حرفيو الشرقيات في دمشق يصارعون لاستمرارها
يصارع العم أبو سامي “اسم مستعار” للحفاظ على مهنته في صناعة الشرقيات السورية والإبقاء على محلّه في سوق الحميدية الذي توارثه مع المهنة عبر مئة وخمسين عاماً عن أجداده، بينما لم يستطع الكثير من أًصحاب هذه المهنة الحفاظ عليها.
لم تعد معظم لافتات المحال المخصصة لبيع الشرقيات تدل على ما فيها.
فغالبية هذه اللافتات أصبحت تؤدي إلى محالٍ تبيع الثياب أو الحلي أو “الشرقيات الحديثة”، وهي نوعٌ من الشرقيات التي تحافظ بشكلٍ تقريبيّ على الأسلوب الشرقي في الصناعة، مع استخدام أنواعٍ “أرخص” من المواد الأولية وإضافة لمساتٍ شعبية على المنتجات.
يقول أبو سامي عن هذه الصناعات “الشرقية الحديثة”، بأنها: “تشويهٌ للفن الدمشقي اليدوي وتسخيفٌ لحرفة صناعة الشرقيات”.
ويضيف: “اليوم تستخدم الورشات المهنية الحرق على خشبٍ رديء والطباعة الفورية عليه، بينما نستخدم الحفر اليدوي على أفخم أنواع الخشب وتعتيقه بالصدف البحري الأصلي وبالأحجار الكريمة الأخرى، وحتى إذا نظرنا إلى أكثر الصناعات الشعبية الدمشقية الطرابيش فإنه على الحرفي اختيار أنواعٍ محددةٍ من الأقمشة والخيوط ودرزها بشكلٍ معين حتى تبقي على أصالة الطربوش الدمشقي، غير أنهم اليوم يحوّلونه لقبةِ رأس سخيفةٍ”
لا يملك حرفيو دمشق وتجارها خياراتٍ كثيرةً، فجودة الإنتاج تتناسب طرداً مع التضخّم الاقتصادي وقلّة التصريف، إذ يقول لنا العم محمّد “اسم مستعار” وهو حرفيّ يعمل في الشرقيات منذ سبعٍ وأربعين سنة، غير أنّه قسم محلّه إلى جزأين الأول يعمل فيه للحفاظ على تراثه الممتد منذ مئة وخمس عشر سنة والآخر يعمل فيه ابنه ويبيع عبره “الشرقيات الحديثة” أو “الستوك” على حسب تعبيره.
ويقول: “اضطررتُ لفعل ذلك حتى أعيش وأطعم أطفالي، أولادي بدأوا يشعرون بأن أعظم حرفةٍ دمشقية مجرّد تعلّق سخيف بالماضي ولا تطعم خبزاً، وهذه ليست مجرد تراثٍ اقتصادي بل مصدر فخري، لقد تعلّمت الحرفة من أبي مذ كان عمري إحدى عشرة سنة وفعلت ذلك مع ابني غير أنه لم يعد يشعر بأنها حرفةٌ تستحقّ التعب”.
ويضيف بالقول: “بالطبع فإن هذا حقّه، لأننا كنا نصدّر أعمالنا إلى جميع الدول وكان السياح يتهافتون على بضائعنا لأن السوريين وتحديداً الدمشقيين هم أبرع الأشخاص في العالم بهذه الحرفة، لكن لا يوجد اليوم غير أبناء هذه البلد الذين يفاضلون بين أولويات حياتهم الرئيسية، إذ جاءني أبٌ اشترى لتوّه بنطالاً واحداً لكلا ابنتيه حتى تتبادلانه في المناسبات بأي عينٍ سأقنعه بشراء صندوقٍ من خشب الجوز المضاف إليه خشب الورد والصدف البحري بمبلغٍ يحتاج قرضاً لتأمينه؟”.
ويشير إلى أنه “الآن يعمل ابني ليصرف علينا وأعمل أنا على الطلبيات الخاصة حتى لا أشعر بأني تخلّيت عن الحرفة، لكن أكثر ما يؤلمني هو أني عندما أموت مع زملائي قد تموت الحرفة معنا ولا سبيل لإنقاذها”، بهذه الكلمات تحدث العم محمّد محاولاً ألا يبكي.
ويتابع: “يبيع ولدي الشيء الرائج لأنه الوحيد الذي يقع ضمن قدرة السوريين على الشراء وبهذا يصرف علينا، أما أنا أريد أن أموت وأنا اجلخ الخشب”.
وبالعودة إلى العم أبو سامي، فيقول بأن التحويل من حرفة إلى أخرى يعني فشلاً اقتصادياً مريعاً وذلك لامتلاكه مجموعةً ضخمةً من القطع التي تقدر بالملايين ولا يمكن بيعها كلّها أو الاستغناء عنها.
ويضيف: “نعتمد اليوم على الإنترنت للترويج لمنتجاتنا ونبيع أغلب القطع عبر تطبيق الواتساب، غير أن ذلك لا يكفي، ودون عودة حركة التصدير لا يمكن أبداً أن تستمر أي حرفة يدويةٍ أصيلة، لأنها تعتمد على موادٍ أوليةٍ مرتفعة السعر، ولا يتحمل تكلفتها المواطن السوري غير أن المغتربين والسياح يستطيعون شراءها نظرًا لفرق العملة الكبير، فإذا قلنا بأن صندوقاً تكلفته 600 ألف ليرة سورية لموظفٍ سوري يعني أننا نقول له بأن قطعة واحدة تعادل راتبه ثلاث مرات على الأقل، بينما بالنسبة لشخصٍ مغتربٍ أو سائح فإنه يساوي أقل من مئة دولار وليس صعباً أن يشتريه”.
مع استمرار التضخم الاقتصادي وصعوبة تأمين المواد الأولية وانخفاض حركة البيع والشراء، يواجه الكثير من أصحاب الحرف الشعبية مشاكل كبيرة لاستمرار أعمالهم وحفاظهم على هذه المهنة.
ويرى أبو سامي: “هذا النوع من الحرف يحتاج إلى سنين طويلة لإتقانه، لذلك لا يمكن إنقاذ هذه الحرف عبر ورشاتٍ تدريبية تستمر لبضعة أيامٍ أو أسابيع، وليتعلّم شخصٌ ما هذه الحرفة عليه أن يكرّس وقتاً منتظماً من يومه للعمل فيها، حتى يتمكن من أداء مهامه بحرفيةٍ وسرعة، وليفعل ذلك يجب على صاحب الورشة أن يكون مقتدراً مالياً لتعويضه وهذا ما يصبح أكثر صعوبةً مع الأيام”.
يعرف أهالي السوق بعضهم بعضاً ويحاولون تنفيذ خطط علاجٍ مستمرةٍ للحد من تأُثيرات “الأزمة” وما رافقها من اضطراباتٍ وتغييراتٍ لم يعودوا قادرين على تحمّلها، فيما يكبر الخوف لديهم مع الوقت من أن تُمحى الحرف الدمشقية من المستقبل السوري.
إعداد التقرير: أورنينا سعيد