من يتحمل أسباب تعثر الحل العربي للأزمة السورية؟
محمد عيسى
بعد أجواء التفاؤل التي سادت مطلع هذا العام والتي أشارت إلى قرب حل الأزمة السورية، على أثر جهود عربية بذلتها أكثر من عاصمة عربية كانت قد بدأتها الأردن، عبر نشاطات مكثفة لوزير خارجيتها أيمن الصفدي، والذي أطلق بنتيجتها مبادرة الأردن الشهيرة، والتي سميت “مبادرة الخطوة مقابل خطوة”، وتتالت بعد ذلك زيارات لمسؤولين عرب وخليجيين إلى دمشق، وبالمقابل عززتها زيارات الرئيس الأسد إلى عمان، ثم إلى أبو ظبي في الإمارات العربية المتحدة.
جهود قد تكون بدأت في الظل وتولتها دولة الإمارات منذ العام 2018، بحسب متابعة نشرتها مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، والمهم فيها أنها قد تمخضت في النهاية عن ولادة مبادرة عربية لحل الأزمة السورية والمعروفة ببنودها العشر،أطلقتها الدبلوماسية السعودية في ربيع هذا العام، بعد أن تراكمت عمليات التجميل على سحنة العلاقات بين المملكة ودمشق، وقد أسفرت عن عودة للعلاقات القنصلية بين البلدين في البداية، ثم عن عودة كاملة للعلاقات، على إثر زيارة وزير خارجية المملكة إلى دمشق، ثم أخيراً اتخاذ القرار /8194/ والقاضي بعودة سوريا إلى مقعدها في جامعة الدول العربية، والذي نتج عنه التطور الأبرز المتمثل بمشاركة الرئيس الأسد بأعمال القمة العربية التي عقدت في جدة في التاسع عشر من أيار الماضي.
فهذا القرار وعمليات الترطيب في الأجواء ما بين العواصم العربية ودمشق، وحضور القمة وخطاب الأسد المميز في أعمالها، وكل المحطات والمبادرات والتطورات التي شهدتها مسيرة هذا التطبيع العربي مع دمشق، كان ينطلق من مسلمات وتفاهمات تتمحور أو يقع في رأسها:
–موافقة دمشق على تطبيق القرار الأممي /2254/ وفق صيغة يتفاهم السوريون على كيفية الولوج إليها. وعند هذه النقطة يجب ألا يفوتنا أن الرئيس الأسد كان قد أدلى بتصريحات متكررة، تقول “إن سوريا بحاجة إلى حوار وطني شامل لا يستثني أحداً”، فيما يعد اعترافاًصريحاً بعقم الحالة القائمة.
–وأيضاً في سياق مرجعية القرار /2254/ يفرض خلق الشروط المناسبة لعودة آمنة للاجئين، ومن ثم المساهمة برفع العقوبات وإعادة الإعمار.كما يستلزم التزامات متبادلة.خطوة البدء فيها من الجانب العربي للقضايا الإنسانية، حيث كان قد كثر الحديث عن مساعدات هامة عينية وماليةقُدِّمت وقد تصادفت مع واقعة الزلزال المدمر الأخير، وترافقت أيضاً مع رفع مؤقت للعقوبات المفروضة بقانون قيصر.
–تناولت التفاهمات مسألة الحدّ من تنامي التدخل الإيراني في الشأن السوري، ومن تواجد إيران في المنطقة الجنوبية وعلى مقربة من الحدود الأردنية، وبالتالي أو بالتوازي مع القبول بانتشار قوات عربية بقيادة السعودية على الأراضي السورية لتأمين التطبيق السلس لمندرجات القرار /2254/.
–التعهد من الجانب السوري باتخاذ التدابير لوقف تهريب وإنتاج المخدرات “الكبتاغون” نحو الأراضي الأردنية. ويلاحظ في هذا الإطار وكما تشير الوقائع، إلى أن توافقاً هاماً يُعتقد قد سجل بعد زيارة هامة تحدثت عنها مواقع إعلامية لوزير الدفاع السوري ورئيس الاستخبارات إلى عمان، وبعد العملية الحربية للطيران الأردني على أحد مراكز تصنيع الكبتاغون في الجنوب السوري، والذي أسفر في حينه عن مقتل أحد أهم رموز صناعة وتهريب المخدرات مع أفراد أسرته.
بعد كل ما تقدم من مؤشرات وعناوين على توفر فرصة لإخراج المشهد السوري من حلكته، هذه المساعي العربية الحثيثة، والتي لا شك أنها كانت برضى دولي وبنوع من التنسيق مع الإدارة الأمريكية وعواصم القرار العالمية، فثمة ما يستوجب الإشارة إليه ضمن الجهود المبذولة ذاتها، وهو الجهد الذي جرى على المستوى الوطني، وتجلى بمبادرة الإدارة الذاتية لمجلس سوريا الديمقراطية، في إطار توفير البيئة المناسبة للحل وعبر وضع إمكاناتها لخدمة الحل وفتح أراضيها لعودة اللاجئين.
بعده كل هذا يأتي النعي على جريدة عكاظ السعودية لروح مبادرة التطبيع العربية مع دمشق، بكلامها “إن جهود التطبيع مع دمشق قد تعثرت”.وفيما يفيد بأنها كانت فرصة من ذهب وتمت إضاعتها.
وقبل الدخول في أسباب التعثر وهذا النعي لجهود التطبيع نحو أو ضمن مسار حل الأزمة السورية، يمكن ملاحظة أن حماس النظام العربي الرسمي لإجراء التطبيع ينطلق بالأساس من توافق البنية السياسية لأغلب الأنظمة العربية مع طبيعة النظام في دمشق، مع فوارق نسبية وغير كبيرة، ولا توجد من حيث الجوهر خلافات عميقة في البنية أو في التفكير، وفي الغالب تحكمها رغبة في إعادة إنتاج الدولة المركزية الشمولية القومية أو الإسلامية ذات البنية الاجتماعية العائلية الإقطاعية أو شبه الإقطاعية، وقد تنظر بعين الريبة حيال مولود ديمقراطي جديد في المنطقة.
أما لماذا تكون الجهود المبذولة تحت مسمى “المبادرة العربية” قد توقفت أو تعثرت بحسب ما أعلنته صحيفة “عكاظ”؟ فلأن الأمر يواجه معوّقات عدة.
بعضها عوامل داخلية تتعلق ببنية النظام القائم وبآلية اتخاذ القرار وطبيعة القوى الاجتماعية النافذة فيه، والتي هي في الغالب أو بعض منها قد تورطت بإشاعة أجواء الفوضى والفساد والعمل بالمخدرات، وبالإساءة إلى المصالح الوطنية العليا، وقد تكون متخوفة من نتائج أي تحولات عميقة في تركيبة النظام السياسية، من شأنها أن تعرضها للمساءلة أو المس بمصالحهافي مرحلة ما بعد الحل أو في سوريا الجديدة.
وعوامل خارجية ترتبط بتأثير وأجندات القوى الفاعلة على المسرح السوري، ويقع على رأسها موقف كل من روسيا وإيران.
فالموقف الإيراني، ووفقاً لجميع المتابعات، معرقل للمبادرة العربية في حل المسالة السورية ولأي خطة أخرى لا تنطلق من أولوية تعميم وتوسيع المشروع الفارسي الشيعي في سوريا وفي عموم بلدان المنطقة العربية، على حساب مصالح الشعب السوري ورؤيته وقيمه، مستخدمة إلى ذلك، كما هم دوماً، أصحاب المشاريع الإسلاموية في تركيا شماعة تحرير القدس والممانعة والشعارات العاملة على تنمية الغرائز واستغلال العواطف الساذجة لدى القطاعات الشعبية البسيطة، ومستغلة عوز هذه الجماهير لأبسط مقومات الحياة، فتقوم بشراء ولاءاتها وتجييشها للضغط والعمل ضد أي مشروع مدني وطني ديمقراطي. وعلى جبهة الموقف الرسمي؛ نرى الدبلوماسية الإيرانية في نشاط دائم لوضع العراقيل في وجه أي بارقة أمل أو تطور يلوح في الأفق نحو الحل، وما زيارة الرئيس الإيراني “إبراهيم رئيسي” الأخيرة إلى دمشق في ظروف انطلاق المبادرة العربية آنفة الذكر، وما رافق تلك الزيارة من اتفاقات أملتها حاجة النظام للدور الإيراني، إلا دليل على حجم الإعاقة الإيرانية ودورها في إحباط مشاريع الحل التي لا تروق للقيادة الإيرانية.
وعلى نفس النحو أو يزيد، لا بد أن مبادرة الحل هذه قد اصطدمت بالموقف الروسي، الذي ما انفك يعتبر الوطن السوري ومقدراته دفتر شيكات أو رصيداً يصرف منه حيث تتطلب مصالحه مع الأتراك أو معاركه هنا أو هناك.
والمقاربة الروسية كانت، ومنذ انطلاق الأزمة السورية، تنطلق من فكرة الالتفاف على القرارات الدولية ومسارات الحل الطبيعية، إلى طرق موازية لمسار جنيف، وإلى اختراع مسار أستانا الذي تبلور إلى نحو من شبه حلف بينهم وما بين الإيرانيين والأتراك، هذا الحلف بنى تصوره لحل الأزمة السورية على بديهية الصلح وتطبيع العلاقات مع أردوغان، ومن ثم تطوير أعمال مقاومة ضد التواجد الأمريكي على الأراضي السورية، باعتباره وجوداً”غير شرعي”. فالأولوية عند محور أستانا اليوم هي إجراء مصالحات قسرية لم تتوفر شروطها الموضوعية، والعمل على مقاومة الوجود الأمريكي، أما القضايا الاجتماعية والفقر والعوز وانعدام مقومات الحياة لدى السوريين، ليست على الأجندات لأطراف حلف أستانا. هذا المسار وهذا الحلف الذي أعلن الرئيس الأذري في آخر اجتماع لدوله عن استنفاد وظيفته، فيما يُعَدُّ اعترافاً بفشله في تحقيق اختراق ذي جدوى على طريق الحل.
وعلى ضوء ما تقدم؛ يتجه الاهتمام وتتجه الرهانات على حقيقة الدور الأمريكي، ليس حول الموقف من مسألة التطبيع مع دمشق، فهذه كانت مسألة واضحة منذ بداية فكرة المبادرة العربية، والموقف الأمريكي لخطة التطبيع غير إيجابية من حيث المبدأ، ولم يكن تهاونها النسبي مع مطلقي المبادرة العرب إلا خطوة تكتيكية درجت السياسة الأمريكية على اتباعها في المنعطفات الحاسمة التي تنوي الانخراط بها أو التأثير عليها، وقد تكون نوع من رسائل أخيرة موجهة للشارع الغربي في حال قررت الإقدام على مجابهة مع خصومها على المسرح السوري، بل المسألة التي يجب أن يدور حولها الاهتمام، تتمثل بماهية اللغة التي ستستخدمها السياسة الأمريكية مع تحالف الخصوم، وهل نحن عشية مواجهة حاسمة،أم أمام حرب باردة جديدة قد تطول نهاياتها؟