(مسد).. عناوين واستحقاقات سياسيّة
جميل رشيد
جاء المؤتمر الرّابع لمجلس سوريّا الدّيمقراطيّة (مسد) أواخر الشَّهر المنصرم؛ ليشكِّلَ منعطفاً هامّاً في مسيرته السِّياسيّة التي تمتَدُّ لأكثر من سبع سنوات، ويضع المجلس أمام استحقاقات وطنيّة وداخلية هامَّة، لطالما ظَلَّ يؤكِّدُ على سوريّته في كُلِّ مناسبة.
إنَّ عقد المؤتمر في مدينة الرِّقَّة التي كانت في يوم ما عاصمة مزعومة لدولة “داعش” الإرهابيَّة، له دلالاته ورمزيَّته لكُلِّ سوريٍّ غيورٍ على وطنه. فالرِّقَّة باتت تُمثِّلُ واسطة العقد في نشاط الإدارة الذّاتيّة و(مسد)، إضافة إلى مجرَّدَ انعقاده فيها؛ فنَّدَت كُلّ المزاعم التي تتَّهم الإدارة بالمشاريع الانفصاليَّة، باعتبار أنَّ الرِّقَّة ذات طابع عربيّ أكثر ممّا هي كُرديّة أو غير ذلك.
المراجعات التي خَلُصَ المجلس إليها في قراءاته للوضع السِّياسيّ والعسكريّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ في سوريّا والمنطقة والعالم؛ تضمَّنت نقاطاً لافتة؛ لعَلَّ أبرزها استعداده لإبداء المزيد من الانفتاح على القوى الوطنيّة والدّيمقراطيَّة داخل سوريّا وخارجها، وكأنَّه وجَّهَ نقداً ضمنيّاً إلى آليّات عمله خلال الفترة الماضية، وإن لم يُفصِح عنها بشكل مباشر، إلا أنَّه استعرض مجمل نشاطاته وعمله بين المؤتمرين الثّالث والرّابع، مركّزاً على الحوارات مع أطراف عديدة من المعارضة السُّوريّة الدّاخليّة والخارجيّة.
غير أنَّه، ومن خلال الوثيقة السِّياسيّة المُقدَّمة للمؤتمر، شَدَّدَ على فتح قنوات التَّواصل والحوار مع مختلف القوى الوطنيّة والدّيمقراطيّة بما فيها الحكومة السُّوريّة، لإطلاق حوار وطني سوريّ–سوريّ بنّاء، ودون وضع شروط مُسبَّقة، ومن أيّ طرف كان. ورُبَّما تشهد المرحلة اللّاحقة مفاجآت تحمل معها تطوّرات على صعيد تقارب وجهات النظر بين قوى سياسيَّة معارضة سوريّة في الدّاخل أو الخارج، وتتقاطع مع الأفكار التي طرحها (مسد) في مؤتمره، وتكون بادرة لفتح باب الحوار بين السُّوريّين ككُلّ.
كما أنَّ تغيير الهيكليَّة التَّنظيميَّة لدى المجلس، أضفى عليه مزيداً من الدّيناميكيَّة السِّياسيّة، حيث ألغى “الهيئة التَّنفيذيّة” وأبقى على المجلس الرّئاسيّ، الذي يعتبر مراقباً لأداء وعمل الرَّئيسين المشتركين وكُلِّ نشاطات المجلس بفروعه العديدة في الدّاخل والخارج، ورُبَّما هذا التغيير الجديد سيساهم في تنشيط الأطر التَّنظيميّة الأخرى للمجلس، ويجعلها أكثر فاعليَّة وقوَّةً مستقبلاً.
إنَّ الإشارات التي وردت من السُّويداء المنتفضة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، برغبتها نسخ تجربة الإدارة الذّاتيّة في مناطقها، وتواصل الحركات السِّياسيّة في السُّويداء، وكذلك مشيخة العقل ورجال الدّين، مع مجلس سوريّاالدّيمقراطيّة، إنَّما تُجسِّرُ الهُوَّة التي تشكَّلت بين أبناء الوطن الواحد عبر سنوات الأزمة، وتُعيد تفعيل الدَّور الوطنيّ للقوى الدّيمقراطيّة، البعيدة عن مظاهر التمذهب الطائفيّ والدّينيّ والإثنيّ، وتبلور رؤية وطنيّة ناصعة، تُشكِّلُ النواة لاستقطاب القوى الوطنيّة والدّيمقراطيّة وكُلّالسُّوريّين، لوضع برنامج حَلّ الأزمة السُّوريّة، دون إملاءات أو شروط من أيّ قوّة أو طرف كان، ودونما تدخّل خارجيّ.
في هذا السِّياق جاءت الدَّعوة التي وجَّهها الفنّان السُّوريّ الثّوريّ “سميح شقير”، والذي ينحدر من السُّويداء، للحراك الثَّوريّ في مدينته بضرورة التَّحاور مع الإدارة الذّاتيّة و(مسد)، إلا أنَّه تعرَّض لهجمة شرسة من أدعياء الثَّورة السُّوريّة، والذين يعتبرون أنفسهم أوصياء عليها، ويجب أن يحظى أيّ حراك سياسيّ أو دبلوماسيّ بموافقتهم، فيما هم ارتضوا أن يتحوَّلوا إلى بيادق ومرتزِقة بيد الاحتلال التُّركيّ. فالحملة الموتورة التي شَنَّها بعض الشَّخصيّات التي انفصلت عن سوريّتها، قوبلت باستهجان كبير من قبل العديد من المثقفين والدّيمقراطيّين على طول الوطن السُّوريّ، وأجمعت أنَّ الطريق لحَلِّ الأزمة السُّوريّة هو الحوار بين الأفرقاء المختلفين، وحتّى مع من كان حتّى الأمس القريب يناصبك العداء ويسعى لإنهائك.
دعوة الفنّان “شقير” تلتقي من حيث الأفكار والتوجّهات مع المبادئ السِّياسيّة الأساسيَّة التي أعلن عن مجلس سوريّاالدّيمقراطيّة في مؤتمره، ولاقت صداها في الأوساط السِّياسيّة الوطنيّة السُّوريّة، عبر انضمام العديد من تلك القوى إلى (مسد)، ليغدو تحالفاً وطنيّاً عريضاً له حضوره في الدّاخل والخارج، بحيث لا يمكن تهميشه وإقصاؤه من أيّترتيبات مستقبليَّة في سوريّا لحَلِّ أزمتها.
لا شَكَّ أنَّ انضمام قوى وشخصيّات وطنية لها وزنها السِّياسيّ داخل سوريّا وخارجها، سيساهم في إضفاء مزيد من القوّة والديناميكيّة السِّياسيّة للمجلس. فانتخاب الدّكتور “محمود المسلط” رئيساً مشتركاً له، إضافة إلى انضمام الشّيخ “هفل جدعان الهفل”، أحد شيوخ قبيلة “العكيدات” إليه، إنَّما يعتبر رافعة للمجلس ويزيد من تنوِّعه. فالدّكتور “المسلط”، وبحكم شخصيَّته الأكاديميَّة وعلاقاته الدّوليّة المتشعِّبة، خاصَّةً مع صُنّاع القرار في الولايات المتّحدة، سيتمكَّن من فتح أبواب ونوافذ جديدة أمام المجلس، ليحدث انطلاقة دبلوماسيّة نوعيَّة، عنوانها الرَّئيس زيادة النَّشاط الدِّبلوماسيّ مع مختلف القوى ودوائر صناعة القرار السِّياسيّ العالميّ في الغرب.
كما أنَّ “المسلط” وبحكم علاقاته العائليَّة مع عائلة “آل سعود” الحاكمة، لديه القدرة على بناء علاقات متينة مع المملكة العربيَّة السُعوديَّة ودول الخليج، ما يوسِّع من دائرة العمل الدِّبلوماسيّ للمجلس ويضيف مداميك أخرى على ما تَمَّ بناؤه سابقاً، ليتحوّل (مسد) إلى قوَّة فاعلة ومنصَّة ذات شأن في معادلات حَلِّ الأزمة السُّوريّة النهائيّة.
كما أنَّ الدّكتور “المسلط” وبحكم انتمائه إلى عشيرة “الجبور” الواسعة الانتشار في سوريّا والعراق والسُعوديَّة، لها ثقلها ووزنها من حيث قدرتها على زيادة اللُّحمة المجتمعيَّة بين مختلف عشائر المنطقة، خاصَّةً بعد الأحداث التي شهدتها دير الزور قبل نحو ثلاثة أشهر. فوجود شخصيّة مثل الدّكتور “محمود المسلط” في رئاسة مجلس سوريّا الدّيمقراطيّة، يمنحها زخماً مجتمعيّاً ضمن البيئة العشائريَّة في المنطقة، وإذا ما أضفنا إليها الثَّوابت الوطنيّة والمجتمعية التي أقرَّها (مسد) في مؤتمره الأخير؛ فإنَّ الطريقَ ستكون مُمهَّدَة أمام المجلس، بالتَّعاون مع الإدارة الذّاتيّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، ليعيد الأمن والاستقرار في المناطق التي شهدت توتّرات عشائريّة بفعل تدخُّلات الحكومة السُّوريّة والميليشيّات الإيرانيَّة.
غير أنَّ النُّقطة التي أثارت حساسيةً لدى البعض، كانت في علاقات “المسلط” مع تركيّا، سابقاً. ورغم أنَّ هذه المسألة لم تتوضَّح بشكل جليٍّ، إلا أنَّسياق استقالته من المجلس الوطنيّ السُّوريّ ومن ثُمَّ الإئتلاف لاحقاً، يُبيّن بكُلّ وضوح أنَّه على خلاف مع الجماعات التّابعة لتركيا. ورغم تأكيده في لقاء له على قناة “اليوم” التّلفزيونيَّة أنَّه على استعداد للتَّواصل مع جميع القوى والأطراف، لكن يبدو أنَّ نوعاً من الجفاء يطغى على علاقاته مع تركيّا وقيادتها. ويبدو أنَّ (مسد) أيضاً يعقد آمالاً عليه في إذابة الجليد بينه وبين تركيّا، لإطلاق حوار جدّي بينهم، رُبَّما يفتح الآفاق أمام انسحاب تركيّا من الأراضي التي تحتلُّها،ويلملم أشتات المعارضة السُّوريّة الممزَّقة تحت سقف واحد. ورُبَّما يتمكَّن الدّكتور الاستفادة من وجود عَمِّه الدّكتور “سالم المسلط” في تركيّا، الرَّئيس السّابق للإئتلاف في مَدِّ جسور الثِّقة بينه وبين مجلس سوريّا الدّيمقراطيّة، يفضي إلى صيغة تحالفيَّة جديدة على أرضيَّة العودة إلى الثَّوابت الوطنيَّة.
فإن كانت المؤتمرات بالنِّسبة للأحزاب والتَّنظيمات، محطّات هامَّة لإجراءالمراجعات وإعادة تصويب الأهداف ووضع البرامج والإستراتيجيّات والتَّكتيكات المرحليَّة والمستقبليَّة؛ فإنَّ (مسد) ومن خلال مؤتمره، أعاد تدفُّق الدَّمِ إلى شرايين عمله، رغم الانتقادات التي طالته من بعض ممثّلي القوى المنضوية تحت رايته، والتي طالبت بمشاركة جماعيَّة في اتّخاذ القرار، وألا يكون وجودهم في المجلس صُوريّاً، وأن يَتُمّ مناقشة جميع المسائل السِّياسيّة ضمن المجلس الرّئاسيّ، ويُتَّخذ فيها القرار بالأغلبيَّة، دون استئثار أيّ طرف به.
إنَّ رهان السُّوريّين اليوم معقود على “معجزة” تنهي مأساتهم المستمرّة منذ أكثر من ثلاثة عشر عاماً، وترسي بوطنهم إلى بَرِّ الأمان، فرغم تدهور الأوضاع السِّياسيّة والعسكريّة والاقتصاديَّة في سوريّا، يتطلَّعُالسُّوريّون إلى بصيص أمل من مناطق الإدارة الذّاتيّة وقواها السِّياسيّة الفاعلة، وعلى رأسها مجلس سوريّاالدّيمقراطيّة. وحتّى بشهادة المناوئين للإدارة؛ فإنَّ مناطق الإدارة تعتبر الأكثر أمناً واستقراراً في سوريّا.