الحياة في ظل الحرب.. لعبة الحصار من جهة والحدود المفتوحة من جهة أخرى
محمد محمود بشار
في الفترة التي سبقت الربيع العربي، كان المواطن الذي لم يكن لديه أقارب في أجهزة الدولة، والقصد هو دول الربيع العربي، قد تحول إلى كتلة من العقد والمشاكل ويعيش في حالة من اليأس. لذلك عندما جاء الربيع كانت هناك انفجارات غير متوقعة، فكان لسان حال المواطن يقول: “الشاة المذبوحة لا يؤلمها السلخ”.مما لاشك فيه بأن أي حرب عندما تدخل عقدها الثاني، ومن دون أن يكون هناك أفق واضح للحل، فإن التكلفة ستكون كبيرة على المواطن قبل الوطن، وتفقد الدولة سيادتها، الأمر الذي يجعلها ساحة مفتوحة للتدخلات الخارجية ولمفاجآت داخلية لم تكن متوقعة أبداً.
المشهد المعقّد لحروب الربيع العربي، أفرز وضعاً أكثر تعقيداً مما كان عليه الوضع في السابق، حيث كان هذا الربيع نتيجة للفساد وتغول أجهزة الدولة والأزمات المعيشية التي كانت تعصف بالمواطنين شمالاً ويميناً من دون رادع أو رقيب.
دمشق والحروب اللامنتهية
باتت الحرب السورية من الحروب اللامنتهية، كانت هناك ساعة صفر للبداية، ولكن يبدو أن النهاية غير محددة بأي توقيت أو أي فترة زمنية، فكل المعطيات الداخلية والخارجية تشير إلى طول أمد هذه الحرب.حيث خطاب دمشق مازال نفس الخطاب الذي كانت تتبناه عند بداية هذه الحرب، والمعارضة لا لون وشكل محدد لها، وتشظّت المعارضة كما تتشظى القذائف التي كان ومازال يتم إلقاؤها على رؤوس السوريين.في المحصلة مازال صوت المدافع والبنادق هو الصوت الأعلى والأكثر سطوة على المشهد السوري العام.
كل الاتفاقيات التي حصلت، وخاصة اتفاقيات آستانا، كانت خارجة عن الإرادة السورية، وبشكل أدق لم يكن هناك أي وجود سوري فعلي في النقاشات التي دارت بين الثالوث “الآستانوي”، ولم يكن للسوريين بمختلف تسمياتهم أي حضور في اتخاذ القرارات في العاصمة الكازاخية، التي ضاقت ذرعاً هي أيضاً بهذا الملف الشائك الذي من الصعب جداً إغلاقه.
مع إطالة أمد الحرب؛ باتت دائرة الأصدقاء تضيق يوماً بعد يوم، وبالمقابل توسعت دائرة الدول والأطراف المتداخلة في الصراع السوري والتي تسعى إلى قضم حصتها من الكعكة السورية.
إستراتيجية فرض الحصار وحرب الحدود المفتوحة
مارست كل الدول المتداخلة في الصراع السوري هذه الإستراتيجية، فكان الحصار سيد الموقف، الكل يحاصرحسب قوته ونفوذه، فباتت سوريا تئن تحت هذه الحصارات الخارجية المختلفة.
ولكن ما زاد الطين بلّةً، هو أن السوريين أنفسهم باتوا يحاصرون بعضهم البعض، حيث كانت–ومازالت– دمشق تسعى لفرض الحصار على المناطق الخارجة عن سلطتها، والمعارضة المدعومة تركياً باتت تفرض طوقاً ضد المناطق التي لا تخضع لحكمها وحكم الأتراك.
المنطقة الاكثر تعرضاً لنيران الحصار كانت مناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، فمن جهة حكام دمشق، ومن جهة أخرى أطراف المعارضة المؤتمرة بأوامر أنقرة، وحتى الأتراك بشكل مباشر من خلال بناء الجدار العازل على الحدود وإغلاق كل المنافذ البرية التي كانت في السابق معابر رسمية بين البلدين في هذه المناطق.
أدت هذه الحصارات المختلفة والخانقة إلى الضغط أكثر على المواطن السوري، وعلى مستوى كل مناطق النفوذ المختلفة، فباتت الأعين ترقب الضباب الذي من شأنه أن يجعل الرؤية أوضح بالنسبة للسوريين ليعبروا كل هذه الحدود المغلقة والمحصّنة بالجدران والأسلاك الشائكة والألغام والمتخمة بحرس الحدود.
لحد الآن ليس هناك أي رقم رسمي يعبّر عن الواقع الديمغرافي في سوريا بشكل عام، ولكن وبحسب الإحصائيات الأممية السابقة والمعطيات الجديدة على أرض الواقع، فإن أكثر من نصف الشعب السوري بات خارج الحدود في عداد اللاجئين والمهجّرين.
وتشير المعطيات إلى أن هذا العدد في ازدياد مستمر، أي أن نفس الأطراف التي مارست إستراتيجية فرض الحصار، هي نفسها جعلت الحدود مفتوحة أمام الهجرة، وبالتالي إفراغ العديد من المناطق من سكانها الأصليين.
تسلسل الحروب والجديد منها يُهمِّشُ القديم
في ظل اشتداد وطيس المعارك وارتفاع مستويات العنف في العديد من دول العالم، قلّ التركيز دولياً وإعلامياً على الحرب السورية، ولكن الحرب بقيت كما كانت.
يهتم الإعلام العربي حالياً بالأرقام التي تأتي من غزة، بينما الإعلام الغربي يركّز على الأرقام التي تأتي من تل أبيب، حتى الرئيس الأوكراني بات يشتكي من قلة الاهتمام بحربه من قبل رُعاة الحرب الدوليين.
يبدو أنه في تسلسل الاهتمامات الدولية باتت سوريا لا تحتل المركز الأول كما كانت قبل الحرب الأوكرانية، وزاد من تهميشها الحرب بين إسرائيل وحماس في غزة، فباتت الأرقام السورية غائبة عن شاشات التلفزة التي باتت تصدم متابعيها بأرقام الحرب الجديدة.
إلا أن هناك أرقام تتجه نحو العملقة من دون أن تهتم بها المؤسسات الإعلامية الدولية والعربية، وهي أرقام اللاجئين التي تزداد في كل ليلة وكل يوم، فالسوري الذي كافح لعشرات من السنين وأفنى زهرة شبابه في العمل من أجل شراء منزل كي يعيش فيه مع أسرته، يقوم ببيع هذا المنزل بنصف قيمته الحقيقية، كي يسلك طريق الهجرة، وغالباً ما يكون هذا الطريق محفوفاً بالمخاطر.
فهناك من انطلق في ليلة ضبابية، متجاوزاً كل تحصينات الحدود ليصل إلى غابات إحدى الدول الأوروبية، ومن ثم ليعود جثة هامدة في تابوت عبر المطارات أو المعابر الرسمية التي كانت مغلقة بوجهه عندما كان على قيد الحياة.
والسؤال الأكثر دهشة واستغراباً هو: هل على السوري أن يموت كي يحصل على ختم رسمي في المطارات والمعابر الرسمية؟