارير،إنه جاء بقرار من مؤسسة الجيش الباكستاني، ودون أخذ الأذن من الحكومة الباكستانية ويطال مناطق خارج الخطوط المعتادة، والتي أمريكا نفسها لم تعتد على تجاوزها.
وإذا أضفنا إلى مسلسل التصعيد الذي شرعت إيران ومحورها في تنفيذه، أن ضرراً اقتصادياً كبيراً سيصيب الاقتصاد المصري أيضاً جراء تعطيل الملاحة في البحر الأحمر. كل ذلك يوحي بأن محور إيران ينتهج نهجاً جديداً منفلتاً ومتهوراً ضد شعوب ودول عديدة، وقد يكون أدخل المنطقة في أتون مواجهة كبرى غير محسوبة جيداً.
وعلى هامش هذا التطور الذي حمل تحذيراً باكستانياً بالغ الدلالة لإيران، وإذا أضفنا إلى هذه الواقعة التطورات والمواجهات التي أصابت الحدود الإيرانية مع حركة طالبان في العام الماضي، عندما حذرت الحركة بتنفيذ اجتياح شامل للأراضي الإيرانية، يتضح المعنى التاريخي لتوقيت الانسحاب الأمريكي المباغت من أفغانستان في أغسطس/ آب من عام 2021، ذاك الانسحاب الذي فسره كثير من دعاة الممانعة على أنه إشارة على بداية هزيمة أمريكية ستتوالى فصولها، بينما يستنتج أي دارس متعقل أنه تكتيك فضلت فيه الولايات المتحدة بألا تلعب دور “حلال مشاكل” دول المنطقة وخاصة مشاكل الروس والإيرانيين، وهي بانسحابها لم تكن غير من يقلد لاعب المصارعة الرومانية الذي ينسحب من أمام الخصم، ولم يعد في مواجهته من يهدئ من اندفاعته، فيقع أرضاً بفعل العطالة في الفيزياء.
فهذا التخبط الإيراني والمتمثل باستباحة مباشرة من قبلهم أو عبر أذرعهم لحدود دول عديدة، من بينها سوريا، العراق، لبنان واليمن، اليوم دولة باكستان القوية وذات القدرات النووية، والذي في الغالب كان مسكوتاً عنه.هذا التخبط الذي قد يكون تفاقم إلى حدود التورط المباشر مع المجتمع الدولي وإلى مرحلة الصدام مع المصالح الاقتصادية لدول كبرى في العالم، حيث جاء الرد على الحوثيين من خلال قيام القوات الأمريكية والبريطانية بشن غارات يومية، وبالعشرات، على مواقعهم داخل الأراضي اليمنية، كما يجري العمل على تشكيل تحالف دولي واسع النطاق يتمركز في مياه البحر الأحمر للجم الحوثيين وتأمين سلامة الملاحة البحرية فيه.
فعلى هذا النحو ووفق هذا الإيقاع؛ يدفع محور “المقاومة والممانعة” بمصير الدول والشعوب الواقعة تحت نفوذه، إلى مصير مجهول بعد أن ساقتها إلى مكابدة كل صنوف القهر والجوع والمعاناة تحت وهم تحرير “المقدسات” ومواجهة الشيطان الأكبر.
وعلى المقلب الآخر؛ وفي القاطرة التركية لقطار الممانعين المنهمكين بتنفيذ أجنداتهم القومية تحت رافعة الإسلام، لم يتوانَ السلطان العثماني في أنقرة عن تأليف نسخته الخاصة بفكر الممانعة، فيوعز لمسيّراته وآلته الحربية،أن تغير طريقها إلى غزة نحو شمال شرق سوريا، فتعيث فساداًوخراباً بالقرى والمنشآت الحيوية ومحطات المياه والكهرباء ومراكز الخدمات الصحية، في مواطن السكان السوريين الكرد بقصد تهجيرهم على طريقة “نتنياهو”، وليس هذا وحسب، بلتتوالى ومنذ فترة حلقات التعاون والتآمر مابين أطراف محور الممانعين الأتراك والإيرانيين للإيقاع بوحدة الشعب السوري وتأليب العشائر العربية على تجربة مجلس سوريا الديمقراطية.
نخلص إلى نتيجة تؤكدها التجربة، مؤداها أن الممانعين تحت سقف الإسلام السياسي، وبجميع ألوانهم، لا يقدمون رؤية وطنية واضحة لوطن معافى ينعم أبناؤه بالكرامة والعدل والحرية والسلام، بل تقدم الدولة ذات الهوية القومية الإسلامية الممانعة اليوم، سواء في تركيا أو إيران أو من يحذو حذوهما، نموذجاً نمطياً من إدارة الدول تسود فيه فئة من المجتمع على حساب فئات أخرى، وتستبعد من لا يتقاطع مع عرقها أو دينها وطائفتها من أي دور في حياة الدولة والمجتمع.هذا النمط من الحكومات والدول لا يختلف في شيء عن الدولة التي يدّعي أنها قد جاءت لمجابهتها. فإسرائيل تحت حكم “نتنياهو” تمارس تطهيراً عرقياً بحق العرب تحت دعاوى وأفكار دينية وعرقية، ولا يختلف عنه في شيء أردوغان أو خامنئي في إيران، فجميعهم يحكم بتفويض من السماء، وجميعهم ضالع بتصدير أزماته وتحميل فشله على خصوم مفترضين خارج حدوده وداخلها.