قمة طهران وإعادة تدوير الأزمات
محمد عيسى
ضوءٌ أخضر أمريكي لأردوغان بشَنِّ عدوانٍ جديد على مناطق شمال وشرق سوريّا؛ وينجح القائد “مظلوم عبدي” بتحويله بعد ذلك إلى ركلة جزاء منحت له، ويُنفّذها في الدَّقائق الأولى من المباراة إلى شِباك المجتمعين في قِمَّة طهران.
وهو في إفساحه المجال لتنفيذ اتِّفاقٍ موقَّعٍ مع دمشق في عام 2019، وبإشراف الرّوس ينتشر الجيش السُّوريّ بموجبه على حدود التَّماس مع الجيش التُّركيّ ومرتزقته، وبالذّات في المواقع التي يعتزم الأخير النَّفاذ منها لشَنِّ عمليّته المزعومة، يكون بذلك قد وظَّف المواقف الأمريكيّة المستجِدَّة، والتي تُعَدُّ أقرب إلى أن تكون تكتيكيّة، أو يكون قد استفاد منها قائد قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة ليطوّر سياساتٍ جديدة ويُحدِثَ نقلةً في تحالفاته الميدانيّة؛ من أجل خلق واقعٍ جديدٍ في خارطة القوى المتنافسة والمتصارعة على المسرح السُّوريّ والإقليميّ برُمَّته، بل لينقل الوضعَ ليصبح أمام استحقاقاتٍ نوعيّةٍ جديدةٍ.
أمّا أن يكون لتلك التّداعيات من معنى واضح بلغة السِّياسة؛ فلا بُدَّ أن يُترجم أو يَمُرَّ عبر مسريّين، الأوّل تأثيره الإيجابيّ على المعادلة الوطنيّة الدّاخليّة بشكل عام، حيث انتظره السُّوريّون طويلاً، ولينتهي معه الجدل حول دور (قسد) ومن ثُمَّ مشروع (مسد)، باعتباره مشروعا للجذب الوطنيّ، محمولاً على ثوابت مدنيّة وديمقراطيّة، في دولة واحدة ﻻ تقبل التَّقسيم أو التَّجزئة، الأمر الذي يعطي أملاً جديداً وفرصةً سانحةً أكثر لالتئام السُّوريّين الشُّرفاء حول هدف الدّولة الواحدة الدّيمقراطية واللامركزيّة.
والمسرى الثّاني؛ هو إعطاء بُعدٍ جدّيٍّ وملموسٍ ثُمَّ وازِنٍ كان غائباً – وإلى حَدٍّ كبير – لمُسمّى الدّولة السُّوريّة، هذا المُسمّى الذي صار من أهَمِّ تعبيراته العمل ضمن جبهة واحدة لأهَمِّ قوَّتين على مسرح الحرب الدّاخليّة السُّوريّة، تتمثَّلُ بقوّة الجيش السُّوريّ المؤتمر بأمرة دمشق، والقوَّة المنضوية تحت مصطلح قوّات سوريّا الدّيمقراطية، باعتبارها قوّة عسكريّة تسعى لحماية مصالح فئات عديدة من السُّوريّين، نشأت في معمعان الصراع، على شكل ومستقبل الدّولة فالجغرافيا والمجتمع.
أمّا في المقلب الآخر، مقلب دول ما سُمِّيَ بمسار آستانة المتدخِّلة – مع حَقِّ التصرّف – بالشأن والمصير السُّوريّ؛ فلا شَكَّ أنَّها قد أصبحت بعد التَّلويح بالعمليّة التُّركيّة في مأزقٍ شديدٍ. وهي الأطراف التي درجت على اﻻلتئام والتَّفاوض فيما بينها لحَلِّ خلافاتها وفَكِّ تشابكات مصالحها، ومقايضتها على حساب الأرض السُّوريّة ومصير السُّوريّين، فتتداعى، وهي المأزومة أصلاً، إلى لقاء قِمَّة أزمة تعقد في طهران، يحضرها إلى جانب الرَّئيس الإيراني رئيسي كُلٌّ من الرَّئيس الرّوسي بوتين والتُّركيّ أردوغان، ويحضرها معهم ملفٌّ واحِدٌ؛ العمليّة العسكريّة التُّركيّة على مناطق شمال وشرق سوريّا، ومأزق الضوء الأخضر.
ولأنَّ العمليّة العسكريّة التُّركيّة صارت شبه حتميّة، وفق ما تسوِّقُه المجريات على الأرض، ووفق ما تهيء له وسائل الإعلام التُّركيّة وإعلام المُنظَّمات المأجورة التي تأتمر بأمرتها، وهي عمليّة باتت محقَّقة بحسب دواعي الحملة الانتخابيّة لحزب العدالة والتنمية، لهذا وغيره صار الضوء الأخضر من الثّنائي الرّوسيّ والإيرانيّ لازِمَةً من لوازم العمليّة وﻻ بُدَّ منها.
لقد صار احتمال الحصول على الضوء الأخضر الرّوسي والإيرانيّ من عدمه، لغز اللَّحظة الرّاهنة والقضيّة التي تتمتَّع بالقدر الأوسع من اهتمام المتابعين والمعلّقين. فرغم حصول الجانب التُّركيّ على جائزة ترضية من دول النّاتو، والتي لم تلقَ استحساناً من موسكو، لقاء قبوله بانضمام السّويد وفنلندا إلى صفوف الحلف؛ فإنَّ حاجة موسكو للتودُّدِ منه لما يضطّلع به بفعل الحرب الأوكرانيّة، قد أكسبه هامشاً لمناورة أطول، ووصلةً إضافيّةَ، يتوهَّمُها كافيةً للرَّقص على التَّناقضات.
وعلى قاعدة بيانات المَدِّ والجذر ذاتها، وعلى دورة نفس أطوال الموجة؛ تَهتَزُّ السِّياسة الإيرانيّة أيضاً، لتستقرَّ إلى مسافةٍ أقرب من الحضن الرّوسيّ، وعلى الوسادة السُّوريّة نفسها. ومن وحي التَّشارك في الأولويّات الرّوسيّة الإيرانيّة؛ فإنَّ تعقيدات المشهد، وخاصَّةً بعد انتشار الجيش السُّوريّ في مواقعَ جديدة، تشي بأنَّ ﻻ ضوء من أيِّ نوعٍ في الرُّكن الإيرانيّ والرّوسيّ يمكن الإيماء به للقطب الثّالث في شراكة آستانة.
بعد ذلك، وغداةَ التيقُّن من أنَّ السَلَّة السُّوريّة لدى جوقة آستانة قد فرغت من خيارات تصلح لإسكات نَهَمِ أطرافها، حيث لم يَعُدْ في الجغرافيا ما يُطاوِع المقايضة. فهل نتوقَّع أن يكسر بعضهم عقدها ويخرج عن المطاوعة.
مَرَّةً أخرى؛ وبالعودة إلى فكرة نضوب الخيارات، ماذا سيكون بوسع قادة دول تسوِّسُ نظم شموليّة مستبدَّة شعوبها، مُنهَكَة ومتورِّطة بحروب، وتمُرُّ بمآزق عدَّة، واقتصاديّاتها متأزّمة، وماذا ينتظر العالم وشعوب المنطقة منها ومن قمَّتها غير الكلام وتصدير الأزمات وضروب الفقر ونَهب الموارِدِ.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها