عندما الأسد يرفع سقف شروطه للمصالحة مع أردوغان
محمد عيسى
في بيئة مستجدّة تتنافس على تربتها، ومنذ أشهر قليلة، مبادرات عدة، يمكن تلخيصها بمبادرتين اثنتين؛ الأولى، روسية تستعين بإيران، لتمتلك زخماً كافياً، وتعتمد في جوهرها على إجراء تطبيع للعلاقات بين دمشق وأنقرة، وتسعى روسيا من خلاله إلى تمرير حل للصراع يجري وفق ما تخطط له السياسة الروسية، وبما يخدم مصالحها في تكريس محور أستانا المكونة أركانه من الروسي فالإيراني والتركي، والذي يُراد له أن يكون مدخلاً لمحور عالمي، تستميت روسيا لإيقافه على أرجله، ولتوظيفه فيما يزعم أنه جهد متواصل يُقصد منه كسر أحادية القطب في العلاقات الدولية. هذا الجَّهد الذي من أهم لوازمه، ومن ثم نقاط ضَعفه بقاء أنقرة فيه، حيث النجاح في ضمان ذلك يتطلب استمرار السياسة التركية الحالية، والذي يقضي بنجاح حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان في الانتخابات القادمة بعد أقل من شهرين من الآن.
والثانية؛ مبادرة عربية تحدثت عنها الأردن قبل فترة، وبَلورَتها مؤخراً الخارجية السعودية في بنودها العشرة. والتي تدور نقاطها حول تعهد النظام بتطبيق القرار الأممي /2254/ في إطار عملية سياسية، من شأنها بالنهاية تغيير النظام، ثم قبوله بانتشار قوات عربية على الحدود الدولية السورية، تمهيداً لعودة اللاجئين، والعمل على رفع العقوبات، والمساهمة العربية في تمويل إعادة الإعمار، إضافة إلى الالتزام بتقليص النفوذ الإيراني، ومنع انتشاره في المنطقة الجنوبية، وعلى الحدود الأردنية بشكل خاص.
وبالمجمل هاتين المبادرتين كانتا على طاولة البحث قبيل زيارة الرئيس السوري إلى موسكو مؤخراً، وكان رأس النظام قد أظهر الكثير من التردّد والحذر حيال المبادرة الأولى وفي العديد من المحطات. ولأنه هو والرأي العام والشعب السوري في غالبيته ينظرون إلى الدور التركي بعين الشك والريبة والضلوع المكشوف بخلق الأزمة السورية، ورعاية الإرهاب الجاري، إضافة إلى احتلال الأراضي السورية، وكان في محاولته التنصل من دواعي اللقاء مع أردوغان، الذي أظهر الكثير من الاستعجال لإطلاق عملية سياسية تؤدي إلى حل مسألة اللاجئين واستثمارها في كسب ودّ الناخبين، كان الأسد يسعى إلى تأجيل هذا اللقاء إلى ما بعد الانتخابات التركية التي ستجري في أيار القادم، لعدم قناعته بتقديم هذه الجائزة لأردوغان وقد لاحت علامات هزيمته الانتخابية، سيما وأن المعارضة التركية كانت في تواصلها معه قد تعهدت بالانسحاب غير المشروط من الأراضي السورية ووقف دعم الإرهاب والتعويض في حال فوزها.
كانت هذه رؤية الأسد عشية الزيارة إلى موسكو، ليبلورها في اللقاء الصحفي مع الصحافة في جملة من المواقف والشروط عالية السقف، في موقف يحاكي المثل “من لا يريد أن يزوج بنته يرفع مهرها”، حيث وضع شرطاً أمام أردوغان، وهي جملة شروط محرجة بالنسبة لأردوغان وفاضحة لنواياه، والتي لا يستطيع تنفيذها وعلى رأسها التعهد بالانسحاب الكامل من الأراضي السورية، ووقف التدخل في الشأن الداخلي السوري، والتراجع عن اختلاس حصة سوريا من مياه نهري دجلة والفرات وو..
وفي خطوة لافتة؛ تحدث بإيجابية عالية إلى دور المملكة العربية السعودية وامتدح حيادها في الفترة الأخيرة حيال الصراع القائم، مما يشير إلى أن ميول الأسد أكثر وضوحا لترجيح كفة القبول بالمبادرة العربية.
يبقى السؤال الأهم على ضوء ما تقدم؛ ما هو موقف موسكو من كل ذلك، وما هو موقف الرئيس بوتين الذي طالما كان هو صاحب المبادرة في تطبيع العلاقات بين سوريا وتركيا، والخارجية الروسية هي من كانت قد أعدت للقاء نواب وزراء خارجية البلدين في منتصف مارس/ آذار الحالي على أن يكون لقاءً رباعياً تحضره أيضاً إيران وروسيا. لا شك بأنه موقف لافت، بألا تمارس روسيا ضغطاً كبيراً من أجل إتمام ولادة ناجحة لقضية التطبيع المطروحة. وبالمقابل كانت، وبحسب ما عكسته وسائل الإعلام العالمية، أن الزيارة قد أحيطت بكثير من الحفاوة والاهتمام، فما السر في تراجع الشهية الروسية لإتمام ما كانت تنوي القيام به؟
فليس مستبعداً أن تكون القيادة الروسية قد رصدت وصلة أردوغانية في الرقص على المقلب الآخر، وعلى الخشبة الأمريكية بالذات. ولا عجب في ذلك، فهو من اعتاد على تغيير أقنعته عندما يريد، ولا غرابة في الأمر أن يكون الزلزال الأخير والتداعيات التي تركها على الوضع التركي قد حشرته في الزاوية، ودفعته إلى إلقاء أوراقه اليائسة إلى الحضن الأمريكي، أو ربما قد يكون وقع في الأفخاخ الأمريكية، وتلقّى وعوداً بمساعدته في زيادة فرصه بالانتخابات القادمة، لقاءَ رفعه حق الفيتو لمنع انضمام فنلندا إلى حلف الناتو، ثم لتطوير دوره لصالح التحالف الأطلسي في الحرب الأوكرانية مع روسيا. كل ذلك أصبح وارداً في الحسابات الروسية وخاصة بعد تلقيه مدحاً أمريكياً على مواقفه من الخارجية الأمريكية على أثر الزيارة التي نفذها الناطق باسمه “إبراهيم كالن”، والتي قاد خلالها المباحثات بشأن صفقة انضمام فنلندا إلى الناتو.
أما الإشارة إلى تلمس برودة، أو ملامح شك من قبل الروس حيال أردوغان، فليست رجماً بالغيب، بل يمكن للمراقب أن يلمسها في بروز نغمة جديدة في الصحافة الروسية وكررتها مواقع عديدة، تقول إن لروسيا حقاً تاريخياً في بعض الأراضي والجزر التركية.
وعليه يمكن البناء لتكوين رأي يقول بأنه قد تكون نضجت إرادة دولية لحصول تسوية في الأزمة السورية، وأن جو التبريد هو السائد في أزمات المنطقة وهو الأكثر ترجيحا، وخاصة بعد نجاح الدبلوماسية الصينية في تلطيف الأجواء بين السعودية وإيران، وأن روسيا قد تكون أعطت ضوءاً أخضراً لتمهيد الطريق أمام المبادرة العربية ليأسها من نجاح مبادرة المصالحة معه وليأسها منه، ولأن مناخ المنطقة بعد جو الزلازل والحديث الدائم في تحدياتها أيضاً، صارت أكثر استحقاقاً لإحداث اختراق جدّي تنهي الأزمة وتضع حداً للمعاناة بسببها.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..