مجدداً الشرق الأوسط على صفيح ساخن
محمد عيسى
طور جديد وصراعٌ دامٍ غير مسبوق دخل إليه المشهد السوري ومحيطه الإقليمي، وأعاد كل شيء إلى المربع الأول.
طور جديد من حرائق ومجازر وحروب لا توفر المدنيين أو ليس في قاموس مشعليها أي احتساب أو اعتراف بوجود مصطلح العزل من النساء والأطفال الأبرياء.
وإذا كان الحريق الأول قد وضع حجر أساسه العدو التركي صبيحة يوم الخميس الخامس من هذا الشهر؛ عبر إطلاقه لأكثر من خمسة عشر طائرة مسيرة عملت على تدمير محطات المياه والكهرباء والمشافي ومرافق البنية التحتية الضرورية لحياة السكان في مدن وبلدات شمال وشرق سوريا، بدءاً بالحسكة والقامشلي وديريك،ومروراً بكوباني، وليس انتهاءً بقرى ومخيمات منطقة الشهباء وتل رفعت، وضمن حملة تهدف، بحسب زعمه،إلى معاقبة قوات سوريا الديمقراطية، وعلى خلفية ما اعتادت الآلة الإعلامية الأردوغانية على دبلجته من أكاذيب بعد عملية أنقرة أمام مقر أمني تابع لوزارة الداخلية التركية.
وعلى نحو متصل بتطورات العدوان التركي الذي أوقع خسائر بشرية في صفوف المدنيين، مما يؤكد المسعى التركي لإخلاء السكان وإجراء تطهير عرقي وتغيير ديمغرافي، يقضي باستبدال الكرد بالموالين من البيئة الإسلامية الإرهابية الموالية له من اللاجئين في تركيا، فإنه يفسر تواتر الغارات واستمرارها، وسط الحديث عن التحضير لشن عملية برية تركية كثر الحديث عنها، وقد تكون اصطدمت بتحديين مهمين، الأول بروز مقاومة واضحة ومتنامية لقوات سوريا الديمقراطية وقوات تحرير عفرين، أوقعت عشرات القتلى في صفوف الجيش التركي خلال الأيام والساعات الماضية، حيث أزيلت بعض النقاط التركية المتواجدة على الأراضي السورية من الوجود.
والتحدي الثاني؛ يتمثل تبلور موقف أمريكي أكثر حزماً تجاه عدوان المسيّرات التركية، تجلى بقيام إحدى المقاتلات الأمريكية من طراز “إف–16” بالإقلاع من قاعدة “إنجرليك”بتركيا، ثم إسقاطها مسيرة بيرقدار التركية، ما يعد رسالة مختلفة في معانيها للجانب التركي.
ويتتبع مسلسل الحرائق المستجد، ولا يسع المراقب إلا أن يقف طويلاً عند المحطة الأبرز في المشهد الجهنمي اللغز وفصل الإجرام الأكثر سفحا ودموية في حمص، خلال حفل تخريج دفعة من طلاب الكلية الحربية وبحضور أهالي الخريجين وذويهم، هذا الحفل الذي جرى برعاية وحضور وزير الدفاع السوري، والذي قد غادر المكان مع مرافقيه قبل حصول المجزرة بدقائق معدودة، حيث قام الطيران المسير الذي كان يحلق في أجواء المنطقة باستهداف الحفل في إجراء غادر، أصاب عسكريين عزل وذويهم، والذي خلف المئات بين قتيل وجريح جلهم من النساء والأطفال، عجزت المشافي عن استيعابهم، وكادت تعجز عن تأبينهم وتحضير مراسم دفنهم، نظراً لمعاودة الطيران المسير محاولات الإغارة على المشافي التي احتوت جثثهم أو مكث فيها من تبقى من الجرحى على قيد الحياة.
هذه المجزرة المروعة أصابت المجتمع السوري بكم هائل من ردات الفعل والمخاوف والأسئلة، ولابد أنها أيقظت في الذاكرة واقعة مجزرة المدفعية، والتي كانت قد أقدمت عليه قوى التطرف الإسلامي ممثلة بتنظيم “الطليعة الإسلامية المسلحة”، جماعة “مروان حديد” المنبثقة عن حركة الإخوان المسلمين في آخر سبعينات القرن الماضي.
وبعيداً عمّا أحاط بهذه الجريمة النكراء من تفسيرات؛ فلابد من الإشارة إلى أن الرواية الرسمية قد أشارت بأصابع الاتهام إلى الجماعات الإسلامية الإرهابية المدعومة من بعض الدول، وكانت قد سمت جماعة “الحزب الإسلامي التركستاني” المدعوم من تركيا، فيما أن الناطق باسم مركز المصالحة الروسي كان قد حذر قبل ساعات من الواقعة، من تحضير الجماعات الإرهابية المسلحة في إدلب وريف اللاذقية وحلب، وسمى “التركستاني وأنصار التوحيد”، لشن هجوم بالصواريخ على الاحتفال الذي يفترض أنه في منطقة شديدة التحصين وتتمتع بدفاعات جوية كبيرة وبحضور إيراني واسع في الأرض وفي المطارات، ما دفع الكثير من المواقع إلى توجيه الاتهام لإيران بالضلوع في المجزرة.
وبمعزل عن ترجيح أية فرضية من الافتراضات المتداولة؛ فلا يجوز تبرئة فصائل الإرهاب السياسي المُحتَضَنة من كلا الفريقين التركي والإيراني، وفق ما عكسته التطورات التي رافقت زوبعة الفتنة في أحداث دير الزور الأخيرة، والتباكي من قبل كلا الجانبين على مصير “العنصر العربي” ومصير “العشائر العربية” في المنطقة
وضمن السياق نفسه، ولضرورة وضع النقاط على الحروف في لحظة مفصلية من تاريخ المنطقة؛ فيمكن الجزم ودون الوقوع في خطأ كبير، أن هذه الحرائق والمعارك والصدوع التي يجري التجديد لها في حياة المجتمع، وما يمكن ان يلحق بهالاحقاً من تداعيات خطيرة في غير مكان، لاشك أنها تجري على خلفية التنافس الحاد بين مفهومين وفكرتين، وبالتالي محورين، في النظر للواقع والأولويات في المنطقة، الأول يقول بأولوية الحلول السياسية القائمة على الأسس الديمقراطية والعدل واحترام وتطبيق القوانين الدولية وعبر الحوار، وتشارك فيه جميع المكونات والأطراف، وصولاً إلى مخارج تلبي حاجات الشعوب التنموية الحضارية والحقوقية،وهو محور تزداد شعبيته باستمرار ولم يعد ينظر أو يقبل بأية تبريرات أوحجج في تأخير استحقاقاته، وصار يتنامى استياؤه من الأدوار الدولية للمتدخلين في شأن ومستقبل سوريا والمنطقة، ويخص في تحفظات الإيرانيين والأتراك والروس الذين لكل منهم أجندته الخاصة على الأرض السورية، والتي لا تلامس بأي شكل الحاجات الملحة لأبناء المنطقة.
ومحور آخر تسوق له تركيا وإيران وروسيا ومن يدور في فلكهما من تنظيمات وحركات يسارية أحياناً، لكنفيجُلّها إسلامية، ويلح على أن مشاكل المنطقة والمجتمعات منبعها المؤامرة الدولية التي ترسم فصولها في أمريكا وفي إسرائيل، وأن خلاص هذه الشعوب لا يمكن تحقيقه إلا عبر الانخراط في أعمال المقاومة والاندماج في مشاغل وبرامج هذه الأطراف، وهي في مطلق الأحوال تبرّئ نفسها من أية مسؤولية أو أدوارسلبية وكأنها لم تسطو على الموارد والمرافق ولا شأن لها بالكبتاغون وسطوها على الجغرافيا العربية إن كان في سوريا أو العراق أو غيرها، وبأنه”تفويض من الإله”،أو أنها تهدف إلى لإنقاذنا من خطر المثلية التي يسوقها لنا الغرب، بحسب زعم الروس.
بِهَديٍ من هذه المُسلَّمة، مُسلَّمة أن الخطر هو على الدوام يأتي من الضفة الإسرائيلية والأمريكية، يصل بنا محور المقاومة إلى المحطة الثالثة والانفجار الأكبر،حيث نفذت– ومازالت تنفذ– الفصائل الإسلامية الجهادية الغزاوية، ومنذ الساعات الأولى لصباح السبت، عملاً قتالياً ناجحاً ومفاجئاً للقوات الإسرائيلية تحت اسم “طوفان الأقصى”، نجحت من خلاله “كتائب القسام” الجناح العسكري لـ”حماس” من اختراق خطوط الدفاع الإسرائيلية والوصول إلى عشرات المستوطنات والمواقع العسكرية الإسرائيلية، ما أدى إلى قتل وأسر مئات الجنود والمستوطنين المدنيين بينهم ضباط كبار، في خطوة أذهلت الإسرائيليينوأصابت المستوى السياسي والعسكري بصدمة كبيرة لم تعرفها إسرائيل منذ عام 1973 في القرن الماضي،أو ربما تكون أشد إيلاماً وخطراً من صدمة حرب أكتوبر تلك.
هذا الاختراق الذي يعد إنجازاً غير مسبوق للفصائل الفلسطينية، بحسب تقارير المعلقين والخبراء المتابعين، قد وضع الدولة العبرية أمام خيارات صعبة للغاية، وأمام واقع هزيمة استخباراتية وميدانية لا لُبس فيها، الأمر الذي فرض على الحكومة الإسرائيلية التي تحاول استيعاب الصدمة، إعلان حالة الحرب ووضع الدولة العبرية ضمن ظروفها، حيث صدقت الحكومة المصغرة على قرار رئيس الحكومة “نتنياهو” الذي أعلن أن إسرائيل أمام مهمتين، الأولى، السيطرة على المستوطنات في غلاف غزة، والتي سيطر عليها المقاومون الفلسطينيون وتحريرها منهم.والثانية؛أن الدولة في حالة حرب شاملة مع غزة، ما يعني إعلان حالة الطوارئ العامة في إسرائيل ودعوة الاحتياط ووضع مرافق البلاد وإمكانياتها تحت تصرف الجيش.وبالفعل فقد تم استدعاء ثلاثمائة ألف من قوات الاحتياط، في أكبر عملية تعبئة عرفها تاريخ إسرائيل.
كل ذلك يجري بالتوافق مع استعدادات على جبهة الشمال اللبنانية تحسباً لانخراط حزب الله في المواجهة، الأمر الذي يستدعي الحيطة والتحسب في كل ذلك بأن خطوة الهجوم على العمق الإسرائيلي واقتياد أسرى مدنيين بهذا الحجم إلى قطاع غزة قد لا يكون فقط شأنا إسرائيلياً بحتاً؛ بل قد وضع إسرائيل،ولأول مرة في تاريخها، أمام أخطار جسيمة، ووضع المجتمع الدولي أمام مسؤوليات جديدة، ما عكس الآية، بدل أن يكون الفلسطينيون هم من يجب حمايتهم من بطش آلة الحرب الإسرائيلية، أصبح اليهود هم بنظر كثيرين في المجتمع الدولي من بحاجة إلى الحماية، وعلى رأس كل ذلك يأتي الموقف الأمريكي الذي استشعر الخطر المحدق بإسرائيل،حيث تعتبره خطراً على نفسها.وقد جاءت تصريحات الرئيس بايدن صريحة وحاسمة في هذا التوجه، حين أوعز لحاملة الطائرات الأضخم بالتوجه إلى قبالة إسرائيل، كإجراء يحمل أكثر من رسالة، وكتطور خطير جداً يمكن أن تكون له تداعيات كبرى لا يمكن التكهن بمداها وبحجمها الآن.