(قسد) أمامَ امتحانٍ من نوعٍ آخَرٍ
جميل رشيد
تَشهَدُ مناطق ريف دير الزور الشَّرقيّة تطوّرات وأحداث متسارعة، تزامناً مع العمليّة التي أطلقتها قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة تحت اسم “تعزيز الأمن” لملاحقة ما تبقّى من فلول تنظيم “داعش” الإرهابيّ، وكذلك المُهرّبين وتجّار ومروِّجي المُخدِّرات في المنطقة.
غير أنَّ التوتّر الذي تشهده المنطقة؛ إثر اعتقال قائد مجلس دير الزور العسكريّ “أحمد الخبيل/ أبو خولة”، بعد تزايد الشكاوى ضُدَّه من أهالي المنطقة، وإقدامه على ترهيب الأهالي وترويعهم، إضافة إلى اعتقال الأشخاص بشكل عشوائيّ دون وجه حَقٍّ أو أيِّ تُهمة صريحة موجَّهة لهم، وممارسته عمليّات التَّهريب مع مناطق سيطرة قوّات الحكومة السُّوريّة، خاصَّةً النَّفط والمُخدّرات، حسب بعض المصادر في المنطقة، دفعت قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة إلى اعتقاله أو وضعه تحت الإقامة الجبريّة.
إنَّ الهالة الوهميّة التي خلقها المدعو “أبو خولة” حول نفسه، بأنَّه يمتلك نفوذاً وقوَّةً عسكريّة ويستند إلى دَعمٍ عشائريٍّ عريضٍ في المنطقة، وإعلانه مؤخَّراً “إمارة” خاصَّةٍ به، وتتويج نفسه “أميراً” عليها، وَسَّعَ من حِدَّةِ الانتقادات الموجَّهة إلى قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، بأنَّها تركت الحبل على غاربه، ليفعل “أبو خولة” ما يشاء ويتمرَّدَ على تعليمات القيادة العسكريّة التّابع لها، رغم أنَّها ليست المَرَّة الأولى التي يعلن فيها خروجه عن الخطِّ العام لـ(قسد)، حسب بعض التأكيدات ومن مصادر موثوقة، بل تكرَّرت محاولاته العبثيّة في التَّلاعب بمصير المنطقة، ليسلك سلوكاً أقرب إلى عمل العصابات منها إلى القوّات المنضبطة الذي طالما اتَّسمت بها قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة منذ نشأتها وإلى اليوم.
ورغم أنَّ المدعو “أبو خولة” لا وزنَ عشائريٍّ وسياسيٍّ وحتّى عسكريٍّ له، ولا يُعتَدُّ به بين الوجهاء ورؤساء العشائر، إلا أنَّ بعض الأطراف المعادية للإدارة الذّاتيّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، تحاول إثارة فتنة طائفيّة وعرقيّة في المنطقة، وتحاول الاصطياد بالمياه العكرة، وتضخيم المسألة وترك انطباع وتصوير لدى عامَّة الشَّعب والسُذَّج بأنَّها خلاف بين “الكرد” و”العرب”، داعية في الوقت نفسه جميع العشائر العربيّة لشَنِّ الهجمات على نقاط ومقرّات قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة.
بعض هذه الأصوات النشاز صدرت من طرف الحكومة السُّوريّة، وأخرى من قبل دولة الاحتلال التُّركيّ والمرتزقة التّابعين لها في المناطق المُحتلَّة، لركوب الموجة والاستثمار في الأزمات، دون التفكير بمصير المنطقة وسوريّا، ودون أن تُبدِيَ أيَّ احترامٍ لدماء السُّوريّين.
لا شَكَّ أنَّ قيادة (قسد) تتعامل بحكمة وطول أناةٍ وصبر مع الحدث، فهي لم تتّخذ قرارها بإعادة ترتيب وضع قيادة مجلس دير الزور العسكريّ، إلا بعد التَّشاور مع الوجهاء وشيوخ العشائر في المنطقة، ومنحت “أبو خولة” فرصاً عديدة لتصحيح سلوكياته ومساره، وأيُّ قرار تتّخذه (قسد) في النهاية ستنعكس نتائجه بالتأكيد إيجاباً على أهالي دير الزور، وستذهب كُلّ تلك الرِّهانات على اندلاع اقتتال داخليّ بين صفوف قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة أدراج الرّياح، فمثلما عَوَّل البعض على إعادة إحياء تنظيم “داعش” الإرهابيّ من خلال التَّسهيلات التي قدّمها له بتنفيذ الهجوم على سجن الصناعة بالحسكة، وأحبطتها (قسد) وتمكَّنت من تطويق الحدث وفرض الأمن والاستقرار في المنطقة، كذلك سيكون بمقدورها تجاوز هذه الزَّوبعة التي أثارتها بعض الأطراف والقضاء عليها وهي في مَهدِها.
التحدّيات التي تواجهها (قسد)، ومن جميع الأطراف؛ تجعلها في حالة يقظة تامَّةٍ، فالاحتلال التُّركيّ لا يتوانى عن استهدافاته المستمرّة على جميع مناطق شمال وشرق سوريّا، ويحاول النَّفخ في كُلِّ صغيرَةٍ بهدف إضعاف الإدارة الذّاتيّة و(قسد)، فيما الأطراف الأخرى تتحيَّن الفرصة لفرض سيطرتها على كامل المناطق التي حرَّرتها (قسد) بدماء أبناء المنطقة، ووضع يدها على خيراتها وثرواتها، والتضييق على الإدارة، وبالتّالي القضاء عليها. إلا أنَّ السِّياسات التي انتهجتها الإدارة و(قسد) عبر سياسة الاحتواء والاعتماد على دعم القاعدة الشَّعبيّة الواسعة في جميع المناطق، مكَّنتها من تفويت الفرصة على جميع المتربِّصين بها، والضرب بِيَدٍ من حديد على كُلِّ أدواتهم داخل مناطقها، وفرض الأمن والاستقرار فيها.
إنَّ كشفَ شبكات العملاء والجواسيس العاملين لصالح الاحتلال التُّركيّ في المنطقة، ونشر اعترافاتهم للرَّأي العام، وكذلك تحصين بنيتها التَّحتيّة والعسكريّة، أضفى على الإدارة و(قسد) مزيداً من القوّة ومنحها القدرة على إحباط مخطَّطات الأعداء، وتُعَدُّ محاولة المدعو “أبو خولة” إحداها، وبالتأكيد ستكون كسابقاتها. ولا يمكن بأيِّ حالٍ من الأحوال التَّقليلَ من شأن مواقف رؤساء ووجهاء العشائر في دعوتهم لضبط سلوك “أبو خولة” وأمثاله، وهي مَهمَّة وواجب يقع على عاتق قيادة (قسد)، ولا يمكن تأجيلها وتسويفها بأيِّ شكل من الأشكال، لأنَّها باتت تشكِّلُ خطراً على مستقبل المنطقة، خاصَّةً بعد أن كشفت بعض الجهات المغرضة عن دعمها لهذه المحاولة اليائسة.
لا يمكن إسقاط الجانب السِّياسيّ عن هذه الحركة والتي جوهرها يتمثَّل بتشتيت اهتمام قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة عن محاربة إرهاب تنظيم “داعش”، فهو مسعى يَصُبُّ في سياق مَدِّ طوق النَّجاة للتَّنظيم الإرهابيّ، وما دعوة أحد الأشخاص بإنشاء تحالف ما بين المدعو “أبو خولة” وتنظيم “داعش” الإرهابيّ والاحتلال التُّركيّ ومرتزقته، إلا محاولة مكشوفة لضرب قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، ويبدو أنَّ الأخيرة أدركت مرامي تلك الأطراف، وأطلقت بالتَّزامن معها عمليّة للقضاء على خلايا “داعش”، وتعتبر ضربة موجّهة لكُلِّ مخطَّطات وجهود استهدافها من الدّاخل والخارج.
إنَّ ظاهرة “أبو خولة” وأمثاله تتكرَّر في كُلِّ الثَّورات، ولكن بأشكال مختلفة، إلا أنَّ تعامل القوى الثَّوريّة معها في الزَّمان والمكان المناسبين، يُعتبر أهمَّ من الظاهرة نفسها، وثورة روجآفا وشمال وشرق سوريّا تمتلك خبرة لا بأس لها في كيفيّة التَّعامل مع هكذا ظواهر، انطلاقاً من فَهمها الصحيح لها، وكذلك قدرتها على استيعابها بالشكل المناسب، دون أن تثير أيَّ ردودِ فعلٍ عكسيّةٍ، أو تتركَ آثاراً سلبيّةً في محيطها، فهي في النِّهاية لا تغدو إلا ظاهرة فردية، ولا يمكن النَّظر إليها إلا ضمن هذا المنظور، ولا يَصُحُّ تعميمها وتحميلها أبعاداً أكثر ممّا تحتمل، أو إسقاطها على الواقع العشائريّ والقَبَليّ السّائد في المنطقة، وما يدلِّلُ على هذه الرّؤية الصّائبة تبرّؤ معظم العشائر منه، بل المطالبة بوضع حَدٍّ لتجاوزاته غير القانونيّة والأخلاقيّة. فحتّى عشيرته التي ينتمي إليها تبرَّأت من أفعاله، وأعلنت عن عدم مسؤوليّتها عن تصرُّفاته وأعماله بحَقِّ أبناء المنطقة، وهو بنفسه تجاوز أعراف العشيرة وقيمها، رغم محاولة بعض الأشخاص المتورِّطين معه في بعض الأعمال القذرة التمسُّك بالعشيرة، كسبيل للنَّجاة بأنفسهم من المحاسبة والعقاب.
إنَّ تركيز قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة على كفاحها المستمرّ ضُدَّ الإرهاب، والتصدّي لهجمات الاحتلال التُّركيّ ومرتزقته، لا يعني أنَّها لا تولي أهميّةً في تمتين جبهته الدّاخليّة و”غربلة” صفوفها من الانتهازيّين والفوضويّين والتصفويّين، بل على العكس، إنَّها تعطي الأولويّة لبناء هيكليّتها وفق الأسس والمبادئ التي وضعتها لنفسها، وتُجري تغييرات مستمرّة في صفوفها، إضافة إلى إلحاق عناصرها وقياداتها بالدَّورات التَّدريبيّة السِّياسيّة والفكريّة والعسكريّة، وهو ما يُعَدُّ الضمانة لاستمراريَّتها وفق النَّهج المُتَّبع لديها، ويُحصِّنُ صفوفها ويمنع تسلل الأعداء إليها.
لا يُساور أحداً الشَكَّ بأنَّ (قسد) قطعت شوطاً كبيراً في مأسسة قوّاتها، لتكون أقرب إلى القوّات العسكريّة النِّظاميّة، واستطاعت أن تدمج قوّاتها المختلفة في هيكليّة واحدة تعمل وفق نظام داخليّ واضح، يُحدِّدُ المهام والواجبات، لتتمكّن بموجبه الحفاظ على تماسكها وتنظم عملها العسكريّ، إضافة إلى خلقها مساحات واسعة أمام الشَّخص في صفوفها ليطوِّر مهاراته وإبداعاته، فمثلما هي قوَّةٌ منضبطة بشكل جيّد، فإنَّها في ذات الوقت تُبدي مرونةً كافيةً أمام الأفراد لتطوير أنفسهم، وهذا ما جعلها صامدة أمام كُلّ محاولات النَّيل منها. فما كشف عن زيف ادّعاءات أعدائها، هو القناعة المتولّدة لدى كُلِّ فَردٍ من أفرادها، إضافة إلى الرّوح الوطنيّة العالية السّائدة بينهم، وهي وحدها القادرة على دحر كُلّ مساعي أعدائها في النَّيل منها أو إضعافها.