تداعيات انقلاب أردوغان على القيصر الروسي
جميل رشيد
دأب الرَّئيس التُّركيّ على اتّباع سياسة الاستدارات والانعطافات والانقلاب على أصدقاء وحلفاء الأمس، ليغدو خصوماً وأعداءً له، دون أن يأبه بعواقبها وارتداداتها عليه وعلى بلاده، فتجده دائم البحث عن مساحات جديدة يحقِّقُ فيها طموحاته وأهدافه الشَّخصيّة بالدَّرجة الأولى، ليوطِّد أركان نظامه الدّيكتاتوريّ.
وفي أحدث تكويعاته؛ عاد أردوغان – وبقوّة – إلى أحضان الناتو، بل يمكن القول إنَّه ارتمى فيه، وقَبِلَ دون أيَّة شروط انضمام السّويد إلى الناتو، وفي ذات الوقت استجدى زعماء الغرب انضمام بلاده إلى الاتّحاد الأوروبيّ، في خطوة يمكن القول بأنَّها انقلاب على كُلّ ما قبلها من سياسات وتحالفات، خاصَّةً مع روسيّا المتطلّعة إلى إخراجها من صفوف الناتو، وضمّها إلى مشروعها الأوراسيّ، أو على الأقلِّ مساعدتها في انتشالها من المستنقع الأوكرانيّ.
ولكن الناتو وعلى رأسه الولايات المتّحدة الأمريكيّة، تمكَّنت من إعادة تركيّا إلى بيت الطاعة الأطلسيّ، وفرض حصار خانق على روسيّا، التي بدت في وضع لا تُحسد عليه، وخابت جميع توقّعاتها وآمالها التي رسمتها اعتماداً على أردوغان وتركيّا. فبعد أن تيقَّنَ بوتين أنَّ أردوغان لن ينقلب على جملة الاتّفاقيّات والتّفاهمات بينهما، عبر مسيرة عمرها سبع سنوات من التّعاون الوثيق والمثمر بينهما، وكانت سوريّا السّاحةالأبرز لترجمة تلك التّفاهمات والاتّفاقيّات، وتجلّت بتسهيل روسيّا لاحتلال تركيّا مناطق شاسعة من الأراضي السُّوريّة بدءاً من عفرين وسري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض وجرابلس والباب وإعزاز، وإنشاء مسار أستانا وما تُسمّى بمناطق خفض التَّصعيد، وليس انتهاءً بمحاولتها إجراء مصالحة بين تركيّا والحكومة السُّوريّة، هذا إضافة إلى التَّعاون الاقتصاديّ وإطلاق مشاريع استثماريّة روسيّة في تركيّا مثل إنشاء المفاعل النّووي في مرسين، وزيادة التّبادل التّجاري بينهما، وفتح بوّابات تركيّا وأجوائها لها للوصول إلى المياه الدّافئة في سوريّا ومنطقة الشّرق الأوسط، وهو ما كانت تبحث عنهروسيّا التي تعاني من تأثير العقوبات الأمريكيّة عليها، فانهارت توقّعات الدُبِّالرّوسيّ، بعد أن غمز قادة الغرب لأردوغان، فهرع متوسِّلاً الصفح عنه لطيّ صفحة ماضي تعاونه مع بوتين.
إلا أنَّ العودة السلسة لأردوغان للناتو، قابله غضبٌروسيّ وخيبةُ أمل من تعويلها على أردوغان، تمثَّل في إلغاء الرَّئيسالرّوسيّ بوتين زيارته المقرَّرة إلى أنقرة، فيما عبّر المتحدّث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف عن خيبة بلاده من استدارة أردوغان، وقال: “لا أحد من الأوروبيّين ينتظر تركيّا في أوروبا، ولا ينبغي أن ترتديَ أنقرة نظارات ورديّة في هذا الصدد”.
ومن المتوقَّع أن يترجم الغضب الرّوسيّ على شكل تصعيد غير مسبوق في مناطق ما تُسمّى بخفض التَّصعيد في إدلب، عبر إطلاق حملة عسكريّة قويّة بالاشتراك مع قوّات الحكومة السُّوريّة والميليشيّات الإيرانيّةضُدَّ الجماعات الإرهابيّة التي تتفيّأ بظِلِّ تواجد القوّاتالتُّركيّة وحول قواعدها المنتشرة في إدلب، وخاصَّةً “هيئة تحرير الشّام/ جبهة النُّصرة سابقاً”، ما يُهدِّد مستقبل التواجد التُّركيّ على الأراضي السُّوريّة.
سيسعى بوتين بعد أن غدر به أردوغان على تصعيد المواقف ضُدَّهُ في أكثر من ساحة، ولن يتريَّث كثيراً، لأنَّ الزَّمن ليس في صالحه، بعد أن حاصره الناتو من كُلّ الجهات، وأفقده الورقة التي طالما كان يُهدّد بها الدّول الأطلسيّة، أي تركيّا، وسيعمد إلى إبداء مقاربات إيجابيّة جدّاً من الكرد والإدارة الذّاتيّة في شمال وشرق سوريّا وقوّاتسوريّاالدّيمقراطيّة، عبر الضغط على الحكومة السُّوريّة للتوصُّل إلى تفاهمات معها، رغم أنَّها – أي روسيّا– اختبرت النوايا التُّركيّة قبل عقد قمَّة الناتو الأخيرة في فيلينيوس، بادعائها أنَّقوّاتسوريّاالدّيمقراطيّة أرسلت قوّات لها إلى أوكرانيا بتعليمات من الولايات المتّحدة، وهو ما سارعت (قسد) للردِّ عليها بشكل مباشر ودون تلكؤ، لتنفي تلك المزاعم جملة وتفصيلاً، عبر بيان صادر عن المركز الإعلاميّ لقوّاتسوريّاالدّيمقراطيّة، حيث قال بشكل مقتضب: “قوّاتنا غير مهتمَّة بقضايا خارج سوريّا”. ولم تثر تلك الأكذوبة الرّوسيّةاهتمام تركيّا وأردوغان، ويبدو أنَّه كان يدرك ماهيَّتها ومراميها، فحزم حقائبه وتوجَّه إلى فيلينيوس دون أن يَرُدَّ على الادّعاء الرّوسيّ.
روسيّا الغارقة في أوحال حربهابأوكرانيا، راهنت كثيراً على الدّور التُّركيّ في سوريّا، وضحَّت بعلاقاتها مع الكرد والإدارة الذّاتيّة على مذبح مصالحها مع تركيّا. ففي قمَّة طهران لدول محور أستانا الثّلاثة “روسيّا، تركيّا وإيران” في 19 يوليو/ تمّوز العام المنصرم، قرَّر زعماؤها العمل معاً على إخراج القوّاتالأمريكيّة من الأراضي السُّوريّة، واليوم يعود أردوغان ليصبح جزءاً فاعلاً، كما كان من قبل، من منظومة الناتو، ويضع نفسه وبلاده تحت تصرُّفها، ما أغلق مساحات المناورة أمام بوتين، إن كان في أوكرانيا أو سوريّا، والتَّصعيد الأخير في الخطاب المعادي بين روسيّا والولايات المتّحدة، وصدور تصريحات مضادّة من كلا الطرفين، عبر كيل الاتّهامات لبعضهما بارتكاب خروقات جوّيّة لبروتوكولات عدم التَّصعيد في الأجواءوالأراضي السُّوريّة، يُنذر بذهاب الاثنين نحو تصعيد أقوى، وحشد الولايات المتّحدة لقوّاتها في سوريّا، واستجلابها لعدد أكبر من طائرات “إف – 16” إلى الخليج، إضافة إلى استقدامها /2500/ مقاتلاً كقوّات إضافيّة إلى الأراضي السُّوريّة، يؤكد أن نُذُرَ المواجهة قد اقتربت، وقد تدفع روسيّا بمليشيات إيرانيّة لخلق استفزازات لقوّاتسوريّاالدّيمقراطيّة وقوّاتالتَّحالفالدّوليّ، لإرباك الأخيرة ودفعها نحو سحب قوّاتها من سوريّا.
التذمُّر الرّوسيّ من الخطوة التُّركيّة، وصل إلى حَدِّ إعلان الخارجيّة الرّوسيّة انضمامها مع كُلٍّ من الحكومة السُّوريّة وإيران في رفض أيِّ تطبيع بين أنقرة ودمشق قبل تنفيذ الأولى عمليّة الانسحاب الكامل من الأراضي السُّوريّة وإنهاء احتلالها لها دون قيد أو شرط، وهو ما ردَّت عليه أنقرة برفضها. في حين كانت روسيّا تضغط على دمشق للقبول بإتمام إجراءات التَّطبيع والإسراع فيها، ما يفسِّر بأنَّ القطيعة الرّوسيّةالتُّركيّة ستنسحب على كُلِّ مجالات التَّعاون بين الطرفين، وتدخل مساراً مناقضاً لما كان في السّابق.
ستعمل روسيّا على تسريع عمليّة التّواصل بين الإدارة الذّاتيّة ودمشق، والمحاولة في إطلاق حوار جادٍّ بينهما، بالتّزامن مع سعي حثيث لإبعادها عن الولايات المتّحدة والتَّحالفالدّوليّ، وهو ما يفترض أن تضع الإدارة ومعها قوّاتسوريّاالدّيمقراطيّة جملة من الشّروط التي لا يمكنها القفز فوقها والهرولة نحو دمشق دونها؛ ألا وهي تحرير المناطق المُحتلَّة من قبل تركيّا وعلى رأسها عفرين وسري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض، إضافة إلى اعتراف حكومة دمشق بالإدارة و(قسد) كجزء من المنظومة الدِّفاعيّة السُّوريّة، وروسيّا مرغمة على تلبية هذه الشُّروط إن كانت تبحث عن شركاء لها في سوريّا بدلاً من تركيّا وأردوغان.
فبعد الضربة القويّة التي وجَّهتها الدّول الغربيّة لروسيّا من الدّاخل عبر دعمها لتمرُّد ميليشيّات “فاغنر” ضُدَّ بوتين، ورغم أنَّ الأخير تمكَّن من وأد التمرُّد والقضاء عليه؛ إلا أنه هَزَّ عرش القيصر الرّوسيّ، الذي بات ضعيفاً جدّاً بعد تورّطه في حرب أوكرانيا، وزاد انقلاب أردوغان عليه من حجم تحدّياته الدّاخليّة والخارجيّة، فهو بات مثل الغريق الذي يتعلَّق بقشَّةٍ، يبحث عن حلفاء له في الدّاخل والخارج، لعلَّه ينقذ نفسه ونظامه من تداعيات سياساته المتهوِّرة، بعد أن تمكَّنَ الناتو والدّول الغربيّة عموماً من فرض حصار وعزلة خانقة عليه، ولن يجد أفضل من الإدارة الذّاتيّة وقوّاتسوريّاالدّيمقراطيّة حلفاء في السّاحة السُّوريّة، وكُلَّ التكهُّنات والتوقّعات تشير إلى أنَّروسيّا ستعمل خلال الفترة القادمة على تحريك المياه الرّاكدة بين الإدارة ودمشق، وستبدي جدّيّةً أكثر في التوسُّط لبدء حوار وطنيّ بينهما، وصولاً إلى تفاهمات واتّفاقيّات قد تُغيّر مُجمَل المشهد السُّوريّ.
يثير البعض تساؤلات حول إمكانيّة اعتراض الولايات المتّحدة مسار أيَّ تقارب بين الإدارة الذّاتيّة وحكومة دمشق، إلا أنَّ الثابت في سياسات الإدارة أنَّها انتهجت سياسة براغماتيّة ناجحة تمكَّنت من خلالها الحفاظ على حياديّتها بعيداً عن مؤثّرات مواقف الدّول المتصارعة على الأراضي السُّوريّة، فتركت أمامها مساحة كافية من حُرّيّة العمل واتّخاذ مواقفها باستقلاليّة تامّة، ولولاها لما تعرَّضت لهذا الكَمِّ الهائل من الهجمات، ومن أطراف عديدة، وجميع الأطراف المحلّيّة والدّوليّة والإقليميّة تدرك جيّداً هذه الخُصلة التي تتميّز بها الإدارة الذّاتيّة عن غيرها من القوى الفاعلة على السّاحة السُّوريّة، فهل سنشهد مقارباتٍ روسيّة مغايرة وإيجابيّة حيال الإدارة الذّاتيّة، أم ستستجدي روسيّا مَرَّةً أخرى تركيّا لنيل رضاها ومساعدتها في إنقاذ نفسها من المستنقع السُّوريّ والأوكرانيّ؟ الأيّام القليلة القادمة ستظهر حقيقة التغيّرات في المواقف الرّوسيّة.