إيران وأمريكا وتصفية الحسابات في سوريا
جميل رشيد
دخلت المواجهة بين إيران والولايات المتّحدةالأمريكيّة في سوريّا مرحلة جديدة، مع الاستهدافات المتبادَلة بينهما عبر القصف الصّاروخيّ وبالطيران الحربيّ والمُسيّر، ما يُنذر بتصعيد غير مسبوقٍ، ويعبر عن فشل السِّياسة في معالجة القضايا الخلافيّة بينهما، وأوَّلها الملفَّ النَّوويّ الإيرانيّ.
الدّافع الإيرانيّ في تحريك المياه الرّاكدة، وفتح باب المواجهة مع الولايات المتّحدة، يأتي في سياق الردّ على الضربات المتتالية التي تَشُنُّها إسرائيل على مواقعها المنتشرة في الأراضي السُّوريّة. والعجز الإيرانيّ في الرَدِّ على الهجمات الإسرائيليّة، ما دفعها لشَنِّ هجمات على المواقع الأمريكيّة في خاصرتها الشِّماليّة بحقلي “العمر” و”كونيكو”، وكذلك في “رميلان”. وتسعى من خلالها إلى توسيع دائرة المواجهة، ما يدفع الأطراف إلى الدّخول في مفاوضات تفرض فيها شروطها، وأوَّلها إحراز تَقَدُّمٍ في الملفِّ النَّوويّ، وثانيها ضمان عدم استهداف إسرائيل لمواقعها في سوريّا.
الحسابات الإيرانيّة جاءت على عكس توقُّعاتها، فالرَدُّ الأمريكيّ جاء سريعاً وقويّاً، عبر استهداف مواقع الميليشيات التّابعة لها داخل مدينة دير الزور وفي ريفي البوكمال والميادين، وألحق أضراراً بالغة بها، منها تفجير مستودعات ذخيرة وأسلحة وصواريخ، إضافة إلى مقتل العشرات من عناصر ميليشيّاتها. وأعلنت الولايات المتّحدة أنَّ الرئيس الأمريكيّ أمر بتنفيذ ضربات ضُدَّ المواقع الإيرانيّة في سوريّا، بعد مقتل متعاقد أمريكيّ وجرح عدد من الجنود الأمريكيّين العاملين في سوريّا في قصف تبنَّته ميليشيا تطلق على نفسها اسم “لواء الغالبون” التّابع لإيران، وتوعَّدت في بيان لها بتنفيذ ضربات أخرى.
وقد أعلن الرَّئيس الأمريكيّ في تصريحٍ صحفيٍّ أنَّ بلاده لن تذهب إلى “صراع مع إيران، لكنَّها مستعدّة للعمل بقوّة لحماية شعبها”، وتوعّد بإجراءات إضافيّة لوقف الهجمات التي تستهدف القواعد الأمريكيّة في سوريّا.
ففي رسالة موجَّهة للكونغرس، قال بايدن إنَّ الولايات المتّحدة على استعداد لاتّخاذ مزيد من الإجراءات بحسب الضرورة، للتصدّي لمزيد من التَّهديدات أو الهجمات.
والتَّصعيد بين الطرفين على الأراضي السُّوريّة، يشير إلى تصفية الحسابات بينهما، وبما يلقي بتأثيراته المباشرة على السُّوريّين وأزمتهم المستمرّة منذ ثلاثة عشر عاماً. فمحاولات الولايات المتّحدة قطع الطريق أمام إيران للتمدُّد في المنطقة، ورغم تحذيراتها لها بضرب خطوط الإمداد التي فتحتها عبر العراق لإيصال الأسلحة والعناصر إلى سوريّا، إلا أنَّ إيران لم تأخذها بعين الاعتبار، وظَلَّت تحشد قوّاتها على مقرُبَةٍ من القوّات الأمريكيّة المتواجدة في شرقيّ دير الزور، وتُهدِّدُ باستهداف مواقعها الإستراتيجيّة. ويبدو من خلال سياق التَّصعيد من الجانب الإيرانيّ، أنَّها تأتي ضمن إطار التّفاهمات التي عقدتها أطراف أستانا في قِمَّةِ طهران التي عقدت في 19 يوليو/ تمّوز الماضي، واتَّفقت حينها الدّول الثّلاث “روسيّا، إيران، وتركيّا”على إنهاء التَّواجد الأمريكيّ في الجغرافيا السُّوريّة، والقضاء على الإدارة الذّاتيّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة.
فالإستراتيجيّة الإيرانيّة القاضية بمَدِّ سيطرتها على جميع المناطق السُّوريّة، أثارت مخاوف لدى الدّول الغربيّة وإسرائيل. بالمقابل عمدت إيران إلى تعزيز مواقعها والانتقال إلى طور المواجهات المفتوحة بدلاً من الدِّفاع وزيادة تحصيناتها، خاصَّةً ضد الضربات الإسرائيليّة لنقاط تمركز قوّاتها والميليشيّات التّابعة لها. فالسِّياسة التي تتَّبِعها الولايات المتّحدة هي تقليم أظافر إيران وليس الذِّهاب إلى مواجهة مفتوحة معها، حسب ما يُستدلُّ عليه من قول الرَّئيس الأمريكيّ، ما يؤكّد أنَّ الأمور، ومن كلا الطرفين، هي تحت السَّيطرة، وما الاستهدافات المتبادلة إلا مناورة هدفها إبراز قوَّة عضلات كُلٍّ منهما، ووضعها على طاولة المفاوضات للحصول على مكاسب أكبر.
كما أنَّ الولايات المتّحدة تشعر بانزعاج كبير من تعويم إيران في المنطقة، فالمصالحة التي رَعَتها الصّين قبل أيّام بين إيران والسّعوديّة، جاءت في الضُدِّ من المساعي الأمريكيّة فيالحدِّ من النُّفوذ الإيرانيّ في المنطقة. فالسُّعوديّة فشلت في إنهاء الصراع في اليمن وفق متطلبات مصالحها، وهو ما دفعها إلى مَدِّ يدها إلى إيران، والتَّمهيد بعودة العلاقات الدِّبلوماسيّة بينهما.
إنَّ الصراع على الأراضي السُّوريّة بين مختلف الدّول المتدخلة في أزمتها، يلقي بظلاله على الشَّعب السُّوريّ، ويطيل من أمد محنتهم التي يكابدونها، ولا أحد يبالي بآلام ومآسي السُّوريّين غير السُّوريّين. فالكُلُّ يبحث عن ضمان مصالحه في سوريّا التي مزَّقتها الحرب والإرهاب. واليافطة التي تعمل تحتها إيران، والزَّعم بأنَّها تعمل في الأراضي السُّوريّة بموجب دعوة مشروعة من الحكومة السُّوريّة، لا يُبرّر لها أعمالها العدائيّة ضُدَّ الشَّعب السُّوريّ ونشرها لفكر التَشيُّع في عدّة مناطق سوريّة، إضافة لنقلها صراعها مع الغرب إلى الأراضي السُّوريّة، وإدخال الميليشيات الشّيعيّة التّابعة لها إلى سوريّا، وخلقها صراعاً طائفيّاً على أراضيها. ويبدو أنَّ الغرب وخاصَّةً الولايات المتّحدة تتجاهل هذه المواضيعولا تعير اهتماماً لما تعمله إيران، بل تحاول ضبط سلوكها، وبما يجعلها ترضخ لشروطها في حَلّ الملفّ النووي، وأيضاً ضمان أمن إسرائيل.
إعلان الولايات المتّحدة عن نيّتها إنشاء بنك للأهداف الإيرانيّة في سوريّا، يشير إلى تصاعد وتيرة المواجهات بينهما، على الأقلِّ في المدى القريب المنظور، لضمان أمن قواعدها العسكريّة، وهو ما أشار إليها المتحدّث باسم البنتاغون “جون كيربي”، بأنَّه إذا استمرَّت إيران في تهديد أمن قوّاتهم وقواعدهم في سوريّا، قد تضطرُّ الولايات المتّحدة إلى اتّخاذ إجراءات إضافيّة. وتكهَّنت عدّة أطراف تراقب الأوضاع عن كثب، أنَّ الأخيرة قد تلجأ إلى زيادة عدد قوّاتها في سوريّا، إضافة إلى تزويدها بمنظومات دفاع جوّيّة متطوّرة وأسلحة حديثة. وفي هذا الصدد أشارت بعض وسائل الإعلام الأمريكيّة إلى السَّبب الكامن وراء عدم تفعيل منظومة الدِّفاع الجوّيّالأمريكيّة الموجودة حاليّاً في سوريّا أثناء استهداف إحدى مواقعها بطائرة مُسيَّرة إيرانيّة، ولم يقدّم أيّ من المسؤولين الأمريكيّين تفسيراً لذلك.
في حين أنَّ البعض قرأ الموضوع من زاوية المؤامرة، والزَّعم بأنَّ الولايات المتّحدة افتعلت هذه المواجهات لإطالة بقاء قوّاتها في سوريّا، ولزيادة عددهم، خاصَّةً أنَّ مسؤولين في البنتاغون أعلنوا أنَّ لا نِيَّةَ لديهم بسحب قوّاتهم من سوريّا. هذا الاعتقاد لا يستند إلى أيّ وقائع ملموسة على الأرض، والولايات المتّحدة ليست بحاجة إلى مسوِّغات وذرائع لبقاء قوّاتها في سوريّا، لطالما أنَّها لاتزال تعمل مع قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة في مكافحة تنظيم “داعش” الإرهابيّ.
والحكومة السُّوريّة لم تحرّك ساكناً إزاء ما يحصل، ولو أنَّه تحدوها رغبة شديدة في سحب الولايات المتّحدة قوّاتها من سوريّا، بل اكتفت بعرض صور القصف الإيرانيّ للمواقع الأمريكيّة، ويبدو أنَّ استئناف علاقاتها الدِّبلوماسيّة مع السّعوديّة عبر فتح الأخيرة قنصليّتها في دمشق، سيُلقي بتأثيراته على احتدام المواجهة بين الولايات المتّحدة وإيران في سوريّا.
ولكنَّ الولايات المتّحدة عوَّدت العالم على انتهاجها سياسة براغماتيّة إزاء العديد من الملفّات السّاخنة في العالم، خاصَّةً مع إيران. فقضيّة “إيران غيت” لاتزال في ذاكرة العديد ممَّن عاصروا تلك الفترة. ففي حين كان العداء على أَشُدِّهِ بينهما، كانت وزارة الدِّفاع والاستخبارات المركزيّة الأمريكيّة تَمُدُّ إيران بالأسلحة. ولا يُستبعد أن تكون هناك صفقة سياسيّة ما وراء هذا التَّصعيد غير المسبوق بينهما.
إلا أنَّ دهاء السِّياسةالإيرانيّة لا يدفعها نحو التهوّر والاصطدام مع القوى الكبرى، فدائماً تتّخذ إيران سياسة تجنّبها الوقوع في أفخاخ الدّول الغربيّة، وتستفيد من الثَّغرات والهفوات التي تقع فيها الولايات المتّحدة، فعدم وجود إستراتيجيّة واضحة للأخيرة أو ضعفها، استغلّتها إيران في التَمدُّد في المنطقة والتدخُّل في شؤون دول عديدة مثل العراق وسوريّا ولبنان واليمن، على غرار تركيّا.
فإن كانت الحرب هي استمرار للسياسة، ولكن بأشكال أخرى، حسب قول الخبير الإستراتيجيّ الألمانيّ “كلاوزفيتز”، فإنَّ ما لم تتمكَّن السِّياسة وضع حلول للمشاكل والقضايا العالقة بين إيران والولايات المتّحدة، فلن تستطيعَ الصَّواريخ والطائرات حَلَّها.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..