تركيّا المغيبة عن تحالفاتِ المنطقة
جميل رشيد
غَيَّرَت الحرب الرُّوسيّة – الأوكرانيّة، وقبلها الصراعات والحروب الدّائرة رحاها في الشَّرق الأوسط أشكال التَّحالفات والاصطفافات القديمة بين القوى الإقليميّة والدّوليّة، بمختلف مواقعها وقوَّتها، ليُعيدَ كُلُّ طرف النَّظر في توجُّهاته وبناء علاقاته مع الأطراف الأخرى على أسس جديدة، عنوانها الرَّئيس؛ إيجاد مكانة في النِّظام العالميّ الجديد الذي يتشكَّل، بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على انهيار القطبيّة الثنائيّة واستفراد الولايات المتَّحدة الأمريكيّة بقيادة العالم.
لا شَكَّ أنَّ منطقة الشَّرق الأوسط تُعَدُّ منطقة هامَّة لمختلف القوى التي تتصارع حول مناطق النُّفوذ في العالم، أقلُّها لغناها بموارد الطّاقة، وهي كانت منذ اكتشاف النَّفط فيها موضع تنافسٍ كبيرٍ بين قوى الرَّأسماليّة الأوروبيّة النّاشئة في بداية القرن الماضي.
فإن كانت منظومتا حلف شمال الأطلسي “النّاتو”، وحلف “وارسو” السّابق، تشكّلتا في غمرة الحرب الباردة بين القطبين الاشتراكيّ والرَّأسماليّ بعد الحرب العالميّة الثّانية؛ وانقسم العالم إلى معسكرين، إلا أنَّ المؤكَّد أنَّهما ولدا تلبيةً لحماية مصالح كُلٍّ من الولايات المتَّحدة وأوروبا وكذلك الاتّحاد السوفياتي السّابق.
المناخ السِّياسيّ الدّوليّ والإقليميّ السّائد الآن، رُبَّما يشبه في كثير من وقائعه وتطوّراته نهايات الحرب العالميّة الثّانية. فالولايات المتَّحدة تقاوم للحفاظ على مكانتها الرِّياديّة في قيادة العالم، وإعادة رسم خرائط الجغرافيا السِّياسيّة لدول المنطقة، وفق متطلَّبات المصالح الإستراتيجيّة الأمريكيّة فيها.
فيما بروز روسيّا كقطبٍ منافسٍ للولايات المتَّحدة، وعودتها إلى منطقة الشَّرق الأوسط ومياهها الدّافئة عبر البوّابة السُّوريّة، منحها العديد من أوراق القوّة في تثبيت مكانتها العالميّة، وبوحيٍ من مشروعها الأوراسي الإستراتيجيّ، ولتحتلَّ كُلٌّ من إيران وتركيّا مكانةً بارزةً فيه، رغم المتناقضات التي تضع الدَّولتين – أي إيران وتركيّا – على ضفّتين متضادتين، بحكم صراعاتهما التّاريخيّة الطويلة والخلافات المذهبيّة والدّينيّة والتي عمَّقتها التوجُّهات الإسلامويّة التركيّة بسعيها لقيادة العالم “السُنّي” ضُدَّ إيران “الشّيعيّة”، خلال سنوات الصراع في سوريّا وعليها.
قِمَّةُ طهران التي عقدت في التّاسع عشر من الشَّهر الجاري، رغم محاولاتها رسم خطوط عريضة لتحالفات جديدة في المنطقة، تكون أساساً للانطلاق نحو العالم، إلا أنَّها حفلت بالتَّناقضات. فالأطراف الثَّلاثة تتنابذها الخلافات البينيّة والإيديولوجيّة والمشاريع التوسُّعيّة، إضافةً إلى العقدة الكأداء التي لا تتمكَّن لا روسيّا ولا إيران من حَلِّها؛ وهي وجود دولة بينهم تُعَدُّ الثّانية في الحلف الأطلسيّ، وهو ما لن تتغاضى عنه إيران وكذلك روسيّا التي تواجه يوميّاً صواريخ وقذائف الأطلسيّ في أوكرانيا.
أردوغان ذهب إلى القِمَّةِ، مدفوعاً بِهَوَسِ نيل موافقة روسيّا وإيران على شَنِّ عدوانٍ جديدٍ على مناطق شمال وشرق سوريّا، ولا يحرِّكه شيء آخر غير ذلك. إلا أنَّه اصطدم بالرَّفض الإيرانيّ الذي جاء على لسان المرشد الأعلى لإيران علي خامنئي، عندما وضع خطّاً أحمراً أمامه، لتتلاشى أماني وطموحات أردوغان بالغزو في تلك الغرفة الحقيرة التي استقبلها فيها خامنئي، والتي كانت أشبه بغرفة استجوابٍ لمجرمٍ أو مدانٍ، منها لاستقبال رئيس دولة.
بوتين هو الآخر، لم يتأخَّر في الرَدِّ على أردوغان، وهو المدرك تماماً بأنَّ أردوغان أدار بوصلته، وما أكثر استداراته، نحو الأطلسي بالمطلق، بعد موافقته تحت الضغط الأمريكيّ لقبول كُلٍّ من السّويد وفنلندا للانضمام إلى حلف “النّاتو”. ذكَّره بوتين بأنَّه من الأفضل له حماية أمنه القوميّ من الجانب اليونانيّ، الذي يُهدِّدُ الأراضي التركيّة بشكل جدّيّ، بما فيها القسم الشَّمالي من قبرص المحتلّة من قبل تركيّا منذ نحو خمسين عاماً. أراد بوتين أن يرمي بكرة النّار داخل تركيّا، ويوجِّهَ اهتمامها نحو أوروبا، ويشغلها في جبهة أخرى غير سوريّا، بعد أن تيقَّنَ أنَّ أردوغان ونظامه لا يمكن التعويل عليهما في تنفيذ مشروعه الأوراسيّ والتمدّد في المنطقة، وصولاً إلى الصّين.
رغم أنَّ كُلَّ الأنظار كانت متوجِّهة نحو طهران في إحراز الأطراف الثَّلاثة صيغة جديدة، متطوِّرة عن صيغة تفاهمات أستانا، التي أفضت إلى تقاسم مناطق النّفوذ بينهما في سوريّا، وأن تتطوَّر إلى أشكال أكثر تقدّماً من التَّعاون الأمنيّ والعسكريّ والاقتصاديّ، ولتكون ردّاً على قمّة “جدَّة”، إلا أنَّها فشلت في إيجاد الحدود الأدنى من التوافقات والتَّفاهمات السِّياسيّة، أقلُّها حول الملفِّ السُّوريّ، الذي بات يؤرِّق مضاجع الجميع، دون استثناء.
حاولت قِمَّةُ جدَّة من جانبها، رسمَ مستقبل التَّحالفات في المنطقة برعاية خليجيّة، في حين سعت الولايات المتَّحدة إشراك إسرائيل في التَّرتيبات الجديدة، خاصَّة بعد أن وقَّعت بعض الدّول العربيّة اتِّفاقات سلام معها، إلا أنَّها قوبلت بالرَّفض من قبل السّعوديّة التي ترى أنَّ من أولويّات التَّحالفات الجديدة في المنطقة مواجهة التمدُّد الإيرانيّ، بعد أن لمست مغازلة سرّيّة بين الولايات المتَّحدة وإيران خلال مسار مفاوضات برنامجها النّوويّ. فيما الرَّغبة الأمريكيّة تمثَّلت في إنشاء حلف “ناتو عربيّ”، على غرارِ حلف بغداد في خمسينات القرن الماضي.
عادَ الرَّئيس التُّركيّ أردوغان خاليَ الوفاض من قِمَّةِ طهران، دون الحصول على أيِّ إشارة في الموافقة لشَنِّ العدوان، لتعود معها التَّحالفات القائمة منذ بداية الصراع على سوريّا إلى نقطة الصفر، حيث طالب بوتين أردوغان بتقديم تنازلات حقيقيّة في إدلب، وتنفيذ بنود اتِّفاقيّة سوتشي الأولى، وهو ما رفضه أردوغان، أو أنَّه غير قادرٍ على تنفيذها والالتزام بها، في ظِلِّ تعقيد الوضع في إدلب. وكانت رسالة بوتين قد وصلت إلى طهران وأردوغان قبل وصولها إليها، عبر استقبال قائد قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة مظلوم عبدي لقائد القوّات الرّوسيّة في سوريّا الكساندر تشايكو بمدينة الحسكة، ليؤكِّد أنَّ روسيّا لن تسمح لتركيّا بشَنِّ عمليّة عسكريّة في مناطق شمال وشرق سوريّا.
يبدو أنَّ التَّنافس الأمريكيّ الرّوسيّ على الجغرافيا السُّوريّة قد وصل إلى أعلى المستويات، رغم وجود بعض التَّفاهمات حول رفض كلا الطرفين لأيِّ عدوانٍ تركيٍّ على الأراضي السُّوريّة، إلا أنَّ زيارة قائد القيادة الأمريكيّة الوسطى الجنرال مايكل كوريلا، جاءت لتؤكِّد على الحضور الأمريكيّ في جميع الملفّات التي تَهُمُّ سوريّا، وأنَّ أيَّ ترتيبٍ جديدٍ بمعزل عن التَّفاهم معها، رُبَّما لن يُكتبَ له النَّجاح، كما أنَّها تُعتبر بمثابة الرِّسالة الثّانية لأردوغان أيضاً.
تركيّا التي هرولت بعيداً عن إطارها وحجمها الإقليميّ، تشهد انكسارات متتالية، ليس أوَّلها وآخرها في قِمَّةِ طهران، بل بدأت سياساتها العدائيّة تجاه دول المنطقة وشعوبها ترتَدُّ سلباً عليها، لجهة استبعادها من التَّحالفات والاصطفافات الإقليميّة والدّوليّة. فالبديل الذي اختارته روسيّا لأنبوب خطِّ السَّيل التُّركيّ الواصل عبر أراضيها إلى أوروبا لتزويدها بالغاز الرّوسيّ، لم يَعُد ذي أهميّة يذكر، بعد أن وجدت روسيّا البديل في الخطِّ الممتدِّ من مدينة بطرسبورغ الرّوسيّة إلى الموانئ الإيرانيّة على الخليج العربي، وليصل عبرها إلى الهند ومن ثُمَّ الصّين، كبديل لبيع الغاز الرّوسيّ إلى أوروبا، بعد أن امتنعت العديد من الدّول الأوروبيّة عن شراء الغاز الرّوسيّ. فيما عمدت أوروبا إلى توقيع اتّفاقيّة مع كُلٍّ من مصر وإسرائيل لإيصال الغاز الإسرائيليّ عبر البحر الأبيض المتوسِّط إلى أوروبا، دون المرور بالأراضي التُّركيّة.
كُلُّ الاعتقاد أنَّ تركيّا تُعيدُ إنتاج ذاتها على غرار الإمبراطوريّة العثمانيّة إبّان بداية القرن الماضي، لتغدوَ مَرَّةً أخرى “الرَّجُلَ المريض”، والمصابة بداء العنجهيّة والاستعلاء القوميّ والمشاريع الاحتلاليّة، ولتتقاذفها أهواءها بين تلاطم أمواج القوى الكبرى، فهل ستتّعظ وتعود إلى رُشدها، وتقيم علاقات حسن الجوار مع محيطها الإقليميّ، وتقطع مع تاريخها الدَّمويّ ومع المجازر ضُدَّ شعوب المنطقة، أم أنَّها ستوغِل أكثر في دمويَّتها، مثلما رأينا في قصفها المتواصل على مناطق شمال وشرق سوريّا وإقليم جنوب كردستان؟
الأيّام القادمة ستُحدِّدُ مصير تركيّا ونظام أردوغان الذي يعيش على صفيحٍ ساخِنٍ.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها