سوريا.. وانتقال الصراع من الوكلاء إلى الأصلاء
محمد عيسى
لحظة تاريخية حرجة يمر بها الوضع في سوريا، وربما تكون مفصلية في حياة المنطقة بكاملها.فبعد ربيع كان حافلا بالمبادرات وخطوات التقارب بين أطراف ودول مختلفة في المنطقة العربية وفي جوارها الإقليمي، وبعد محطات التفاهم التي كان الوضع السوري أحد أهم مواضيعها، وما سبق من محاولات لتجسير الهوّة بين دول الخليج العربي وإيران، نجد أنفسنا كأفراد وشعوب ودول وقوى سياسية، وقد وقعنا في أتون صيف حار للغاية، وعلى جميع المستويات والمقاييس الطبيعية منها والسياسية، حيث تتكدس في سوريا وحولها عوامل انفجار واسع النطاق وتنذر بتداعيات خطيرة لا يمكن التنبؤ بحجمها ونطاق تفاعلاتها.
صيف غير مسبوق بسخونته لا تقسو فيه الطبيعة فقط، حيث درجات الحرارة لامست الخمسينات في أجزاء واسعة من سوريا، ولتندلع الحرائق في كثير من المناطق، وحيث تكاد تنعدم الوسائل والكهرباء لدرء خطر ارتفاع الحرارة على حياة السكان؛ بل تقسو معها قوانين السياسة أيضاً، ويصبح من سوء طالع السوريين أنه بالإضافة إلى مكابدتهم ظروف المجاعة والمرض والفوضى والحرمان، أصبحوا يكابدون قلق الموت في بيوتهم، جراء حروب تجري على أرضهم أو قد تنفجر في أية لحظة، لا مصلحة لهم بها ولا تخدم أياً من تطلعاتهم.
حروب الآخرين على الأرض السورية، هي الجملة التي صارت تتردد على كل لسان، حيث شاءت الجغرافيا وشاء قدر السوريين الأحمق، الذي من شأنه أن عطل الرؤية الإستراتيجية التي ترسم وطناً للأمن والرخاء عند أغلب النخب اللاعبة أو المؤثرة في صنع القرار وفي كل الاتجاهات وعند جميع الأطراف،أقله حتى الآن.ولا يجادل أحد اليوم بأن صراعاً عالمياً بين قوى تتنافس على قيادة العالم؛ تصفي حساباتها أو تداور حروبها وتختبر أسلحتها فوق رؤوس السوريين وفي سمائهم أو من على مياههم الإقليمية.
وبعيداً عن الحجج أوالمسبّبات، ووفق اتفاق جميع المتابعات؛ تشير الوقائع إلى تبلور محورين دوليين أساسيين متناحرين، في الخفاء المواجهة بينهما لم تصبح مباشرة بعد، لكنها توشك أن تقع بين دول وكيانات موقفها يتقلّب بين المحورين ولم يحسم تصنيف موقفها بعد.وعلى نحو شديد الوضوح؛ يتمترس الأمريكي وإلى جانبه إسرائيل وحلفاء عرب ومحليون بموقع الصدارة وفي خانة من يريد أن يدافع عن مكانته في ريادة العالم وعن مصالحه ورؤيته لشكل العالم ومستقبله.
يتمترس الإيراني والروسي ومعهم قوى محلية كحزب الله وبعض المنظمات الجهادية كحماس والجهاد الإسلامي على المسرح الدولي،وبعض الدول على شاكلة كوريا الشمالية وإريتريا.أما الصين؛ فعلى نحو خجول وكثيراً ما تمتنع عن التصويت في المحافل والمؤسسات الدولية، وهي في خانة المواجهة وفي موقع القطبية ودور الممانع، وإضافة إلى أنه هناك من يشاء أسلمة المنطقة وفق منطقه وتحرير القدس ووفق فلسفة ميكيافيلية لا يهم فيها الأسلوب، وتشرعن في سبيل تحقيق ذلك إنتاج وتسويق الكبتاغون وغيره، ومن يريد أيضاًأن يحارب المثلية كأولوية لا تقبل التأجيل، ووفقا لما بات يزعم به أو يكرر بوتين.
أما من يقع في موقع من لم يحسم موقفه تماماً بعد في عملية الاستقطاب الجارية على المسرح السوري، فلاشك أن تركيا أردوغان من يشغل بدون منازع هذا المكان، وقد يكون موقف سلطات دمشق من يحتمل المناقشة والتدقيق.
وعند هذا المستوى من تشخيص واقع الاستقطاب ونذر الانفجار في الحالة السورية، وعند ما تُقرّه مشاهدات الحشد المتبادل على ضفتي نهر الفرات وفي قطاعه الجنوبي الشرقي، مع الأخذ بعين الاعتبار سعي كلا الفريقين الإيراني والأمريكي لتكوين حاضنة من العشائر العربية للقتال إلى جانبها ضد الطرف الآخر، ومما يعد لافتاً عند هذه النقطة، ووفق ما تثبته التقارير الإخبارية؛أن الولايات المتحدة تُعِدُّ ومنذ فترة عدة فصائل كـ”جيش الثوار” في “التنف” وقوات ما تدعى بـ”الصناديد” لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، ومن ثم إغلاق طريق طهران بغداد دمشق عليه.وحيث يعمد الطرف الإيراني بتجييش مقابل ومنذ فترة للعشائر، وتحت رافعة الأسلمة والتشييع، فيمكن الجزم بأن المجابهة الحاسمة لم تعد تخميناً؛ بل إنها معركة قد تكون بدأتبأشكال مختلفة، وما غارات إسرائيل شبه اليومية على المواقع الإيرانية، وتلك المحسوبة عليها، داخل الأراضي السوريةغير تطعيم وتصعيد متدرج نحو المجابهة الكبرى التي يجمع مراقبون كثر على حتميتها.
وإذا كان ما سبق يعكس معادلات الواقع الموضوعي القائم على الأرض ومعطيات اللوحة السورية وفق أي مقاربة أولية أو عملية رصد أفقية للصورة، إلا أن إتيان اللوحة والتأمل بها من منظور بانورامي،أو وفق متابعة وتدقيق في عمق الحدث السوري، تدفعنا إلى الاستنتاج أننا أمام تصنيف أولي لمحاور الصراع وقد لا يكون نهائياً. وكما هو شأن الصراعات التي تُحدِثُ انعطافاً في التاريخ، ولمجرد أن تبدأ؛ فإنها تحدث قوانينها الخاصة وتغيير اتجاهاتها وأطرافها،أو قد تولّد صراعات من نوع آخر وبين أطراف آخرين، وذلك مع تصاعد وتيرة الصراع.وتدور الملاحظة هنا حول آفاق الموقف الروسي، وضرورة ملاحظة أنه غير يقيني حتى النهاية في خوض المعركة مع إيران إن وقعت، لأنه في طور شراكة مصالح وقتية ولا تجانس كبير على المدى الطويل، والشيء نفسه وبمعدلات أشد حدية مع تركيا أردوغان، فيما لو شاءت الظروف أن ينجح اللقاء المرتقب بين بوتين وأردوغان في إحداث اختراق تميل اتجاهات الريح إلى القول إنه ميؤوس منه.
وبالعودة إلى الحروب القائمة،أو تلك التي تُجمع تقارير المتابعين أنها توشك أن تقع أو تنشب انطلاقاً من الساحة السورية نحو مديات أوسع وأشمل، فستستوقفنا جملة من المواقف والمؤشرات ذات الدلائل والمعاني الكبيرة، وسوريا تقع في رأس هذه القضايا.
فرغم أن الحرب الأهلية المندلعة على الأرض السورية منذ أكثر من عقد من الزمن، وتتطور الآن إلى مواجهة بين محورين متنافسين على مستقبل سوريا وشكلها، ورغم نجاح بعض مهندسيها ومطلقيها الدوليين باستقطاب بعض الأطراف العشائرية او الطائفية هنا أو هناك،إلا أنه يمكن تسجيل حقيقة مؤكدة؛ هي أن هذه الأطراف قد أصبحت بلا قاعدة شعبية تذكر، وتتآكل فئة أتباعها باستمرار بين السوريين، وأصبح الانطباع السائد أنها حرب الآخرين على حسابنا، وأصبحت البيئة الوطنية بأمسِّ الحاجة إلى المشروع الوطني المستقل والمنطلق من اللوازم والأبجديات الوطنية قبل أي اعتبار.
وفي مناخ تتكالب فيه القوى الخارجية على اقتناص حقوق السوريين وتتحول فيه مدنهم وأراضيهم إلى مطلق سلة من الهدايا يتبادلونها فيما بينهم، وتصبح فيه عفرين على سبيل المثال أو رأس العين أو غيرها للتركي مقابل صفقة أو موقف في الحرب الأوكرانية، أو تنازل في مسألة ما أو مكان ما. وانطلاقاً من تفاقم حالة العوز الشديد لدى حاملي المشروع الوطني ومروّجيه؛ يكتسب موقف قوات سوريا الديمقراطية الأخير والرافض للانخراط في سعير التكتلات الناشئة الأخيرة ما بين المحور الإيراني الروسي ومابين المحور الأمريكي الغربي، ليس أهمية خاصة فحسب، بل يشكل مع غيره من المبادرات والسلوكيات والجهود أساساً فائق الأهمية ويمكن التأسيس عليه في أي خطة يضعها السوريون،أو يتفقوا عليها لتجاوز أزمتهم وتحقيق خلاصهم ممن يتربص بحياتهم ويتحكم بمصيرهم.
ودائماً وفيما يتصل بالموقف المتفرد والمسؤول لقوات سوريا الديمقراطية ومجلسها السياسي مجلس سوريا الديمقراطية من التطورات المحتملة على الساحة السورية، فلا شك بأنه سيلعب دوراً، ليس فقط في تشكيل النواة الجدية للمشروع الوطني السوري الجامع، لا بل سيجيب على كثير من الأسئلة التي التبست بذهن السوريين لفترة والتي عمد أعداء الشعب السوري على إشاعتها بقصد تضليلهم وحرف حركتهم عن خط تحالفاتها الفعالة والصحيحة.
لاشك أنه سيكون للموقف آنف الذكر تداعيات إيجابية عديدة على صعيد الدفع بفكرة الحوار الوطني الجاد بين الأطراف السورية المختلفة، وعلى نحو خاص على صعيد المفاوضات بين (مسد) والسلطات السورية في دمشق.
بعد كل ذلك لن يكون الأمر رجماً بالغيب وليس تخميناً إذا قلنا إن الأمر أو أية حرب قد تنشأ الآن يمكن أن تتطور لاحقاً إلى حرب وطنية سورية، يتآلف فيها السوريون في مناطق سيطرة النظام، وبالتعاون الوثيق مع قوات سوريا الديمقراطية وفي المعارضة الوطنية، وبدعم أو بتشجيع غير مستبعد من الطرف الروسي المتألب من نكوص أردوغان، وبالاعتماد على ما يمكن أن تفرزه تطورات المواقف الدولية والأمريكية من مستجدات حول السياسة التركية المتذبذبة، يمكن الاستنتاج أنه في قادم الأيام قد تولد اصطفافات ومواقف قد لا تكون في الحسبان الآن.