أردوغان بين يدي هرم “خوفو”
جميل رشيد
تُطرَحُ جملة من التساؤلات حول الزِّيارة التي قام بها وزير الخارجيّة التركيّ مولود جاويش أوغلو إلى مصر، وآفاق العلاقات المصريّة – التركيّة التي شهدت توتُّرات عديدة، وصلت لحَدِّ القطيعة، بعد دعم تركيّا لجماعة الإخوان المسلمين، ودعمها لنشاطاتهم في مصر.
لا شَكَّ أنَّ تركيّا اتَّبعت سياسة متخبِّطة وغير محسوبة العواقب في علاقاتها مع محيطها الإقليميّ بالدَّرجة الأولى، وكذلك مع الدّول الغربيّة، خاصَّةً اندلاع ثورات الرَّبيع العربيّ، وتَمسُّكها بورقة تنظيم “الإخوان المسلمين” في كُلٍّ من تونس ومصر وليبيا وسوريّا، نظراً للخلفية الإيديولوجيّة التي تجمع الرَّئيس التركيّ أردوغان وحزبه مع الإخوان، واعتقاداً منهم بإمكانيّة وصول الإخوان إلى السُّلطة في جميع البلدان التي اندلعت فيها حركات الاحتجاج ضُدَّ الأنظمة.
إلا أنَّ حسابات حقل أردوغان لم تنطبق على بيدره، خاصَّةً بعد الضربة الكبيرة التي مُنِيَ بها التَّنظيم في مصر بعد وصول الرَّئيس سيسي إلى سُدَّةِ الحكم، وإعلانه حركة “الإخوان” تنظيماً إرهابيّاً محظوراً عن العمل في الأراضي المصريّة، ما حدا بها للعمل في السُرِّ، عبر نشر خلاياها الإرهابيّة وحتّى دعم تنظيم “داعش” في مصر وخاصَّةً في سيناء.
ظَلَّت تركيّا تدعم حركة “الإخوان” وتنافس مصر على النّفوذ في ليبيا، وفي البحر الأبيض المتوسِّط للسَّيطرة على الغاز والنَّفط المكتَشَفِ فيه. فيما حافظت مصر على سياسة متوازنة في التَّعامل مع المواقف التُّركيّة الدّاعية إلى زوال الحكم المصريّ، وتسليم مقاليد الأمور إلى حركة الإخوان. فلم تتراجع مصر عن شروطها في عمليّة تطبيع العلاقات مع تركيّا، المتمثّلة بسحب تركيّا دعمها عن الإخوان وتسليم القيادات لها، إضافة إلى إغلاق كافة منابرهم الإعلاميّة التي تعمل في تركيّا.
يبدو أنَّ تركيّا انصاعت للضغوط المصريّة وقَبِلَت بشروطها، حيث سلَّمت عدداً من قيادات الإخوان، إضافة لإغلاقها عدداً من وسائل الإعلام التّابعة له، ولولا تنفيذها لتلك الشّروط لما ارتضت مصر أن تُعيدَ علاقاتها الدِّبلوماسية معها، وتستقبل وزير خارجيَّتها، تلك الزِّيارة التي سبقها لقاء بين الرَّئيس سيسي وأردوغان في قطر أثناء تصفيات بطولة كأس العالم لكرة القدم.
ولكن هل يمكن اعتبار أنَّ الانعطافة التركيّة نحو مصر والإمارات العربيّة المتّحدة والسُّعوديّة، وأخيراً نحو سوريّا، بأنَّ تركيّا عادت إلى رُشدها، وباتت تتلمَّس الأخطاء الكبيرة التي ارتكبتها خلال السَّنوات العشر الماضية في معاداتها لدول المنطقة، أم أنَّ أردوغان لجأ إلى تحسين علاقاته مع دول جوار، كجزء من حملته للفوز في الانتخابات القادمة، أم أنَّ ضغوطاً غربيّة ما وخاصَّةً أمريكيّة، تُمارس عليه في سبيل الكفِّ عن ممارسة نهج التَّصعيد في المنطقة، بعدما حوَّلها إلى منطقة ملتهبة تَعُجُّ بالصراعات الطائفيّة والمذهبيّة، وهل يستطيع أردوغان من خلال تركيبة نظامه ونمط تفكيره والإيديولوجيّة الدّينيّة المتزمّتة والمترسّخة لديه أن يتخطّى كُلَّ تلك العقبات التي خلقها لنفسه، ويصل إلى بناء علاقات ندّيّة متوازنة مع محيطه الإقليميّ، ومن يدفع أكلاف الدَّمار الذي خلَّفه في تلك الدول عبر تدخُّله الفظّ وحتّى المباشر، إن كان في سوريّا أو ليبيا أو مصر أو العراق، وهل ستقبل تلك الدّول عبر أنظمتها الحاكمة الصَّفح عنه، ودونما أيّ محاسبة؟
إنَّ الإجابة عن تلك الأسئلة وغيرها، يتطلَّب بالدَّرجة الأولى معرفة ماهيّة العلاقات الدّوليّة السّائدة، وإمكانيّة أردوغان الاستفادة من الثَّغرات التي تتخلَّلها، إضافة إلى مدى توافقه مع النِّظام العالميّ الجديد الذي يُراد له أن يسود ويُهيمن في المنطقة والعالم.
لا نُفشي سرّاً إن قلنا إنَّ معظم أنظمة المنطقة تَستمِدُّ قوَّتها واستمراريَّتها من مراكز القرار العالميّ، وهي بغالبيّتها غير مدعومة من شعوبها التي تُعاني الأمرَّين من سلوكها، وهو ما يفسّر اندلاع حركة الاحتجاجات ضُدَّها، فقلَّما نجد نظاماً في الشَّرق الأوسط يتمتّع بشعبيّة واسعة ويحظى بتأييد من شعبه. نقول هذا ولا ننساق وراء نظريّة المؤامرة التي يعتقد الكثيرون أنَّها حاضرة في كُلِّ مفصل من مفاصل الحياة السِّياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة وحتّى الاجتماعيّة في بلداننا. إلا أنَّنا في ذات الوقت نجد أنَّها – أي أنظمة الحكم في الشَّرق الأوسط – أقرب إلى السّيناريوهات السائدة، وأبرز مثال على ذلك النِّظام التُّركيّ. ولا نُريد أن نفتح صندوق “الباندورا” لنكتشف مفاجآت كانت حتّى الأمس القريب مغيَّبة عن شعوب المنطقة، إلا أنَّ التَّذكير بها قد يفيد في تفسير ما يحصل حولنا.
فإن كانت تركيّا تبحث عن مساحات أخرى كي تكفِّر فيها عن ذنوبها وتُعدّل من نهجها وسياساتها تجاه مصر والدّول الأخرى، فالأحرى بتلك الدّول أن تأخذ جانب الحيطة والحذر من سياسات أردوغان التي عوَّدتنا على الانقلاب حتّى على أقرب حلفائه وأنصاره. اندفاعة أردوغان في “التَّكويع” نحو مصر ودول الخليج؛ جاءت بدافع تخفيف أزماته الخانقة التي يَمُرُّ بها في الدّاخل التركيّ، وأيُّ انفتاح عليه قد يعيده إلى الحياة مَرَّةً أخرى، خاصَّةً بعد كارثة الزلزال التي ضربت كُلّاً من تركيّا وسوريّا. وفي سبيل إنقاذ نفسه ونظامه؛ فهو يُبدي استعداده على المصالحة حتّى مع الشيطان، وقبول جميع شروط الدّول، رغم أنَّه حتّى الأمس القريب كان يُطلق التهديد والوعيد لها، إن كانت مصر أو سوريّا.
الحكمة السِّياسيّة التي اتّسمت بها السِّياسة المصريّة في وقتنا الرّاهن، والمستمدَّة من عراقتها وباعتبارها العمق الإستراتيجيّ في منطقة الشَّرق الأوسط، ولها وزنها كدولة محوريّة، تجعلها في موقع يؤهِّلُها أن تقود المنطقة نحو بَرِّ الأمان، وليس كما كان يتصوَّر أردوغان في البداية. وهذه النّقطة الأكثر أهميّة، والتي يُدركها أردوغان ونظامه جيّداً، فباتت تركيّا بحكم المنقاد وليست القائدة. ويمكن لسوريّا، ومن خلال الاستناد إلى عمقها العربيّ، وخاصَّةً المصريّ والسُّعوديّ، أن تُحدِثَ اختراقات مُهمّة في مسار مفاوضاتها مع تركيّا، وبالتّالي الضَّغط عليها وحَملِها على تنفيذ شروطها في الانسحاب من الأراضي السُّوريّة، ووقف دعمها للإرهاب الذي يضرب مصر وسوريّا وكُلّ المنطقة، والابتعاد عن الضُّغوط التي تُمارس عليها من قبل روسيّا وإيران في ملفِّ المصالحة مع النِّظام التُّركيّ. وعودة سوريّا إلى محيطها العربيّ؛ ستُساهم، دون أدنى شكٍّ، في تقوية موقفها في مفاوضات مستقبليّة مع تركيّا وحتّى مع الدّول الغربيّة أيضاً.
كُلّ الاعتقاد أنَّه لا يمكن فصل المسارات السِّياسيّة في المنطقة عن بعضها، في ظِلِّ الصراعات العديدة التي تشهدها، فإتمام المصالحة مع مصر، ستفرض معادلة جديدة، يمكن لها أن تعزِّزَ الموقف السُّوريّ، وتُمهِّدَ لتطوّرات لاحقة، يمكن البناء عليها في نزع يد تركيّا من سوريّا، وإعادة الأمن والاستقرار إليها.
يعيش النِّظام التُّركيّ بقيادة أردوغان أضعف مراحله، ولا يجب أن ينخدع أحد بالبروباغاندا الإعلاميّة له، فتدهور قيمة اللَّيرة التُّركيّة أمام الدّولار وصلت إلى أعلى مستوياتها، فيما زادت كارثة الزلزال من حِدَّةِ التذمُّر لدى الشَّعب التُّركيّ تجاه أردوغان وحكومته، حيث تشير آخر استطلاعات الرَّأي في تركيّا إلى انخفاض شعبيّة أردوغان وحزبه قُبيل الانتخابات، إلى جانب انعكاس تدخّلاته في دول الجوار سلباً عليه وعلى الشَّعب التُّركيّ، ورغم ذلك لايزال يُفكِّرُ بمخرج له عبر دول الجوار والخارج.
الثّابت أنَّ أردوغان لن يتمكَّنَ من ثَني مصر على الانسياق وراء طموحاته في منحه قوة سياسيّة يستعيد بها ما فقده خلال السَّنوات المنصرمة على تدخُّله في شؤون مصر وتأليبه حركة “الإخوان المسلمين” الإرهابيّة ضُدَّها، بقدر ما ستحاول مصر تطويع أردوغان وإرغامه على تلبية شروطها في قطع دابر حركة الإخوان، وتسليم ما تبقّى من قياداتها إليها، وهذه أولى شروط مصر، وسينفّذها أردوغان ودون أن يَرُفَّ له جَفنٌ أو يذرف دمعة على الإخوان. هذا الموضوع يسري على إخوان سوريّا أيضاً، حيث سيدفع بهم أردوغان إلى المحرقة ويحوّلهم إلى كبش فداء من أجل إتمام المصالحة مع الحكومة السُّوريّة في قادم الأيّام.
خارج سياق العلاقات السِّياسيّة، ستغدو جميع الاتّفاقيّات التِّجاريّة والاقتصاديّة متمّمة لها، وستستحوذ مصر على حصَّةِ الأسد من أيّ اتّفاقيّات توقَّعُ بينهما مستقبلاً.
إنَّ أيَّ تعويم لنظام أردوغان في المنطقة، بالتأكيد سيتُمُّ على جُثَّة تنظيم “الإخوان المسلمين”، إن كان في مصر أو السُّعوديّة ودول الخليج عموماً، وأخيراً في سوريّا، فهل سيتخلّى أردوغان عنهم، ويرمي به في أحضان الأنظمة التي تحاربها، أم “ستعود حليمة إلى عادتها القديمة”، مثلما يقول المثل الشَّعبيّ الدّارج، وينقلب أردوغان على جميع دول الجوار ويُنهي المصالحات معها، بمجرَّدِ فوزه في الانتخابات؟
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..