مصاعب وتعقيدات فرض حظر جوّيّ على شمال وشرق سوريّا
حسن حسن
في مواجهة الاعتداءات التُّركيّة المستمرّة على مناطق الإدارة الذّاتيّة، دعت – وتدعو – المكوِّنات والمُنظَّمات والهيئات داخل هذه المناطق إلى تحويل مجالها الجوّيّ، وكذلك فوق منبج والشَّهباء إلى “منطقة حظر طيران”.
أولى تلك المطالب خرجت عقب شَنِّ الطيران التُّركيّ هجوماً غادراً على مقرِّ القيادة العامّة لوحدات حماية الشَّعب والمرأة في قرية قره جوخ التّابعة لمنطقة ديرك في إقليم الجزيرة في 25 إبريل/ نيسان 2017، وأدّى الهجوم إلى استشهاد عددٍ من أعضاء وقياديّي الوحدات التي كانت تحارب مرتزقة “داعش” في عاصمة الخلافة الدّاعشيّة المزعومة، الرِّقّة.
طالب أبناء شمال وشرق سوريّا المجتمع الدّوليّ ومجلس الأمن، مَرَّةً أخرى، بضرورة فرض حظر الطيران عقب فتح روسيّا الأجواء أمام تركيّا لشَنِّ عدوانٍ على منطقة عفرين في 20 يناير/ كانون الثّاني عام 2018، بغرض احتلالها، 2018، وللمَرَّةِ الثّالثة في 9 أكتوبر/ تشرين الأوّل عام 2019 أثناء الغزو التُّركيّ لتلِ أبيض ورأس العين.
منذ احتلال تركيّا لكُلٍّ من عفرين ورأس العين وتل أبيض، ما برح الاحتلال التُّركيّ يَشُنُّ، وبشكل مكثَّفٍ، هجمات عبر الطائرات المُسيَّرة والحربيّة ضُدَّ عموم مناطق شمال وشرق سوريّا، ويستهدف المدنيّين، من الإداريّين والسِّياسيّين والوجهاء والوطنيّين، واستشهد على إثرها العشرات من أبناء المنطقة ومن قياديّي وأعضاء قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة.
لتسليط الضوء على ما يعنيه هذا الإجراء، وشرح سبب عدم استجابة المجتمع الدّوليّ الذي يعصف به الخلافات والمصالح المتضاربة عقب الأزمة الأوكرانيّة لهذه الدَّعوات، سنُلقي الضوء على هذا الموضوع.
سوابقُ عمليّات حظر الطيران في العالم:
فُرِضَت حالة حظر الطيران في ليبيا عام 2011، وهي لم تكن الأولى، بل طُبِّق لأوَّل مَرَّةٍ بداية التِّسعينات من القرن الماضي بعد انتهاء عاصفة الصَّحراء وتحرير الكويت عام 1991، حيث قامت قوّات التَّحالف الذي هزم نظام صدّام حسين بفرض حظرٍ جوّيّ على جنوب العراق ومنطقة كردستان شمالي خطِّ العرض 36، بهدف ردع نظام صدّام حسين من ارتكاب عمليّات إبادة ضُدَّ سُكّان تلك المناطق وتهديد جيرانه، وليتسنّى إعادة ملايين النّازحين الكُرد إلى قراهم ومدنهم بعد نزوح ثلاثة ملايين شخص من كردستان الجنوبيّة نحو إيران وتركيّا عبر الجبال الوعرة وفي ظروف مناخيّة قاسية جدّاً. انتهى الحظر مع بداية التدخُّل الأمريكيّ العسكريّ والحلف الدّاعم له في العراق عام 2003. كما أصدر مجلس الأمن الدّوليّ قراراً مشابهاً في أيّار 1992 بفرض حظر جوّيّ في يوغسلافيا خلال حرب البوسنة والهرسك والتي استمرَّت من مارس/ آذار 1992 حتّى نوفمبر/ تسرين الثّاني 1995.
يُعَدُّ حظر الطيران أحد أشكال العقوبات التي يفرضها مجلس الأمن الدّوليّ التّابع للأمم المتَّحدة، والذي يتألَّف من 15 دولة، منها الأعضاء الدّائمون وغير الدّائمين، والدّول دائمة العضويّة هي خمسة دول وهي: (الصّين، فرنسا، الاتّحاد الرّوسيّ، المملكة المتَّحدة، والولايات المتَّحدة) ويَتُمُّ اتّخاذ قرار فرض الحظر بتصويت أغلبيّة الأعضاء، إذا لم تستخدم أيٌّ من الدّول دائمة العضويّة حقَّ النَّقض (الفيتو).
تَعتمد تركيّا بشكل أساسيٍّ على الطيران المُسيَّر لتنفيذ اعتداءات، أقَلُّ ما يمكن القول عنها، إنَّها “جبانة”، في استهداف القيادات المدنيّة والعسكريّة لقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة والإدارة الذّاتيّة والمجتمع المدنيّ.
عمليّاً؛ هناك حظرٌ جوّيّ يشمل الطائرات التُّركيّة والطيران الحربيّ السُّوريّ فوق شمال وشرق سوريّا حيث تتواجد القوّات الأمريكيّة، بينما سلاح الجَوّ الرّوسيّ يسيطر على الأجواء في شمال غرب سوريّا، بتغطيةٍ من منظومات صواريخ “S – 400″، وكذلك الدِّفاعات الجوّيّة السُّوريّة الرّوسيّة الصنع، وحتّى الإيرانيّة من طرازات “بانسير” ضُدَّ الأهداف القريبة، ومنظومات “بوك” للارتفاعات المتوسِّطة، وهي موجودة بكثافة حول مدينة حلب واللّاذقيّة وحماه مثلاً، وكذلك منظومات صواريخ “S – 200″ و”S – 300” ضُدَّ الأهداف البعيدة، وقواعدها موجودة في العمق السُّوريّ.
في شرقيّ الفرات، هناك حظرٌ جوّيٌّ للطيران السُّوريّ والايراني وحتّى التُّركيّ من قبل التَّحالف الدّوليّ بقيادة الولايات المتَّحدة وفرنسا. لكن الذي يحدث هو دخول الطيران المُسيَّر التُّركيّ لأماكن قريبة من الحدود لتنفيذ اعتداءات شبه يوميّة، يبدو أنَّ التَّحالف الدّوليّ “يتفهَّمها” ضُمناً بموجب اتّفاقات سرّيّة مع تركيّا.
ما هي منطقة حظر الطيران وماذا يعني فرضها؟
عادةً يبدأ إنشاء منطقة حظر الطيران إمّا بصدور قرار جماعيٍّ من مجلس الأمن، وهذا لن يحدث بسبب حِدَّةِ صراع الدّول الغربيّة التي تملك حقّ الفيتو بمجلس الأمن، وهي فرنسا وبريطانيّا والولايات المتَّحدة، مع روسيّا والصّين، أو بإعلان التَّحالف الدّوليّ أو روسيّا فرضه من جانب واحد وبدون قرارٍ دوليٍّ، بالإعلان رسميّاً وعمليّاً عن عدم السَّماح للطائرات الحربيّة والمُسيَّرات التُّركيّة بالتَّحليق فوق شمال سوريّا، وهذا ما يحدث بالفعل في شمال غرب سوريّا.
يمكن للتَّحالف الدّوليّ أن يعلن رسميّاً إغلاق المجال الجوّيّ في شمال شرق سوريّا، لكنَّ الشَّيطان يكمن في التَّفاصيل كما يقول المثل، أي أنَّ الحيلة ستكون في تطبيقه غصباً عن إرادة اردوغان وجنرالاته.
لفرض منطقة حظر طيران دون التَّنسيق مع تركيّا؛ سيتعيَّن على التَّحالف الدّوليّ أو روسيّا مواجهة تركيّا بشكل مباشر، مثلما حدث في خريف عام 2015 بعد اسقاط طائرات F16 تركيّة لقاذفة قنابل روسيّة من طراز سوخوي” Su – 24″ فوق منطقة جبل التُّركمان.
حينها استشاط الرّوس غضباً وطلب بوتين من النّاتو أن يلجم “كلبه المسعور”، وبعدها فعَّلت روسيّا دفاعاتها الجوّيّة بقوّة، باستقدامها لمنظومات دفاع جوّيّ متطوّرة لمطار حميميم، منها منظومة صواريخ “S – 400” مع جلب مقاتلات التفوَّق الجوّيّ “Su – 35″، وتحدّى بوتين علناً الطيران التُّركيّ بالدّخول إلى الأجواء السُّوريّة.
اليوم؛ أيُّ عمليّة حظر جوّيّ سيتضمّن نصب دفاعات جوّيّة مرموقة واستخدام طائرات الجيل الخامس الأمريكيّة للتفوَّق الجوّيّ من طرازي الشَّبح مثل الـ “F35″ و”F22” وطائرات الإنذار المبكِّر، وبشكل مكثّف، أو مقاتلات التفوّق الجوّيّ الرّوسيّة من طراز “su – 35” من الجيل “4++” في المنطقة لمواجهة مقاتلات “F16” التُّركيّة من الجيل الرّابع، حيث تملك تركيّا نحو /300/ طائرة مقاتلة، كُلُّها من هذا الطراز الذي أوَّل ما ظهر في نهاية السَّبعينات. عندها سيتمُّ إسقاط أيّ طائرة أو درون تركيّة اختارت تحدّي منطقة حظر الطيران عمداً.
رُبَّما يكون المفهوم الخاطئ الأكثر شيوعاً حول منطقة حظر الطيران، هو أنَّها تدبير أقَلُّ تكلفة من الحرب، في حين أنَّها في الواقع ستُدخل التَّحالف الدّوليّ أو روسيّا في قتالٍ مباشَرٍ مع القوّات التُّركيّة في حالت خرق الطيران التُّركيّ العمق السُّوريّ دون إذنٍ مسبق.
للقيام بإغلاق المجال الجوّيّ السُّوريّ والحصول على التفوّق الجوّيّ؛ سيحتاج التَّحالف إلى القيام بطلعات جوّيّة مكثَّفة، بطائرات تنطلق من دول الخليج وحاملات طائرات بالبحر الأحمر والخليج، ورُبَّما نصب منظومات باتريوت في شمال شرق سوريّا، وسيستغرق الأمر تكاليف باهظة، أو حتّى استخدام صواريخ كروز الباليستيّة والهجوم الأرضيّ لضرب مطارات تركيّة وقواعد الدِّفاع الجوّيّ التُّركيّة القريبة من الحدود، في حال حدوث اشتباك مباشر، ممّا قد يؤدّي إلى وقوع مواجهة مباشرة، لا تملك معها قوّات التَّحالف الدّوليّ قوّات أرضيّة كافية لردع الهجمات التُّركيّة البرّيّة وهذا لن يحدث أبداً.
لكنَّ روسيّا، وإيران والجيش السُّوريّ ليسوا عاجزين عن القيام بذلك في شمال غرب سوريّا على الأقلِّ، وقد حدث ذلك بالفعل في بداية 2020 عندما تَمَّ دحر المعارضة المُسلَّحة المتمثّلة بتنظيمات القاعدة وأخواتها التّابعة لتركيّا وطُرِدَ الجيش التُّركيّ من مناطق واسعة شمالي حماه وحول حلب وجنوب وشرق إدلب، بهجوم كاسح.
بمعنى آخر، مواجهة أردوغان من قبل التَّحالف الدّوليّ لن يكون مثل محاربة صدّام حسين وفرض حظر جوّيّ شمال وجنوب العراق بعد حرب الخليج الأولى عام 1991.
ما مدى احتماليّة تَحَرُّك الولايات المتَّحدة وحلفائها فعليّاً لإنشاء منطقة حظر طيران فوق شمال شرق سوريّا؟
منطقة حظر الطيران يمكن أن تؤدّي بسهولة إلى نشوب حرب بين دول ضمن النّاتو ضُدَّ تركيّا، ثاني أضخم جيش في ذات الحلف، ولذلك فمن غير المرجَّح أن يفرض التَّحالف ذلك. بدلاً من ذلك تلجأ الولايات المتَّحدة إلى طرق غير مباشرة للتَّهديد بمعاقبة أردوغان دبلوماسيّاً واقتصاديّاً وعسكريّاً. حدث هذا عندما هدَّدَ ترامب بتدمير الاقتصاد التُّركيّ في حال تجاوز الخطوط الحمراء المرسومة لأردوغان في خريف 2019.
ماذا تفعل الولايات المتَّحدة لدعم حلفائها في (قسد) ومعارضة الغزو التُّركيّ والاعتداءات التُّركيّة السّافرة، مع تجنُّب المواجهة العسكريّة المباشرة مع تركيّا؟
رُبَّما تقوم الولايات المتَّحدة وحلفاؤها بتقديم إغراءات لإقناع تركيّا بالتوقّف عن عدوانها، وإلا سيفرضون عقوبات على الاقتصاد التُّركيّ المتهالك أصلاً، وخاصَّة القطّاع المالي. والهدف هو زيادة التَّكلفة التي تدفعها تركيّا مقابل السَّير خلف عنجهيَّتها. إنَّه سؤالٌ مفتوحٌ عمّا إذا كانت هذه الإجراءات ستكون كافية لردع أردوغان والمافيا التي تحيط به والتَّلويح بدعم المعارضة التُّركيّة للفوز بالانتخابات القادمة بعد أحد عشر شهراُ. وعلى نفس القدر من الأهميّة، تحتاج الولايات المتَّحدة وحلفاؤها إلى التَّفكير في خطوات تؤدّي لإسقاط النِّظام بتركيّا.
ما الذي يجب أن يعرفه الشَّخص العادي أيضاً عن تعقيدات المشهد السُّوريّ، خاصَّةً عندما يتعلَّق الأمر بدعوات فرض منطقة حظر طيران؟
الغضب من السُّلوك العدوانيّ التُّركيّ مفهوم تماماً لدى سُكّان المنطقة، كما هي رغبة في مساعدة شعوب شمال شرق سوريّا. ومع ذلك؛ فإنَّ القتال المباشر مع تركيّا خطيرٌ للغاية في الواقع. أيّاً كان المظهر السَّطحيّ لمنطقة حظر الطيران؛ فهو عمل حربٍ بنظر السّاسة والعسكريّين الأمريكيّين، يرون أنَّه يجب استبعاده لهذا السَّبب.
كُلَّما طال أمد التدخُّلات التُّركيّة؛ كُلَّما زادت خطورتها على الجميع. لهذا السَّبب، تحتاج جميع الأطراف إلى معرفة ما يمكن المساومة عليه ضمن أيَّة صفقة لكبح جماح الأطماع العدوانيّة التُّركيّة التّوسُّعيّة. لن تنتهيَ هذه الأطماع إلا عبر عقوبات رادعة ستدفع بالشَّعب التُّركيّ للإطاحة بأردوغان ومحاكمته مع المنظومة العدوانيّة التي تحيط به، والتي تبتَزُّ الرّوس والغرب معاً، باللَّعب على التَّناقضات الدّوليّة والإقليميّة واستغلال الأزمات ومآسي الشُّعوب في المنطقة لتحقيق مآربها الشَّريرة على حساب الشُّعوب المجاورة.
وذات يومٍ قال الكاتب اللّبنانيُّ الشَّهير جبران خليل جبران: “الأتراك أمَّةٌ انحطاطيّة لم تُبدِع شيئاً، لكنَّها أمَّةٌ تعرف فقط كيف تجدِّدُ المآسي لجيرانها”.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها